عادت إسرائيل بخفَّي حنين نتيجة التصعيد الأمني الأخير، الذي بدأته في مواجهة قطاع غزة على خلفية «حرب الطائرات الورقية». خفي حنين لم تحملهما في يدها، بل صفعاً على وجهها، في ظل العودة إلى ذي بدء، وإلى النقطة الابتدائية الأولى، والتعادل بعد تصعيد وتهديد بحرب لا تُبقي ولا تذر، وبعد إخفاق لا لبس فيه في تحقيق النتائج، وهو كلّه ما يُعَدّ هزيمة نكراء لإسرائيل، مهما حاولت تجميل الصورة لاحقاً، والتغطية على الفشل.قبل الإعلان غير الرسمي للفشل الإسرائيلي، كان الإعلام مليئاً ومشبعاً بالتصريحات الدالّة على التهديد وحتمية استمرار الهجمات «غير المسبوقة» وفق التعبير الذي جرى تداوله إلى أن يتحقق الهدف من التصعيد: إيقاف إطلاق الطائرات والبالونات الحارقة. وفق رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو: «إن لم تفهم حماس الآن، فسوف تفهم غداً»، في إشارة منه إلى مواصلة الهجمات وتصاعدها، وصولاً إلى إخضاع غزة. في مقابل نتنياهو، أطلّ جملة من الوزراء ليلة السبت - الأحد على شاشات التلفزة، معبِّرين عن التوجه نفسه: لا تهدئة بلا نتيجة، والنتيجة الوحيدة الممكن أن تُنهي التصعيد، وقف «إرهاب الطائرات الورقية».
رئيس أركان جيش العدو، غادي أيزنكوت، كان أكثر صرامة في تصريحاته وشروطه لإنهاء التصعيد: ما لم يأتِ حل سياسي خلال الساعات القليلة المقبلة، فسنزيد شدة الهجمات، إذ لا تهاون بعد اليوم. هو أيضاً ما عبّر عنه مصدر أمني رفيع المستوى عبر وسائل الإعلام العبرية كافة: الهجمات لن تتوقف ما لم تنتهِ ظاهرة الطائرات الحارقة.
إلى جانب ذلك كله، حرصت إسرائيل عبر إعلامها، على تأكيد توثب الجيش لفعل كل ما يمكن، وضمن كل السيناريوهات المتصورة، لإفهام قطاع غزة أن التصعيد هذه المرة يختلف عن سابقه، وأن إسرائيل لن تنهيه دون أن تحقق النتيجة. وكان لافتاً، كعنصر تهديد في مشهد إعلامي مشبع بالتهديات، بيان صادر عن الجيش الإسرائيلي يؤكد فيه تنفيذ مناورة واسعة النطاق شاركت فيها وحدات متعددة من الأذرع العسكرية كافة، حاكت سيناريو احتلال بري للقطاع، الأمر الذي عُدَّ رسالة تهديد عملية، ربما أشارت إلى توثب وإلى مقدمة فعل مقبل.
بعد أيام مشبعة بالتهديدات، عاد الصمت الإسرائيلي يسود المشهد بلا تهديدات. صمت عبّر عن فشل، وفشل يعبّر عن هزيمة قياساً بالقدرات العسكرية بين الجانبين. تراجعت إسرائيل ومعها أهدافها، وتحولت المعركة من تهديدات وتظهير اقتدار وتوثب، في محاولة لإخافة الفصائل الفلسطينية وصولاً إلى إخضاعها، إلى معركة جبر وتحسين صورة الانكسار، التي هذه المرة لم يجارِها الإعلاميون بصورة كاملة.
اللافت هو التسريب الكاشف للتطابق بين المؤسسة العسكرية والسياسية وأيضاً الإعلامية، كجنود في تحقيق الأجندة الموضوعة وتنفيذها للمصالح الأمنية لإسرائيل، تطابق دال على النظرة الذاتية للإعلام العبري بوصف نفسه محلاً لوظيفة يجب تأديتها لتحقيق هذه المصالح، وليس جهة تعمل على كشف الحقائق، في وظيفة تتموضع جنباً إلى جنب مع وظيفة المؤسستين العسكرية والسياسية. هذا الواقع القائم في الكيان الإسرائيلي ملموس ومفعل تجاه القضايا الأمنية مع تسليم كامل من الإعلاميين. لكنه أيضاً يجب أن يكون حاضراً لدى الساسة ومتابعي الشأن الإسرائيلي والمحللين ومن يبني تقويماته على ما يرد من إسرائيل، لا في ما يتعلق بجبهة غزة والداخل الفلسطيني فحسب، بل انسحاباً على جبهات أخرى أكثر دلالة وحضوراً في المقاربة الإسرائيلية، التي هي مجبولة وأكثر تطابقاً بما يرتبط بالوظيفة والأهداف، بين التصريحات والأفعال والتقارير الإعلامية العبرية، سواء لجهة جبهتي لبنان وسوريا، أو الجبهة الأم الأبعد: إيران.
الحرب اللاحقة التي خاضتها إسرائيل في أعقاب فشل التصعيد الأخير في غزة كانت الحرب الصورة، حرب قادتها في مواجهة الجمهور الإسرائيلي، وكذلك في مواجهة الجانب الثاني من الحدود، إن لجهة القطاع وجمهوره وفصائله المقاومة، أو لجهة قوى وجمهور باقي الجبهات الاخرى، حرصاً ومحاولة منها لتظهير كامل لواقع الانكسار في مواجهة الجبهة الأكثر ضعفاً، كما تصفها، ومنعاً لتداعيات سلبية أكثر في مواجهة الجبهات الأكثر اقتداراً. وفي ذلك، برزت التوجهات التي أصدرتها وزارة الأمن إلى السياسيين، وهي محددات أمرت بضرورة ووجوب مراعاتها والتشديد عليها في التصريحات والمواقف والتحليلات الإعلامية، وجاءت على الشكل الآتي (ضمن تقرير النشرة المسائية عن الأحداث على القناة 13 العبرية، أول من أمس):
- التشديد على أن «حماس» دفعت ثمناً باهظاً جداً جراء التصعيد الأخير مع غزة الذي هو الأعلى منذ عملية «الجرف الصلب» عام 2014.
- الجيش جاهز ومستعد لمواجهة كل السيناريوهات النظرية الممكنة، وفي حال الحاجة سيكثف هجماته ووتيرة عملياته.
- ضرورة التشديد على أن «حماس» تحتجز سكان غزة رهائن.
- ضرورة التشديد على أن كل عمليات «حماس» وسياساتها فاشلة ولم توصل إلى نتائج.
- مراعاة سكان مستوطنات «غلاف غزة» والتركيز على «صمودهم ودورهم البطولي»، وكل ما يؤدي إلى تعزيز معنوياتهم وتقويتها بعد الهجمات التي تلقوها أخيراً.
وبالعودة إلى التصريحات، يشار إلى تصريحين لنتنياهو، والمقارنة في ما بينهما كافية، وقد صدرا قبل وقف إطلاق النار وفي أعقابه: الأول: «سنوسع الرد كلما تطلب الأمر ذلك، وإذا حماس لم تفهم الرسالة، فستفهم ذلك غداً». أما الثاني، فهو: «يوجد هنا تبادل ضربات، هذا لا ينتهي بضربة واحدة». لكن شدة وقع الفشل منعت عدداً من المعلقين من مسايرة التوجهات الرسمية. مثلاً، يذكر معلق الشؤون العربية في موقع «واللا»، آفي يسسخاروف، الآتي: «ما حدث مع إسرائيل في تصعيدها الأخير في غزة هو المصداق الأبلغ للمثل العربي القائل: تيتي تيتي، متل ما رحتي، متل ما جيتي». ويضيف: «هذه هي النتيجة في نهاية التصعيد، وهي شبيهة تماماً ببدايته».