خالد جمعة *يومياً، بل كل ساعة، ينشر أحد الفايسبوكيين أو إحداهن، صورة على جداره لمتوفٍّ من مخيم اليرموك مات جوعاً، ويطالبون الضمير العربي أو العالمي بأن يصحو ليساعد أهل المخيم المحاصر. كل ذلك وسط بكاء وعويل وعبارات تجرّم من لا يقف بجوار هذا المخيم الذي طحنته الحرب، لدرجة أن بعض النساء فيه عملن بنات ليل ليوفرن لقمة الخبز لأولادهن، ولدرجة أن بعض الناس ماتوا جوعاً.
فكرتُ بدايةً في أن أكتب مقالة بعنوان: «اعتذار لمخيم اليرموك»، ولكني قلت في نفسي: عمّ أعتذر؟ بل عمّ يعتذر أي فرد من «الشعب الفلسطيني»؟ وكلمة الشعب الفلسطيني هنا لا تشمل قياداته بالطبع، ولا تشمل كذلك قيادات الأحزاب الفلسطينية، وخصوصاً اليسارية.

فلو فكّر أحد هؤلاء في أن يستغل علاقته المميزة بالحكومة في سوريا، لاستطاع أن يجنب المخيم الكثير من المآسي، ولكننا لا نفكر إلا في حزبنا، وما يمكن أن يعود عليه، فلماذا نأخذ الناس في الاعتبار؟ في الوقت الذي يمكننا فيه أن نستخدم موتهم وجوعهم وبردهم كدعاية إعلامية قد تكسبنا المزيد من المؤيدين؟
شاهدنا جميعاً أطفالاً في أفريقيا يموتون أمام الكاميرات بعظامٍ ناتئة ووجوه فيها أسئلة لم يجب عنها أحد. في القرن الحادي والعشرين أطفال يموتون من الجوع، وأثداء أمهاتهم جافة كأعشاب الصيف، لا ماء فيها ولا حليب، واعتقدنا جميعاً أننا نتفرج على مشهد بعيد، لن يحدث لنا أو لأقربائنا أو في محيطنا؛ لأن الموت له أسباب معروفة في بلادنا: قصف بالطيران، أو قتل، أو موت بالمرض، أو حتى بالغاز الكيماوي، أو بالتعذيب في أقبية سجون الأنظمة القمعية. ولم يرد الجوع كسبب للموت، على الأقل خلال نصف القرن الماضي، فأي فرق يحدثه الموت جوعاً، عن الموت قصفاً تحت ظروف الحرب التي تشتعل في سوريا؟
إن أطفال المجاعة يموتون بسبب قلة الطعام. أما في مخيم اليرموك، فالموت جوعاً لم يكن بسبب قلة الخبز، بل بسبب استحالة الوصول إليه، وهذا يعد من ضمن تداعيات الحرب، وبالتالي، إن أي موت في ظل الحرب، حتى لو كان موتاً طبيعياً، من المفروض أن يصنّف على أنه موت بسبب الحرب، بغض النظر عن طبيعة هذا الموت، والرفض يجب أن يكون للحرب ذاتها التي تمزق سوريا، دون الالتفات إلى سبب أو إلى طريقة الموت.
من جانب آخر، لماذا التركيز على مخيم اليرموك بالذات؟ وهل يقل المواطن السوري الذي يموت من البرد والجوع أهمية، أو أولئك الذين يسقطون صرعى بين المتقاتلين دون أن تكون لديهم فرصة للنجاة؟ هل يقلون درجة أو أهمية عن المواطن الفلسطيني الذي يسقط بسبب الجوع أو بسبب سقوط قذيفة في مخيم اليرموك؟ والسؤال الأهم، هل كل من يسكنون مخيم اليرموك هم فلسطينيون؟
الصراع الدائر في سوريا، وبعد عامين على بدايته، يأكل الأخضر واليابس، يأكل السوري والفلسطيني واللاتيني إن كان موجوداً على أرض سوريا. الحرب لا تميز بين هذا وذاك، والهجرة من سوريا أصبحت مغامرة مكلفة بالنسبة إلى الجميع، فأي تذكرة إلى جهنم يحملها من يقيم على الأراضي السورية؟
هذا ليس تقليلاً من شأن ما يحدث في مخيم اليرموك، لكن ما يحدث في سوريا يصيب الجميع، ولا أعتقد أن هناك وقتاً لمؤامرة صغيرة هنا أو هناك؛ لأن الموت يطاول الجميع من الجميع، ولأن الجوع يطاول الجميع من الجميع، ولأن المال الذي يُدفع لشراء الأسلحة والولاءات قد يكفي عشره لإطعام جميع السوريين في كافة أماكن وجودهم. لكن، مَن يفكر في إطعام الناس في ظروف الحرب؟ وإذا كانت هذه الحرب قد اشتعلت من الأساس لتهرس سوريا في مفرمة الشرق الأوسط الجديد، فمن ذا الذي يكترث بمن يموت هنا أو هناك؟ فكما تعرفون، كل نظام جديد يستوجب التضحية، وأية تضحية أسهل من التضحية بنساء وأطفال وشيوخ على مذبح نظام جديد سيكون أكثر قمعاً ودموية من أي نظام عرفته البشرية من قبل. هل يملك أحد إجابة عن هذا؟
مخيم اليرموك الفلسطيني يعاني، يموت سكانه تحت القصف وبسبب الجوع والمرض وانعدام العلاج، يموتون حتى بسبب الضغط النفسي والقهر والعجز وانعدام الأمل. لكن انظروا إلى حال الفلسطيني في غزة أو الضفة الغربية؛ فهو لا يمكنه أن يفعل شيئاً! حتى لو استطاع أن يجمع تبرعات مالية وعينية للمخيم، فمشكلة المخيم ـ كما ذكرت ـ لا تكمن في توفير الطعام لسكانه، بل في إيصالها لهم، فلو استطاع سكان مخيم اليرموك الوصول إلى الطعام، لما مات أحد من الجوع.
كما للشعب الفلسطيني مأساته، فإن للكثير من الشعوب مآسيها، وحين لا نبدي التعاطف مع مآسي الشعوب الأخرى، فلا حق لنا في أن نلومهم حين يقفون صامتين تجاه ما يجري لنا، بمعنى آخر، لسنا الضحية الوحيدة في هذا الكون.
لا يعني انتقاد الشعب الفلسطيني في أي مرحلة من مراحل التاريخ، ولا في أي مكان، أن من ينتقد قد تجرد من فلسطينيته أو أصبح على النقيض؛ فالنقد في أحيان كثيرة يأتي من الرغبة في أن يكون الظرف أفضل والمسلكيات أكثر رقياً، فلا يضع أحد نفسه في مكان الله كي يحكم على البشر، ليس فقط لأنه لا أحد خالٍ من العيوب، بل لأن الدنيا وجهات نظر، وسياقات، وما لم نؤمن بهذا فإننا لن نكون أبناء الحياة مهما كانت صورتنا أمام أنفسنا.
*كاتب فلسطيني




قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إن «موضوع اليرموك واضح. هنالك من يسمون أنفسهم مقاومة، أية مقاومة هذه؟ من تقاوم ومن تحارب؟ من دخل المخيمات خونة للقضية ولشعبنا. لا علاقة لنا بما يجري، رغم أننا لا نتأثر فقط، بل نتألم لما يحدث في أي بلد عربي. لكن لا دخل لنا في هذه المشاكل والأحداث. إن لم تكن لدينا كلمة خير فلنصمت، وإذا أراد الفلسطينيون أن يقاتلوا، فمعروف أين يقاتلون، وليس في اليرموك. كنا نتمنى على الجماعات المسلحة أن تبتعد عن المخيمات، لكن المبلغ المدفوع لهم أكبر من الخروج من المخيم، علينا مساعدة أهلنا هناك لأنهم جزء منا».