«صون المرأة والأمن المائي شرطان أساسيان لبناء السلام». يمكن لهذه الجملة أن تتسبّب بالضحك، للوهلة الأولى، قبل أن تتحوّل إلى موضوع فيه الكثير من الجديّة؛ فبعض العناوين قد تتطلب وقتاً طويلاً لـ«تُهضم» في العقل. من هذه النقطة تحديداً، بدأت المناضلة الفلسطينية، منال التميمي، بشرح تجربتها، وذلك خلال لقائها مع «الأخبار» على هامش مشاركتها في ندوة عقدتها الإسكوا، أخيراً، حول الموضوع.لم يكن الضحك هذه المرّة بلا سبب. ولعلّ الأمر كلّه مرتبط بمفهوم «السلام» الذي خلّفته ترسّبات «أوسلو» في الذاكرة الفلسطينية، والذي بات بفعل الاتفاق الموقّع بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل عام 1994 نكتة سمجة لا تحتمل. ومع أنّ مضمون الندوة وما رمت إليه مناقشاتها بريء من هذا كله، ظلَّ الرابط العجيب بين الكلمات الثلاث (المرأة المياه والسلام) بمثابة «ثقب أسود»؛ حتى تحدّثت التميمي عن تجارب من فلسطين، كاشفة عن قصص نساء فيها من الإبداع المقاوم ما قد يضيء «عتمة» الضفة الغربية المحتلّة بأكملها.
في الواقع، منال هي واحدة من ضمن خمس عشرة امرأة شاركنَ في الندوة، واللواتي جئن من دول عربية مختلفة تعاني ويلات الحروب والدمار والاحتلال، من بينها السودان، ومصر، والأردن، ولبنان، واليمن، وسوريا، والعراق. بالنسبة إلى منال، كانت زيارة بيروت «حلماً» بعيداً، فهي تنحدر من قرية النبي صالح، وتحمل اسم عائلة التميمي، التي تشكّل مصدراً لتهمة أمنية جاهزة على حواجز ومعابر الاحتلال. أمّا مشاركتها في الندوة فلم تقتصر على عرض أرقام وإحصائيات، كحال بعض المشارِكات الأخريات، بل تحدثت عن تجربتها الميدانية التي ربطت فعلياً بين الأمن المائي، في منطقة مقبلة على وقتٍ قد يصبح فيه الحصول على مياه بمثابة «معجزة»، وبين صون النساء الفلسطينيات في ظل الاحتلال، وتمكينهنّ بما هو ضروري للتشبّث بأرضهن لكونهن رأس الحربة في الدفاع عن حقوق شعبهن في وجه الاحتلال الإسرائيلي.

مياه الضفة: البقاء كصراع على الوجود
«المياه في المنطقة العربية ستصبح يوماً ما سلعة نادرة»، ليست هذه افتتاحية مشهد «هوليوودي» يروي قصة عن نهاية الحياة على كوكب الأرض بدءاً من المنطقة، وإنما هي صافرة إنذار أطلقها الأمين التنفيذي لـ«لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا» (إسكوا)، محمد علي الحكيم. غير أن المنطقة المذكورة، منشغلة بصراعات إقليمية وداخلية معقّدة، بات فيها الحديث عن مشكلة المياة بمثابة «ترفيه» عند البعض. إضافة إلى ما سلف، فإنّ الدول العربية لم تضع خططاً أو استراتيجيات تصون أمن سكّانها المائي في مستقبل قد يصبح فيه الصراع السياسي هامشياً، أمام الصراع على شرب المياه!
في الضفة، يبدو الأمر مختلفاً، أقلّه أن المرض ليس «وراثياً»، إذ إن الاحتلال الإسرائيلي هو جوهر المشكلة، وذلك بفعل مصادرته الأرض وما في داخلها من آبار جوفية وارتوازية لمصلحة المستوطنات، والتي كانت ستحقّق الأمن المائي لأهلها... ولو إلى حين.
تشرح التميمي، وهي باحثة قانونية، ومنسّقة العلاقات الخارجية في «لجنة المقاومة الشعبية» في الضفة، أن في قريتها، النبي صالح (على سبيل المثال لا الحصر)، هناك يوم واحد في الأسبوع تصل فيه المياه إلى البيوت، وفقط لمدّة 12 ساعة، وهو ما يعني أن الأشغال البيتية ذات العلاقة بالنظافة يمكن أن تتمّ في يوم واحد فقط. في المقابل، يتم الحصول على مياه الشرب المعدنية بأسعار باهظة من المحال التجارية.
من يحدّد ساعات توزيع المياه على القرى؟ وما هو السبب في هذا الشحّ؟ تجيب التميمي إنّ «السلطة الفلسطينية هي من يحدد الأوقات، في حين أن إسرائيل هي من يحدد أنه مقابل كل 45 بئراً جوفية للمستوطنين، يحصل الفلسطينيون على 300 بئر». الرقم الأخير يبدو أضعافاً مضاعفة مقارنة بالأول. مع ذلك، تشير التميمي إلى أن «الآبار الممنوحة للفلسطينيين هي آبار جافّة تقريباً، أمّا الآبار الممنوحة للمستوطنين فهي غنيّة بالمياه».
بالإضافة إلى ذلك، تنوّه التميمي إلى أن التصاريح الممنوحة للفلسطينيين من أجل حفر الآبار «تكون في مناطق لا يوجد فيها مياه عادة»، فضلاً عن أنه في حال اكتشف الاحتلال أنه يوجد مثلاً داخل أحد الآبار ما قيمته عشرة آلاف كوب من المياه، يعمَد إلى مصادرة البئر فوراً. هذا ليس كل شيء، فجدار الفصل العنصري قضَم الأراضي التي تعتبر خصبة بالمياه، وحتى أن مساره حُوّل في بعض الأحيان لما يتوافق مع المصلحة الإسرائيلية لناحية الآبار الجوفية والارتوازية.

أطراف مبتورة... في سبيل المياه!
الواقع المأساوي يعاني منه 80 في المئة من السكان الفلسطينيين في الأغوار. غالبية هؤلاء هم من البدو، ويقيمون في تجمعات سكنيّة تتعرض للاقتلاع والتهجير والهدم يومياً. بحسب منال، فإن مصدر الرزق الأساسي لهذه التجمعات السكانية هو الثروة الحيوانية والزراعية، إذ يعتمدون في الأساس «على تربية المواشي وزراعة أراضيهم بالفاكهة والخضراوات، وهو ما يستوجب تأمين كمية كبيرة من المياه. وأحياناً يكلف الحصول على خزّانات المياه ما قيمته 250 دولاراً أميركياً شهرياً، وهو استنزاف لمدخولهم الشهري البسيط». رغم كل ذلك، لا يتركهم جنود الاحتلال بسلام، فبالإضافة إلى بناء المستوطنات بالقرب من تجمعاتهم بغيّة محاصرتهم، يُجري الجنود تدريبات ومناورات في منطقتهم بهدف إخافتهم لإجبارهم على ترك أرضهم والرحيل إلى مكان أكثر أماناً.
ولتأمين الحياة في هذه التجمعات، فإن الحمل الأكبر يُلقى على كاهل النساء، فهنّ من يقطع مسافات طويلة لتعبئة غالونات المياه. وفي كثير من الأحيان يتعرضن للمضايقات من الجيش الإسرائيلي، فضلاً عن أن حياتهن معرضة للخطر. «كثيرات تعرّضن للإصابات نتيجة مخلّفات التدريبات من قنابل لم تنفجر أو ألغام زرعت هناك بينما كُنّ يحاولن الحصول على المياه، وبعضهن بترت أطرافهن نتيجة ذلك»، تشرح التميمي التي عملت أيضاً في «مركز المرأة للإرشاد القانوني وتوثيق الانتهاكات ضد المرأة».
بدأت التميمي إذاً مع نساء يعشن في ظل الاحتلال، ومجتمع بدوي محافظ، يهمّش إلى حدٍّ ما دور المرأة اجتماعياً ويقصيها عن المشاركة في مناحي الحياة السياسية والاقتصادية. «بداية كنا نتعامل في المركز مع نساء يفتقدن للثقة بأنفسهن، والقدرة على المشاركة في الدورات الإرشادية... لاحقاً بعد ورشات عمل كثيرة بتن يبادرن إلى طرح الأفكار والمشاريع لمواجهة واقعهن المعيشي». وعن طريق جمعيات غير حكومية، استطاعت منال وسبعة آخرين من رفاقها تأمين عدد من الألواح التي تعمل على الطاقة الشمسية لعدد من هذه التجمعات. الأمر الذي مكّن من التغلب على مشكلة وصول التيار الكهربائي، وكل ما له صلة بوصول المياه إلى تلك المناطق عن طريق سحبها وشفطها من الآبار بواسطة محركات.

كرم عنب وبيت بلاستيك «عدّة» مقاومة
على ثلاثين دونماً من التراب تعيش عائلة فلسطينية مكوّنة من ثلاثة أفراد: أب وأم وابن. الموقع: في قلب أكبر تجمّع استيطاني إسرائيلي والمعروف باسم «غوش عتصيون» والذي يضمّ 23 مستوطنة بدأ تشييدها منذ عقود، إلى أن أنهت هدفها كامتداد جغرافي مكمّل للقدس الكبرى، وفي الوقت نفسه فصل جنوب الضفة الغربية عن شمالها.
للصورة المكبرة: أنقر هنا

تحول بيت العائلة الصغيرة إلى «سجن»، لا يبرحه أصحابه خوفاً من دخول المستوطنين للاستيلاء عليه! بحسب منال، «تعرّضت العائلة الفلسطينية للمضايقات، والترهيب، كما عُرض عليها البيع مقابل مبالغ طائلة... ولكنها في النهاية آثرت التشبث بالأرض». ولأن ربّ الأسرة لا يمكنه ترك البيت وبالتالي العمل خارجاً، فإن «لجنة المقاومة الشعبية»، استطاعت تأمين اشتال كروم عنب. وهكذا على امتداد الدونمات الثلاثين زُرعت الأرض عنباً. «درّت الأرض محصولاً كبيراً من العنب وورق العريش، ما مكّن الأسرة من إنتاج عصير العنب، ودبس الحصرم وغيرهما من المنتجات، وهو ما أمّن مدخولاً سنوياً كبيراً للأسرة»، تشرح التميمي. وتضيف «كنّا نساعده في بيع محصوله، وحققنا بذلك جوهر المقاومة الشعبية التي نخوضها وهدفها كان مساعدة العائلة على البقاء في أرضها».
أمّا في قرية النبي صالح، فقد هُددت قطعة أرض بالمصادرة، ما دفع «لجنة المقاومة الشعبية»، وفي مقدمتها التميمي إلى المسارعة للبحث عن تمويل لتأمين بيوت بلاستيكية. هكذا قضت الخطة، و«جنّدت» لتنفيذها خمس نساء (اثنتان هما زوجتان لشهدين، واثنتان زوجتا أسيرين، وأرملة). وفي قطعة الأرض هذه أُنشئت بيوت بلاستيكية لتربية النباتات من دون استخدام أي مواد كيميائية. وفق التميمي، «أعجب الناس حتى من خارج القرية بفكرة تربية النباتات عضوياً، وباتوا يقصدون البيوت البلاستيكية لشراء حاجاتهم من الخضار والفاكهة، وهكذا استطعنا حماية قطعة الأرض من المصادرة، وتمكين النساء من تحصيل رزقهن وذلك قبل أن يقذف الجيش الإسرائيلي بأكثر من 50 قنبلة غاز ويحرق البيوت في النهاية!».

عائلات النبي صموئيل «تُخلل» بقاءها
للصورة المكبرة: أنقر هنا

800 عام هو عمر مسجد النبي صموئيل، الذي سُمّيت القرية الواقعة إلى الشمال الغربي من مدينة القدس باسمه (أي إن عمرها أكبر من عمر إسرائيل بثمانية قرون و30 عاماً). هي موجودة هناك قبل أمور كثيرة لم نسمع بها حتى، وقبل الحربين العالميتين، وقبل الاستعمار... والأكيد أنها موجودة قبل المستوطنات الأربع التي تحيط بها، وقبل الجدار الذي حوّلها عام 2011 إلى سجن يحاصر 170 فلسطينياً (عشرون عائلة). هؤلاء لا يستطيعون الخروج أو الدخول إلى قريتهم إلا بتصريح من الاحتلال، ويعيشون ظروفاً أشبه بظروف الحكم العسكري، كما يُمنعون من إدخال الطعام وحاجاتهم اليومية إلا بإذن من الأخير.
ولأن أراضي القرية مسلوبة جميعها فلا يسمح لهم بزراعتها أو العمل فيها. وفي حين تبقى للسكان قلة قليلة من الدونمات أمام منازلهم المتواضعة، تمثلت تجربة المقاومة الشعبية في القرية، بزراعة النساء لهذه المساحات القليلة بالخيار والبندورة وغيرهما من أجل صنع المخللات، للاستهلاك الأسري وللبيع. «عن طريق جمعيتين غير حكوميتين وهما نوفاك الإسبانية، وكوربا الألمانية استطعنا تمويل حفر آبار بالقرب من البيوت لاستخراج المياه من أجل الزراعة، وقمنا بإعطاء النساء دورات إرشادية حول كيفية الاستفادة من المشاريع»، تشرح التميمي. لكنها تضيف أن الاحتلال تمكّن من القضاء على المشروع وتهديد الجمعيتين قبل أعوام، ما اضطر إحداها إلى سحب شراكتها. قبل ذلك كانت النساء يعشن ظروفاً حياتية قاسية، مصدر الرزق هو أقلّها. إذ إن القرية مهملة تماماً من الناحية الخدماتية والصحية والتعليمية، وهو ما يؤثر على النظافة العامة والشخصية ونظافة البيوت.

نساء النبي صالح: إكسير المقاومة الشعبية
«وهل يخفَى القمر؟» هكذا قد يجيب أحدهم عندما يُسأل من شخص من قرية النبي صالح «بتعرفها أو سامع فيها»، في إشارة إلى القرية؛ فتاريخها يسبقها، والسبب هو نضال أهالي القرية ومقاومتهم الشعبية المستمرة منذ عشر سنوات. بالإضافة إلى ذلك، هي أقرب ما تكون إلى عائلة كبيرة من كونها قرية، حيث لا يتجاوز عدد ساكنيها الـ600 نسمة، جميعهم من آل التميمي.
ما هو «سِرّ» القرية الذي مكّنها من الاستمرار في المقاومة من دون توقف؟ وابتكار الأساليب الجديدة في كل مرة؟ «نحن نعيش بالفعل عائلة واحدة والجميع يعرفون بعضهم بعضاً. الكل أصهرة وأقرباء وأنسباء، وليس عندنا تفرقة جندرية، بخلاف قرى أخرى مجاورة لنا. أطفالنا وطفلاتنا يسبقوننا إلى التظاهرات والنساء يسبقن الرجال والشباب».
وتتابع: «منذ عام 2009 ننظم تظاهرات أسبوعية لمناهضة الجدار واسترجاع أراضينا، لا نقوم بذلك عفوياً بل كل تحرّك منظم ومخطط له. وهناك لجنة للفعاليات في القرية مكوّنة من أربعة رجال وثلاث نساء، يجتمعون أسبوعياً للبحث في طرق وآليات وعنوان التظاهرة». وتضيف أن «تجربتنا وصلت إلى العالم كلّه، وتصدّرت عناوين الصحف. والسبب في ذلك، ليس كما يروّج له - فنحن لا نستغل أطفالنا لإيصال رسالتنا- نحن أصحاب حق مؤمنون به، ونؤمن بقوة الصورة... فمثلاً يعرف العالم عموماً صور أشلاء الفلسطينيين، ودماء الشهداء، ومقاومين يحملون الأسلحة. هذا مهم جداً وهو أسمى طرق النضال، ولكن إلى جانب هذه الصور لما لا نحكي عن حياة الشهداء أنفسهم؟ عن حياة عائلاتهم ما بعد استشهادهم؟ ماذا كانوا يفعلون؟ ولماذا استشهدوا أصلاً؟... ومن هذا المنطلق بات العالم كله يعرف عهد التميمي وغيرها من أطفال النبي صالح».
على سيرة عهد التميمي، كيف تربون أطفالكم؟ فما قامت به عهد خلال فترة اعتقالها هو أمر غاية في الشجاعة والوعي؛ حيث بقيت صامتة طوال فترة التحقيق. تجيب منال: «أطفالنا يخافون كالباقين، ولكن نحن كأمهات نعلّم أولادنا بأن الخوف من الجنود الإسرائيليين أمر طبيعي، لكن عليهم التحكم في كيفية خوفهم... وطبعاً نعطيهم دروساً في ذلك وورش عمل ونستعين بخبراء وقانونيين ليشرحوا لهم عن حقوقهم في فترة الاعتقال والأساليب التي يتبعها المحققون الإسرائيليون».