قدّم البنك الدولي تقريراً جديداً للجنة الاتصال المخصصة، وهي الهيئة السياسية المسؤولة عن الإشراف على مساعدات التنمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويأتي في هذا التقرير أنّ الفلسطينيين ازدادوا فقراً في العام 2017 وأن كل الاحتمالات تقضي بتواصل الركود الاقتصادي في 2018. ويبدو الوضع في قطاع غزة أكثر إثارة للقلق حيث تدهورت الظروف الاقتصادية في العقدين الأخيرين، حيث يعاني سكانه من أزمة نقص المياه والكهرباء وانهيار الخدمات الاجتماعية الأساسية.في هذا السياق، يؤكد «البنك» على ضرورة تعزيز مساعدات الجهات المانحة حتى تخفف من وطأة هذه الأزمة الإنسانية. لكن التقرير يشير أيضاً إلى أن هذه المساعدات لا يمكن أن تعوّض التزام جميع الأطراف بمعالجة العوائق المختلفة التي تثقل كاهل النشاط الاقتصادي الفلسطيني. بعض التدابير التي يقترحها في هذا الشأن تتعلق بعوائق توصف بالـ«خارجية» أي أنها نابعة من الإدارة الإسرائيلية. أما التدابير الأخرى، فهي تسعى للتخفيف من وطأة العوائق «الداخلية» والتي تقع تحت مسؤولية السلطة الفلسطينية.
■ ■ ■

صحيح أن علماء الاقتصاد التابعين للبنك الدولي اعتادوا من خلال تقاريرهم التنديد بالقيود المختلفة التي تفرضها إسرائيل - حيث يعود بعضها إلى عام 1967 - التي تسببت في تشوه وتآكل الجهاز الإنتاجي الفلسطيني. وتعددت الدعوات الموجهة للإدارة الإسرائيلية ببذل المزيد من الجهود لتحرير إمكانات النمو الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا سيما، هذه المرة، من خلال تسهيل دخول المواد اللازمة لإعادة بناء البنية التحتية في قطاع غزة، وزيادة عدد رخص البناء الممنوحة وإقامة مشاريع في المنطقة «ج» في الضفة الغربية (الخاضعة أمنياً وإدارياً بالكامل للسيطرة الإسرائيلية)، والتمديد في لائحة الواردات المتاحة في هذه المناطق وتسهيل تنقل الأفراد والبضائع.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فيدعوهم البنك إلى العمل على تقوية مؤسساتهم وعلى إنهاء الخلاف السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة والذي يمنع تنسيق السياسات ويزيد من تجزئة الفضاء الاقتصادي. كذلك يجب خاصة على السلطة الفلسطينية إصلاح المنظومة الضرائبية والحد من نفقات الموازنة حتى تخفض من اعتمادها على المساعدات، الأمر الذي يشغل الجهات المانحة. كذلك ينوي البنك الدولي الدفع بالطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى مزيد من التكامل الاقتصادي ما يستدعي تعزيز العلاقات التجارية بينهما وتسهيل تنقّل العاملين واستثمارات في صناعات تجمعهما وتهيئة بنى تحتية مشتركة.
من خلال هذه التوصيات، تروّج المؤسسة وليدة اتفاقية «بريتون وودز» لنموذج تنموي كرّسته بنفسها عندما بدأت نشاطها في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1993، والذي يظهر من خلاله أن إسرائيل تمثل في الوقت نفسه طرفاً في النزاع الجاري وشريكاً مميزاً في تنمية الاقتصاد الفلسطيني. لا يمكن أن تفاجئ هذه الازدواجية إلا المتتبع باهتمام للشأن الفلسطيني. على رغم ذلك، يمثل هذا التجاوز للواقع السياسي أحد خصائص خطاب البنك الدولي في معظم البلدان التي يتدخّل بها كما تظهر العديد من الأبحاث في هذا الشأن. ففي أغلب الأحيان، تلجأ المؤسسة إلى استعمال معجم تقني وملطّف ينتج منه تغييب للظروف الخاصة التي أحاطت بطبيعة تدخلها.
■ ■ ■

في الظرف الفلسطيني، يمكّن اللجوء إلى هذا المعجم تجاهل الواقع الاستعماري أو حتى تجاهل التداعيات العملية لانعدام السيادة الفلسطينية. بيد أن الاستيطان ومصادرة الأراضي والموارد والسيطرة على الحدود وعقود من السياسات الاقتصادية التي حددتها الإدارة الإسرائيلية غيّرت وشكّلت فعلياً النشاط الاقتصادي للفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. تصف الباحثة في علم الاقتصاد سارة روي هذه العملية باللاتنمية، وهو ما يجعل اقتصاد الأراضي المحتلة رهين الاقتصاد الإسرائيلي إلى اليوم وفي حالة تبعية. حتى أن هذا الوضع يفسّر حدة النقص وانهيار القطاعات الإنتاجية في قطاع غزة بعد الحصار الإسرائيلي منذ عام 2007.
من الصعب في هذه الظروف عدم الاكتراث بالبعد الاستراتيجي والجدلي للتدخلات في القطاع الاقتصادي، وذلك لارتباطه المباشر بقضايا السيادة والسيطرة والمقاومة والتمرد. لكن الغريب هو أن يفعل ذلك البنك الدولي من خلال تقاريره وتحليلاته. وفيها يظهر الاقتصاد الفلسطيني في صورة عالم شكلي وإجرائي تحدّه عدد من القيود ويتمتع بعدد من الموارد. وكذلك السلطة الفلسطينية التي تقدم على أنها وحدة مستقلة، لها عقلانيتها الخاصة وتتمتع بمرونة كبيرة، وتتطور بغض النظر عن العلاقات التي تربطها ببيئتها الخارجية، إن كان المجتمع الفلسطيني أو إسرائيل أو الجهات المانحة.
يظهر هنا توجه شبه مرضي يكمن في تحويله جميع العوامل إلى أغراض «التشييء»، سواء كان الاحتلال الإسرائيلي أو التنمية الاقتصادية أو بناء الدولة أو حتى المساعدات الدولية، فان هذا التشييئ يجعل البنك الدولي يتصرف مع هذه العوامل على أنها كيانات متجانسة، موحدة، ليس لها تاريخ أو تضاربات، تتفاعل مع بعضها البعض بطريقة مستقلة. وهكذا يصبح الصراع مجرد متغيّر سياسي خارجي يؤثر في الاقتصاد، وجب تجاوزه أو على الأقل الحد من آثاره السلبية من خلال المساعدات الدولية. أما الاقتصاد، فيتم استيعابه في صورة السوق المثالية، والتي تحكمها ممارسات معدّلة إن لم نقل منسجمة، ولا وجود فيها لعلاقات القوة.
■ ■ ■

في هذا السياق، يبدو حياد البنك الدولي السياسي أكثر منه موقفاً أيديولوجياً من ميوله إلى التسوية. يظهر ذلك في الصورة التي تقدمها المؤسسة عن نفسها وعن المساعدات الدولية والتي تقتصر على دورهما الفعال، كأن سبب وجودهما يختزل في الإجابة على حاجات الاقتصاد الفلسطيني من دون مناقشة أي انحياز سياسي أو اقتصادي. وينعكس غياب تفكير البنك الدولي حول نظامه الخاص في عدم قدرته على مساءلة طريقة عمله ومراجعة سياساته على رغم الفشل الفادح لتدخلاته في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولا وجود كذلك لأي نقاش حول تصورات التنمية المختلفة وشروطها، وهو أمر ليس بالثانوي إذا أخذنا في الاعتبار تاريخ هذه الممارسة في فلسطين خلال القرن الماضي.
حتى أيام الانتداب، كانت الإدارة البريطانية تسعى من هنا وهناك لدعم النشاط الاقتصادي للفلسطينيين وتحسين ظروف عيشهم، على أمل امتصاص الغضب الشعبي وبذلك التخفيض من التكلفة المالية والسياسية لحالة التمرد المزمنة. وستنتهج السلطات الإسرائيلية في ما بعد الطريق نفسه تجاه فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 ثم عام 1967. ويجب في الوقت ذاته منع تطور اقتصاد فلسطيني مستقل قد يشكّل قاعدة لنشاط سياسي معاد، كما تهدف هذه السياسة إلى تشجيع بروز نخبة فلسطينية متعاونة بينما يُتّهم مقاومو الاحتلال بعرقلة التنمية.
من جهتهم، قرر الفلسطينيون كذلك استعمال الوسائل الاقتصادية للصمود والمحافظة على حضورهم فقد أخذ النشاط الفلاحي والبناء والإعمار عندهم أحياناً بعداً سياسياً كي لا يتركوا مساحات فارغة قد تشغلها المستوطنات. وهكذا يصبح للتنمية معنى آخر هو الحد من التبعية تجاه المحتل الإسرائيلي والتعرض لمختلف الضغوطات وأشكال الإكراه. وقد عرفت هذه الحركة ذروتها أواخر الثمانينات، أي مع اندلاع الانتفاضة الأولى، وتظهر منذ سنوات بوادر عودتها خصوصاً في قطاع غزة.
■ ■ ■

المسألة إذاً هي التفكير بالتنمية الاقتصادية ليس فقط من منظور ارتباطها بتحسين مستوى المعيشة للسكان. كما أن الاحتلال الإسرائيلي، والصراع بشكل عام كما التبعية الفلسطينية للمساعدة الخارجية، كل هذه العوامل لا يمكن اعتبارها معطيات خارجية تؤثر في الاقتصاد، فجهود التنمية لا يمكن أن تكون إلا إجابة على قضايا حقاً سياسية. كذلك، فإن كل خطاب حول هذا الموضوع هو بالضرورة إشكالي لأنه مرتبط، في أغلب الأحيان من دون علمه حتى، بالصراع حول أهدافه الشرعية.
في هذا السياق، يجب أخذ الطبيعة الإلزامية والمعيارية لخطاب البنك الدولي ولأي خطاب حول التنمية في فلسطين بجدية، والانتباه إلى نزعته إلى فرض التوافق. فأي نزعة توافقية تغيّب إلى حد كبير انعدام التوازن في العلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية من جهة وبين أولئك الذين يتحدثون ويتصرفون باسم التنمية ومن هم مستهدفون بهذا الخطاب من جهة ثانية. وهكذا تشارك تماماً المساعدة الدولية في فلسطين في إعادة تشكيل وضبط علاقات القوى بين «أطراف الصراع» وحتى في كنف المجتمع الفلسطيني. من جهة أخرى، يشكّل تدمير النسيج الاقتصادي الفلسطيني تحدياً لوجود كيان سياسي مستقل، الأمر الذي يعوق من دون شك أي أفق تنموي اقتصادي حقيقي. لذلك، ومهما يقول البنك الدولي، فإن الاقتصاد يبقى امتداداً للسياسي أو بالأحرى طريقة أخرى لخوض الحرب.
* باحث فلسطيني