باريس | نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية، أمس، مقالة رأي للمؤرخ الإسرائيلي زيف ستيرنهال، تحت عنوان «في إسرائيل تظهر عنصرية شبيهة بالنازية في بداياتها»، أثار ضجة لمقارنة كاتبه بين المناخ السياسي الحالي في إسرائيل والأيديولوجيا النازية المعادية للسامية والمسبّبة لقتل ملايين اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. وإن بدا الموقف جريئاً في ظاهره، فإنّ نصّ المقال لا يعدو أن يكون انتقاداً لاذعاً لسياسة أحزاب اليمين الإسرائيلي دون المسّ بالمبادئ الأساسية للفكر الصهيوني أو بطبيعة النظام «الديموقراطي» لإسرائيل.
زيف ستيرنهال من أصل بولندي، نجا من محرقة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وهو مختص في تاريخ الفاشية بالجامعة العبرية للقدس. عُرِف بانتقاده لحركات اليمين في إسرائيل، ولا سيما عندما طلب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مقال سابق له في نفس الجريدة، أن يكون «شديداً مع بنيامين ناتنياهو» خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لفرنسا في تموز الماضي.
المقال الذي نتناوله، نُشر الأسبوع الماضي في جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، التي توصف بأنّها «ذات خط تحريري تقدمي». ستيرنهال ليس أول من أشار إلى تحوّل ضحايا النازية الإسرائيليين وأحفادهم إلى جلادي الفلسطينيين، وهو في آخر مقاله يُخصص فقرة يقارن فيها بين السياسات المعادية لليهود في ألمانيا والنمسا في الثلاثينيات، وخطاب نواب اليمين الإسرائيلي اليوم الذين يرون أنّ «عيب الفلسطينيين الأكبر هو أنهم لم يولدوا يهوداً». لكن يبقى من غير الرائج أن تعلو أصوات من الداخل تنتقد سياسة إسرائيل بهذه الحدة، خاصة باللجوء إلى مقارنة تاريخية مع الصدمة الأساسية التي بُني عليها الخطاب الرسمي الإسرائيلي منذ نشأة الدولة العبرية. بل إنّ خطاباً كهذا لا تستسيغه آذان الرأي العام الفرنسي، إذ بات انتقاد سياسة إسرائيل ضرباً من أنواع معاداة السامية، كما يُكرِّس لذلك عدد من السياسيين الفرنسيين، من بينهم رئيس الوزراء السابق مانويل فالس.
يثير انتباهنا من البداية حديث زيف ستيرنهال عن «ظهور عنصرية»، وكأن أمر القضاء على الحضور الفلسطيني والسيادة الحصرية لليهود دخيل على المجتمع الإسرائيلي وطبقته السياسية، وليس متجذراً في خطابات القادة التاريخيين للدولة العبرية مثل بن غوريون وغولدا مائير، بل وفي الأيديولوجيا الصهيونية التي وصفها قرار لمنظمة الأمم المتحدة في سنة 1974 بكونها «شكلاً من أشكال العنصرية»، قبل أن تتراجع نفس المنظمة سنة 1991 تحت ضغط أميركي.
التمييز العنصري الذي يتحدث عنه ستيرنهال في مقاله يشمل فقط فلسطينيي الأراضي المحتلة، على خلفية الاقتراحات الأخيرة التي تقدم بها عدد من النواب الإسرائيليين والتي تشجع على طرد فلسطينيي القدس أو ضم عدد من المستوطنات المجاورة إلى المدينة. ويندد المؤرخ بانعدام أي مساواة في الحقوق بين اليهود وغير اليهود في القدس وبتحطيم مشاريع النواب الإسرائيليين آمال فلسطينيي الأراضي المحتلة في الحرية والسيادة، من خلال نيتهم ضم مستوطنات الأراضي المحتلة منذ 1967 أو ما سيؤول إليه الوضع في القدس بعد قرار الرئيس ترامب نقل السفارة الأميركية إلى هناك قبل نهاية سنة 2019. أي إنّ مخاوف ستيرنهال يغذيها النظر إلى المستقبل القريب أكثر منه الوضع الحالي، حيث لا سيادة في أراضٍ فلسطينية يُسيطِرُ على حدودها، منذ اتفاقات أوسلو، الجيش الإسرائيلي، ونهشتها المستوطنات إلى حد جعل حل الدولتين ضرباً من الخيال.
خطاب ستيرنهال يقتصر على المحور السياسي الذي يفصل بين اليمين اليهودي القومي وبين ما يسميه «يسار الليبيرالية والأنوار وحقوق الإنسان» والذي يصفه المؤرخ اليوم بالـ«عاجز» أمام سياسات خصومه. لكنه يبقى في ظل نظام سياسي إسرائيلي يراه ستيرنهال ديموقرطياً في أسسه التي انبنت وفق تعبيره على «آثار اليهودية» وليس بفضل السياسات الأوروبية المعادية للسامية في الثلاثينيات التي شجعت على هجرة اليهود نحو فلسطين. ويظهر ذلك من خلال إشادته بالتاريخ المجيد لـ«استقلال» دولة إسرائيل والـ«شرعية الأخلاقية للوجود القومي للإسرائيليين»، حتى إنه لا يستعمل أبداً في النص كلمة «صهيونية». كذلك فإن ستيرنهال لا يقطع أبداً الحدود الفاصلة بين فلسطينيي الأراضي المحتلة وفلسطينيي الداخل، وكأن مسألة التمييز العنصري وعدم المساواة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا تشمل حاملي الجنسية الإسرائيلية من فلسطينيي الـ48، إذ يكتفي المؤرخ في آخر النص بالحديث عن «طيف التمييز العنصري» الذي قد يهدد كذلك هؤلاء، وكأنهم يتمتعون بجميع حقوقهم، في مساواة تامة مع اليهود الإسرائيليين. في خطاب كهذا، يظهر أن المؤرخ يكتفي بالنظر خارج حدود الـ48 دون المسّ بأسطورة «إسرائيل الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط».
زيف ستيرنهال في مقاله هذا يشبه المفكرين الفرنسيين الذي يصرخون فزعاً عند اقتراب طيف اليمين المتطرف الذي يجسّده حزب «الجبهة الوطنية» لمارين لوبان، لكنهم يروّضون فكرهم الانتقادي أمام أحزاب «جمهورية» قد تسلك نفس السياسة (كما هو الحال اليوم بالنسبة إلى سياسة ماكرون تجاه المهاجرين غير الشرعيين). رغم ذلك، فتجرؤه على هذه المقارنة التاريخية يدل على أن سياسة الحكومة الإسرائيلية اليوم، وبمساندة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بلغت حداً من الغلو يجعل حتى أنصار الصهيونية «الليبيرالية» يصطفون احتجاجاً على ممارسات مشرّعهم.