ينبغي أن لا تكون الإدانة التركية الرسمية لعملية القدس مفاجئة لأحد، وخاصة أنها أتت بعد سلسلة من المحطات السياسية والتطبيعية كشف بها النظام التركي عن حقيقة موقفه من قضية فلسطين.
ولن تنفع أي محاولة مفترضة لإضفاء طابع شخصي على وصف نائب رئيس الوزراء التركي، محمد شيمشك، عملية القدس بـ«الإرهابية الحقيرة»، مضيفاً أن «الإنسانية تستحق أن تتّحد الأمم ضد الإرهاب من دون أعذار». أولاً، بحكم المنصب الذي يتولاه، وثانياً، لكونه لم يصدر أي تصويب رسمي يتبرأ من هذا الموقف، رغم حساسية القضية والموقف والإهانة التي وجهها المسؤول التركي لتضحيات الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال.
من الصعب مقاربة الموقف الرسمي التركي من عملية القدس، بعيداً عن الإطار الاستراتيجي الذي تحددت معالمه في أكثر من محطة، من أبرزها المواقف التي أطلقها الرئيس رجب طيب إردوغان، قبل أشهر في مقابلة مع القناة الثانية الإسرائيلية، وعبّر خلالها عن خيار تعزيز العلاقات مع الاحتلال، ودعوته الى أفضل العلاقات مع إسرائيل. ثم خطوة تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية، التي استندت بالتأكيد الى تفاهمات بين الطرفين، تجلّت في هذه المحطة عبر إدانة عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وهكذا يتضح أن الرسائل الكامنة في الإدانة التركية تتجلى في العبارات القاسية التي تم من خلالها وصف العملية الشجاعة في القدس، ولكونها تأتي في سياق تطبيعي بين الطرفين.
على مستوى المضمون، فإنّ إدانة عملية القدس هي في الواقع إدانة لمفهوم وخيار مقاومة الشعب الفلسطيني. والسبب بكل بساطة أن موجبات عملية القدس، وأهدافها وسياقها هي نفس موجبات وأهداف وسياق عمليات فصائل المقاومة، بل أيضاً هي إدانة لتصدي المقاومة للاعتداءات الإسرائيلية المتوالية ضد قطاع غزة، وفي أي مكان آخر، لأنها جميعاً تستند الى المنطق نفسه.
ومما يُعزِّز بشاعة الموقف التركي، مواصفات العملية نفسها، إذ إنها قد تلائم معايير من لم يرتقوا إلى مرتبة الحد الأدنى القائم على رفض منح المشروعية للاحتلال الصهيوني لفلسطين، فضلاً عن عدم ارتقائهم أيضاً إلى مرتبة تبني مشروع تحرير فلسطين، ودعم فصائل المقاومة ضمن هذا الإطار. بل يمكن لأنصار خيار التسوية القائم على منح شرعية لاحتلال أغلب فلسطين أن يوظفوا هذا النوع من العمليات إن تحلّوا بالشجاعة والالتزام الجدي بالقضية، ولو بقدر. ومن أبرز مواصفات العملية أنها وقعت في مدينة القدس المحتلة عام 67، وبعبارة أخرى حيث يفترض أن ينفذ مشروع الدولة الفلسطينية المفترضة، واستهدفت الجنود (والأمر نفسه ينطبق على استهداف المستوطنين)، أي بعبارة أخرى ضد الذين يتدربون لحماية كيان الاحتلال وقتل الشعب الفلسطيني والاعتداء على البلاد العربية.
وهكذا يتضح أن إدانة عملية بطولية بهذه المواصفات تعزز من حقيقة أن الموقف التركي ليس إلا ترجمة لخيار استراتيجي يقوم على أساس التقارب والتحالف مع إسرائيل على قاعدة المصالح المشتركة، بل هي جزء من مخطط يستهدف الضغط على إرادة الشعب الفلسطيني ووعيه بهدف ثنيه عن مواصلة نهج المقاومة والالتحاق بـ"قافلة" التطبيع مع الاحتلال. لكن مشكلة هذا المخطط أنه يطلب التسليم والخضوع ممن سيكون التطبيع على حسابهم، وممن ستُدفع الأثمان من دمائهم وأرضهم.
في كل الأحوال، شكلت الإدانة التركية عنواناً للتموضع التركي الإقليمي، وكشفت مرة أخرى عن جوهر السياسات التركية الإقليمية وأهدافها البعيدة المدى، لجهة علاقتها بمخطط تصفية القضية الفلسطينية.