أنا لستُ من المؤمنين بنظرية "الحب من أول نظرة"، لكنني وقعتُ في حبها بمجرد رؤيتها: يا إلهي! لم أعتقد أننا نمتلك في قطاع غزة بمثل جمالها على الإطلاق. بقيتُ أتأملها مذهولاً، فيما رددت شفتاي مراراً عبارتي: "ما شاء الله. سبحانك يا رب..."، وصديقي بجواري يتأمل رد فعلي مبتسماً. لم أكن أتحدث عن فتاة هنا. لقد كنتُ أتحدث عن منطقة حدودية في إحدى قرى ما يعرف باسم "المنطقة الشرقية" لمحافظة خانيونس.أنا أحد الذين ولدوا وعاشوا في "غابة كثيفة من الإسمنت"، مثل مخيمات ومدن قطاع غزة المختلفة، لذلك أسرني أن أجد منطقة بمثل هذا الجمال في محافظات غزة: الخضرة وأجواء الريف ورائحة خبز التنور هناك. كأنني انتقلتُ خارج غزة رغم أنني لا أزال فيها!
كيف حدث هذا؟ كان السبب مُعين، صديقي الذي قادني للمرة الأولى إلى تلك المنطقة، وكان العمل قد جمعنا في إحدى مؤسسات القطاع الخاص، قبل أن تفرقنا الدنيا، ليمضي كل واحد منا في طريقه. هو شاب نحيل أسمر البشرة، ذو شعر أسود ناعم وعينين واسعتين. كانت لهجته تشير إلى أنه من قرى "المنطقة الشرقية"، حيثُ استضافني هناك ذات مرة في بيته، وتناولتُ بشهية ألذ وجبة أكلتها في حياتي: خبزاً أسمر مع طبخة "بامية"!
في قاعة استقبال الضيوف، حيثُ تغدينا يومها وحدنا، كدتُ ألتهم أطراف أصابعي، بسبب لذة الأكلة، فيما راح معين يقهقه من طريقة تلذذي بتناول الطعام، كاشفاً عن أسنانه التي كساها تدخين التبغ بالصفار. انتقلنا إلى "عريشة" أمام المنزل، وأشعلنا الحطب في الكانون لإعداد الشاي بالنعناع. ارتسمت على وجهه ابتسامة وأنا أسأله عن سبب لذة هذه الأكلة، فأجابني ببساطة: "لأنو كل مكوناتها تقريباً مزروعة في أرضنا. حتى القمح اللي انعمل منو الخبز اللي أكلتو انزرع بأرضنا"!
قلتُ له، دون أن أدرك أنني سأنكأ جرحاً غائرا لديه: " نيالكم والله.. ما فيه أحلى من هيك حياة ".
صمت، وأخذ نفساً عميقاً أطلقه بتنهيدة طويلة وهو يقول لي: "ما انتا مش عارف اللي فيها"، ثم راح يسرد لي حكايتهم. يبدو أنني أمام "صندوق آلام جديد" يُفتح أمامي للمرة الأولى.

■ ■ ■


"بتعرف يا صاحبي إنهم لو بيعطوني قصر بدل بيتنا هان؟ ما بديش إياه! هان كبرت. هان تربيت. ما فيه أحلى من هوا قريتنا. نظيفة وبعيدة عن زحمة المدن وقرفها ووجع الراس. كان ممكن تكون قريتنا جنة الله في أرضه لولا إنها جاية على الحدود بالزبط: أرضنا احنا مش جنب بيتنا. بعيدة عنو.
"قُلبة الجيش" (باللهجة الغزية، برج الحراسة التابع لجيش الاحتلال) بعيدة عن أرضنا أقل من مية متر. وحوالي أرضنا أراضي كتير لناس من قريتنا، الأرض هيه حياتهم: من خيرها بياكلوا وبيشربوا وبيترزقوا. بس الله وكيلك كان الجيش دايماً مخلي عيشتنا سواد، وخاصة في سنين الحصار. كتير ناس منا كانوا يقتلوهم لما يروحوا يزرعوا أو يحصدوا بأراضيهم. مقبرة قريتنا مليانة قصص من ها النوع. اللي بيروح متصاوب بس لأنو الجندي الإسرائيلي حن عليه برصاصة في رجله، كان بيروح ع المستشفى وهوه مبسوط الله وكيلك!".
وواصل حديثه: "لما بنروح نزرع الأرض، بتصير القصة زي لعبة البس والفار: بيقربوا الفلاحين من أراضيهم، وببيضلهم يطلعوا ناحية قُلَبْ الجيش. الجيش بيعرفهم واحد واحد، ورغم هيك ممكن يِطُخْهُمْ (يطلق النار عليهم) زي السلام عليكم. ولا بتفرق معو. ليش؟! من غير ليه على قولة الست ّأم كلثوم يا صاحبي! مرة بيتركهم يزرعوا ويقلعوا بأراضيهم، ومرات بيصير يِطُخْ عليهم قبل ما ييجوا من بعيد عشان يخوفهم ويهربوا. بس بالسنين الأخرانيات صار يلعب معهم لعبة أوسخ بكتير".
أما اللعبة المعتادة، فيقول لي: "بيخلوهم يحرثوا الأراضي ويزرعوها، ويسقوها، ولما بييجي موسم الحصاد، بيصيروا يطخوا عليهم. قبل سنة بس، صار إنهم قتلوا اتنين من قرايبي وهمه في أراضيهم عشان كانوا جايين يحصدوها. وقتها قعدنا نتفرج في الزرع اللي محاصيله صارت جاهزة، واحنا مش قادرين نحصد منه حبة واحدة! كل تعبنا وشقانا ومصارينا راحت. عليك العوض يا رب ومنك العوض! هان يا صاحبي لقمة العيش مش مُرَّة وبس. الله وكيلك بناكلها مغمسة بالدم والعرق والدموع..".

■ ■ ■


"... صحيح، نسيت أَقولك: بعد الانقسام، منعنا الجيش نزرع أكتر من نص أرضنا أساساً بحجة إنهم عملوا مسافة آمنة بينهم وبيننا. نص كيلو متر على طول الحدود، وممكن توصل أحياناً لكيلو متر كامل. طبعاً زي ما قلتلك قبل: في كتير من المرات كان الجيش يمنعنا نحصد الأرض، فكانوا ييجوا يحصدولنا إياها المتضامنين الدوليين: كانوا ييجوا لابسين جاليه لونه فسفوري، ويحصدوا أراضينا، لأنوا منهم أمريكان وأوربيين، ولو واحد انقتل منهم، دولته بتعمل ألف قصة. اللي زينا فِش حدا يدور عليه. راحت في كيسه".
يواصل: "في سنة من السنين، المتضامنين الدوليين، غالبيتهم ما قدروش يدخلوا غزة بسبب الحصار والمعابر. كنا زارعين اللي قدرنا عليه من أرضنا قمح. ايش نعمل؟ قال الحاج (يقصد بذلك والده) إلي ولإخوتي: توكل على الله. خلينا نجرب ونحصد. إذا زبطت معنا وحصدنا هيها زبطت. ما زبطتش، الحمد لله على كل حال. المهم ما يروحش حدا منا فيها. ينحرق الزرع كله ولا يروحلي حدا منكم".

■ ■ ■


بعدما غلى الشاي، عدّل معين الإبريق وصبّ لي في أحد الفناجين الصغيرة ما يشبه الخرّوب. وأكمل حديثه: "وصلنا الأرض يومها يمكن الساعة تسعة الصبح: كنا مع أبوي وأمي وإخوتي وخواتي البنات. أبوي يومها حلف يمين طلاق إنو ما حدا يدخل الأرض ويقدم قبله هوه، عشان لو طخوه يموت هوه لحالو واحنا كلنا نشرد (نهرب) بعدها. تَامُّو (بقي) ماشي بشويش واحنا نطلع عليه من بعيد. لما بدا يحصد ولقى إنو الأمور تمام، صار يزعق (ينادي) علينا إنو خُشُّوا (ادخلوا) الأرض، تخافوش. صرنا نحصد على السريع، لآخر النهار. حصدنا اللي قدرنا عليه. كنا بنركض ركض، وكل شوي بنطلع على قُلبة الجيش، وكل واحد فينا بيسأل حالو: راح يطخوا علينا ولّا لأ؟ مين فينا اللي راح يضل عايش ومين اللي راح يموت؟".
وتابع: "هيك كان حالنا من الصبح لقريب آخر النهار: بنحصد الموت قدام عنينا. ما كان فيه حل تاني. من وين بدنا نعيش؟ كملنا حصيدة أول يوم ورجعنا واحنا مش مصدقين إنو لساتنا عايشين. تاني يوم عملنا نفس القصة: والدي قَدَّم في الأرض. لما نادانا، رحنا نحصد معو. في آخر النهار، وقبل ما نروح سمعنا صوت طخ. التفتنا، لقينا أخوي الزغير مؤنس متصاوب في راسه وبركة دم حواليه. بتعرف قديش كان عمره؟ 13 سنة بس! لما روحنا، وأخدناه وغسلنا ودفناه تاني يوم. طول الأيام التلاتة تاعات العزا تبعو وأنا بأفكر: ليش هوه من بيننا بالذات؟ كنت أنا ووالدي ووالدتي وأخوتي الشباب اللي أكبر مني ــ ما الوالد تجوز بدري وخلف خمس شباب وأربع صبايا عقبال عندك ــ يعني كان قدامه كل المقاسات. ليش اختار أزغر واحد فينا بالذات؟ هادا اللي حدا فينا ما قدر يجاوبه! بس ع فكرة: رغم إنو أخويا مات في الأرض، إلا إنو لساتنا بزرع فيها لليوم. مش بطولة القصة يا صاحبي ولا وطنية. القصة إنو هاي حياتنا. الشقا مكتوب علينا من أول الدنيا ولازم نصبر ونعافر عشان نعيش..".

■ ■ ■


"سقطتُ فوق الأرض الطيبة
وفي السماوات الزرقاء
من أجل البشر المتعبين
تمنيت أن أكون أنيساً مثل البدر
ومن أجل البشر الذين يعيشون لوحدتهم
أن أهبط لأمنح كل الضياء
وليشربوا من النبع الصافي
بلا كراهية. بلا تعب. بلا ألم ولا حزن ".
ــ من قصيدة "آه أيتها الأرض" للشاعر التشيلي بابلو نيرودا.

* العنوان بيت من قصيدة "عيد سعيد أيتها الأرض" لأحلام مستغانمي