منذ مدة لا بأس بها أتعمد ألا أكتب، وللأمانة، في داخلي رغبة كبيرة بألا أفعل. لا أعرف تحديداً السبب وراء هذا الشعور، لكن، ولأنني أعتقد أنني شخص منطقي، فإني أرد الأمور إلى ظروفنا التي تودي بالفعل إلى العجز إن أردت الكتابة والأمانة في آن معاً.كانت الكتابة أهم أحلامي، وأهم ما أبحث عنه، ولأجلها غيّرت الكثير من أموري، وألغيت تفاصيل عدة كانت معيقة لحلم الكتابة الناضجة الواعية، القادرة على التغيير، ومنح الأمان الداخلي والرضى.
في الحقيقة أحسّ أكثر فأكثر أن الكتابة في واقعنا الفلسطيني لا تحرك ساكناً ولا تغير شيئاً!
هناك معضلة أخرى، أن تقول ما تريد فلسطينياً، فالإعلام الفلسطيني أو القريب من فلسطين مرتبط مالياً بجهات معيّنة تفرض عليه أجندات تمنع الكاتب من قول الحقيقة من وجهة نظر مغايرة لأصحاب المال... وهكذا دواليك.

*****
يسجن الصحافي الفلسطيني أيمن العالول، ربما لأن نقده لم يَرُق للسلطة الحاكمة في قطاع غزة، ولمجرد اعتقاله، يبدو أن المطلوب منه ومن سواه أن يمدحوا حماس وكل مسؤول هناك يدور في فلكها.
وكما يُكمُّ فم العالول، تُكمُّ أفواه المطالبين بتسليم معبر رفح. هناك من خون المطالبين، لأن المعبر مغلق جراء المؤامرة على قطاع غزة بأهله ومقاوميه، ومعنى ما سبق أن ساسة الحكم فيه براء من مرضى يموتون، وأطفال يجوعون وتلامذة يُبدّد حلمهم في مستقبل أفضل.
وفي السياق يتعرض الإعلامي والممثل الفلسطيني مؤمن شويخ لهجوم عنيف، بسبب فيديو يتكلم فيه طفل من غزة قائلاً إنه لا يعرف اللحمة! وفي معرض توضيح شويخ، يؤكد أن الطفل يعرف اللحمة، لكنها لا تدخل بيته سوى مرة واحدة بالسنة.
هل كذب مؤمن أو الطفل، لم يكذبا! الواقع في غزة أشد مضاضة، ولنسأل أهل كرفانات حرب غزة 2014، أولئك الذين أوقفت الحرب بشروط منها إعادة الإعمار.. لكنهم ما زالوا بلا مأوى، وصاروا قضية جديدة على قائمة القضايا الفلسطينية.

*****
بطبيعة الحال الضفة ليست أحسن حالاً؛ يُعلن فجأة عن كلمة مهمة للسيد الرئيس، وتبدأ التوقعات والتحليلات والترجيحات، ويظهر السيد محمود عباس، وتنقل الكلمة معظم القنوات الاخبارية الفلسطينية والعربية، فالتوقعات ذهبت إلى أماكن بعيدة كتقدم الرئيس باستقالته لـ "الشعب"، أو إعلان ما بوجه الاحتلال. لكن يتبين أنه لا استقالة كما توقع البعض، ولا تجريم للاحتلال إلا بالكلام، كذلك لم تتسع كلمته لأكثر من الانفعال الغريب والسلام عليكم لضرورة الخطابة.
في الضفة أهالي الشهداء يطالبون بجثامين أولادهم، ويتحركون وحدهم، ويقاومون وحدهم، ويضربون أيضاً وحدهم. والسلطة لا تدعم، لا تطالب معهم، لا تفعل أي شيء، لا تكترث إلا لأمر واحد، تنسيقها الأمني.
إسرائيل تعيد من تعيد من الشهداء، مثلجين، من دون إمكانية لتشريح الجثة غالباً، ما يغيّب قرائن الانتهاكات من إعدامات ميدانية، وربما (على الأرجح) سرقة أعضاء، أمام المحاكم الدولية، التي تقول السلطة إنها ذهبت إليها وما زالت ترفع الملف تلو الملف، والشعب ما زال ينتظر، وسينتظر...

*****
في الشتات، داخل المخيمات وخارجها، وعلى طريق الهجرة إلى أوروبا، هناك من ينظّر على المتعبين ويطالبهم أن يصمدوا، وهناك من يردد "لحن العودة".
لم يعد الناس يصدقون اسطوانات الكذب، ولا حتى الصدق، كل ما يقوله قيادي في فصيل كذب إلى أن يثبت العكس. هذا حالنا نحن العاديين، وبعض تلك الفصائل، لا بل جميعها تظن أنها محارِبة وما زال الاحتلال ينظر إليها بعين الاعتبار داخل المخيمات.
يحدث في مخيم برج البراجنة، أن "تستل" سيدة فلسطينية مع زوجها، جوالها لتصور قطة؛ للمصادفة تعبر جوار مقر أحد الفصائل، فما كان من الحارس هناك إلا أن تقدم نحو الزوجين شاهراً سلاحه، يسألهم لماذا يلتقطون الصور أمام المقر.
هذا السلاح في الحقيقة لا يفعل أكثر مما فعله في هذه الحادثة، إضافة لفعل آخر، أن يُستخدم تجاه مسلحين لفصيل آخر.
في مخيم اليرموك المحاصر والمحتل في آن معاً، مفاوضات تدور حول المناطق المحيطة به، أما هو؟ اليتيم، فليس هناك من يسأل عنه. القيادة المفروض أنها مسؤولة عنه، مشغولة بقضايا أهم من هذه "القلعة" الفلسطينية، على حد تعبير بعض زعماء الفصائل. بكل الأحوال ربما لم يعد هناك الكثير من أهله حتى يعودوا، منهم من ماتوا ومنهم من هاجر، ومنهم من احترم موت المخيم فقرر الموت معه وفيه.

*****

أما الحال العام، فأرى اليوم مأساتنا الفلسطينية، وأقول بالفم الملآن، ما نحن فيه لم يعد الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني الإمبريالي الرجعي وحده مسؤولاً عنه. من يتسيدون الساحة الفلسطينية: من في الحكم ومن هم خارجه، يتحملون مسؤولية الواقع الفلسطيني التابع بكل شيء. كأن لا قرار فلسطينياً مستقلاً... يا للسخرية، قاتل الفلسطينيون بعضهم بعضاً بمراحل معينة، وقاتلوا بعض الدول العربية، تحت مسمى استقلالية القرار الفلسطيني. يا لحماقة المرحلة.

*****

لا أكتب، من أجل كل ما ورد، ومساحات الكتابة لا تسمح بالكثير، هناك المزيد، هناك ما يجرح، ما يجعل الروح تغلي في الصدور.
لا أكتب، لئلا أمدح، لئلا أقترب من فلان أو منهج، أو مال، رغم أني أكتب هذا الجرح هنا.