لم يحن موعد انقطاع الكهرباء، كنا نتابع أعمالنا اليومية، نهرول نركض لنلحق بركب الكهرباء قبل أن تنقطع، عشرون وظيفة يمكن للمرأة الغزية أن تقوم بها في نصف الوقت الذي تستغرقه عادة. أحياناً أتخيلها "روبوتاً" آلياً لديه عشر أيدٍ!فجأة، أظلم بيتنا والبيوت المُجاورة. قطعت سكين ما الكهرباء عن منطقتنا، ومعها انقطعت كافة الأعمال التي لم تنته، وأصبحت مُؤجلة إجباراً ليوم آخر.
كنت جالسة أمس مع أمي سألتني مستغربة انقطاع التيار في غير وقته: "هو جاي وفد ع البلد؟". أجبتها: "قطعة الكهربا بتقول هيك والله". بعدها سمعنا الناس يقولون بأن التقنين الإضافي للتيار هذه المرة تسببت به زيارة الوفد التركي للقطاع. كان ذلك قبل إعلان تركيا التطبيع مع العدو بعد مقاطعته بسبب "مافي مرمرة". أصبح جدول التغذية ست ساعات فقط. على كل حال يبدو أن الوفد التركي "وجهه حلو علينا". فالوفد القطري لما يزورنا لا تصل التغذية أبداً لست ساعات! ستجد شركة الكهرباء حجة منمقة لتخبرنا أنها السبب. والمطلوب منا عدم التشكيك في مصداقيتها و"وطنيتها"، وأنها (معاذ الله) أن تكون كاذبة وسارقة، تفتعل الأزمات لتشحذ على شعبنا الغلبان!
هذه المرة قالوا: الخطوط تعاني من عطل خصوصاً تلك التي تصل من رفح، لذا ستضطر الشركة آسفة لتغيير الجدول، وساعات "الوصل" الكهربائي ستكون أقل من ست ساعات.
هي أكاذيب واضحة. فالأخبار في غزة تتسلل من تحت الأبواب، تأتيك من وراء الجدران. لا أحد يستطيع كتم خبر هنا في غزة، كل شيء مكشوف هنا وإن ظن البعض أنه مستور. ببعض المبالغة يمكن القول إن عدد الصحافيين يفوق هنا في القطاع عدد المواطنين العاديين، هذا دون حسبان المواطنين الذين يملكون موهبة نقل الأخبار!
الأخبار جزء من واقعنا، جزء أصيل، يشكل مدار حياتنا، يُعيد تنظيم أجندتنا ويقولبها غالباً. من متابعة أخبار الغاز والكهرباء والخبز، نعرف كيف يمكننا تدبير قوت اليوم، والغد، على أقل تقدير.
لكن وبالرغم من كل ما قلناه سابقاً، ستجد خبراً يُفلت من نصف القطاع في ليلة واحدة، تسقط دولة وتنقلب على نفسها، مظاهرات واحتجاجات وانقلاب على السلطة من الجيش في تركيا، ثم يخرج الرئيس يلقي خطاباً قريباً للقلب، يستعيد شعبه، ينتهي الشغب، يغنون لأردوغان من جديد!
قصة سريعة وأقصر من دعاية فيلم، خبرٌ كهذا كيف سنقنع الشعب هنا في غزة بأنه حدث في ليلة وانتهى، ببساطة شديدة انتهى، جاء وذهب في قطعة كهرباء ليوم واحد!
اتصلت صباحاً صديقتي ضاحكة وهي تقول: "رح يرجع جدول 8 ساعات.. قلت أفرحك. فالكهرباء كانت مقطوعة عندك ولا شك أنك لم تسمعي الأخبار".
أجبتها: "عرفت الصبح انه في انقلاب في تركيا.. بس ليش حيرجع جدول ال8 ساعات؟".
ردت: "انقلاب بتركيا يعني ما في وفد تركي رح يجي عنا. يعني ببساطة الكهربا حترجع زي أول. انبسطي".
ضحكنا من عجزنا عن تغيير أي شيء. وكأن رقاص الساعة لا يتحرك في غزة إلا ليخبرك بموعد انقطاع أو عودة الكهرباء! ربما الكثير سيكون سعيداً برجوع أردوغان إلى السلطة! لكن في غزة؟ الأمر يعني انه والحمد لله لن تزورنا الوفود، وبالتالي لن نعاني من تقنين كهربائي إضافي.