لم يأت مؤتمر «هرتسليا» السادس عشر، المنعقد شمال تل أبيب وأنهى أعماله أمس، بأي جديد، رغم وفرة المتحدثين من مسؤولين سياسيين وعسكريين ونخب وأكاديميين، من إسرائيل وخارجها. الكلمات التي ألقيت، وحلقات النقاش المتنوعة بتعدد المواضيع الإستراتيجية، كانت تكرارا لما هو معروف ومتداول، مع إسهاب في وصف التهديدات والفرص.تناولت أعمال المؤتمر وحلقات النقاش المتخصصة مروحة التهديدات الماثلة أمام إسرائيل. وصف التهديدات كان مسهباً، وكذلك الفرص المؤملة. الهاجس الأساسي الذي برز في كلام المتحدثين كان الأمن، وتحديداً ما يتعلق بالسيناريوهات المتوقعة لمرحلة ما بعد تنظيم «داعش»، فقد كان التقدير المتداول في المؤتمر، شبه تأكيد لزوال التنظيم قريباً، أكان ذلك في سوريا أم العراق.
وأجمعت الكلمات على أن حزب الله هو الجهة «الأكثر عداء وخطورة وتهديدا»، مع التشديد في المقابل على أنه غير معني في هذه المرحلة بمواجهة شاملة مع الجيش الإسرائيلي، لانشغاله ولتدخله عسكرياً في القتال الدائر في سوريا. لفت شبه الإجماع، لدى المتحدثين، بما يوحي بالقصد المسبق،على تأكيد أن حزب الله لا يمثل تهديداً وجودياً، رغم أنه قادر على إلحاق الضرر استراتيجياً بمختلف الساحة الإسرائيلية وبنيتها التحتية المدنية والعسكرية. وإذا كان ذلك رسالة طمأنة إلى الجمهور الإسرائيلي، فإنه يكشف من جديد ارتفاع مستوى التهديد الاستراتيجي، بل يشير إلى مكانة الحزب ومستواه في الوعي الجمعي لدى الإسرائيليين، الأمر الذي دفع مسؤولي تل أبيب، وللمفارقة، السياسيين والعسكريين على حد سواء، إلى تأكيد أن حزب الله غير قادر على إزالتهم من الوجود، برغم إقرارهم بالقدرات العسكرية الهائلة بحوزته.
في هذا الإطار، ولطمأنة الجبهة الداخلية، لم تخل كلمة من الكلمات التي ألقاها كبار المسؤولين في الجيش الإسرائيلي، وكذلك عدد من الوزراء المعنيين والخبراء، من رسائل التهديد ضد حزب الله، والساحة اللبنانية عموماً، وكلها تهديدات خدمة لعامل الردع المنشود في مقابل الحزب. فلبنان، وفق رئيس «شعبة الاستخبارات العسكرية»، هرتسي هاليفي، سيتحول إلى «دولة لاجئين» اذا نشبت الحرب، فيما هدد وزير شؤون الاستخبارات بأن لبنان سيتحول إلى «دولة من الدمار». ورأى وزير آخر أن القرى والمدن اللبنانية ستدمر كلها، وحدّد ثالث أن وجهة الحرب المقبلة من ناحية إسرائيل ستكون دولة لبنان وبنيتها التحتية.
مع ذلك، كان لافتاً إلى حد كبير جدا، تأكيد المسؤولين الإسرائيليين أن تل أبيب غير معنية بنشوب حرب ومواجهة شاملة مع حزب الله، بل تسعى إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه دون تغيير، ووفق تعبير مسؤول إحدى اللجان الفرعية السرية في الكنيست، فإن «حزب الله مردوع وغير معني بالحرب، لكن إسرائيل في المقابل مردوعة أيضا وغير معنية بالحرب»، رغم تأكيد المتكلمين ضرورة مواصلة العمل على منع الحزب من التزود بأسلحة نوعية «كاسرة للتوازن»، وهو الأمر الذي كان محل إجماع أيضا، لأنه قد يفضي إلى «مواجهة غير مقصودة» بين الجانبين.
وحول الوضع في سوريا ومآلاته، أشاد المتكلمون بالإستراتيجية الإسرائيلية العملية المتبعة في الساحة السورية: سياسة عدم التدخل المباشر في حد أدنى، واقتصار ذلك على «التهديدات الداهمة»، وهي في نظر المؤتمرين الأكثر نجاعة تجاه الساحة الأكثر إشكالية والأكثر تغيراً في المحيط الإسرائيلي.
من قال إن حزب الله مردوع ولا يريد الحرب أكد أن إسرائيل كذلك

وبرز في سياق المؤتمر خشية من الآتي، تحديداً حيال اليوم الذي يلي إنهاء أو شبه إنهاء وجود «داعش» في سوريا. المسؤولون الإسرائيليون، وتحديدا هاليفي وآخرون، قدروا أن «داعش» يتجه نحو الانكسار في سوريا والعراق، الأمر الذي يخلق تحدياً جديداً أمام إسرائيل، لافتين إلى أن هذه النتيجة «إشكالية يجب العمل على منعها، لأن انهاء داعش ورحيل القوى العظمى عن سوريا، سيؤدي إلى بقاء إسرائيل وحيدة في مواجهة حزب الله وإيران، مع قدراتهما المحسنة».
الموضوع الفلسطيني احتل، أيضاً، حيزاً رئيسياً في أعمال المؤتمر وكلماته، ولكنه كان موضع تجاذب بلا إجماع حوله. كان التحذير والخشية السمتين الأبرز، بالإضافة إلى توصيف التهديدات والأخطار، وتحديدا ما يتعلق بإمكان تطور انتفاضة السكاكين وعمليات الدهس إلى انتفاضة شبيهة بالانتفاضة الثانية، في الضفة المحتلة، وإمكان نشوب مواجهة عسكرية شاملة، مع قطاع غزة.
سبل المعالجة المسبقة والتوصيات حولها، اختلفت باختلاف الهوية السياسية لأصحاب المواقف. وأعادت الأطراف، من اليمين واليسار، تكرار رؤيتها وقراءتها للوضع الفلسطيني، والتحديات الكامنة فيها، أمنياً وسياسياً. لا جديد بارزاً في كل ذلك، والموقف الصادر عن هاليفي، لخّص المقاربة الإسرائيلية الرسمية حيال هذا التحدي، بالإشارة إلى ثلاث مقاربات تجاه غزة تحديدا: الردع، ومنع تسلح «حماس»، وإعطاء أمل اقتصادي، دون أن يسهب في تفاصيل ذلك.
مع ذلك، عبر عدد من المتحدثين، وأيضا في حلقات النقاش المتخصصة، عن الخشية من تدهور الأوضاع الأمنية في الضفة وغزة نحو مواجهة شاملة. وكانت عبارات التحذير هي السائدة في المؤتمر لجهة الموضوع الفلسطيني، مع المطالبة بالمبادرة إلى «فعل ما»، يؤدي إلى الحؤول دون الأسوأ.
أما في التحدي الإيراني، فعبّر معظم المتحدثين عن خشيتهم من الآتي، رغم إنجاز الاتفاق النووي الذي لم ينه تهديد إيران، وإن قام بتأجيله. رئيس الدائرة السياسية ــ الأمنية في وزارة الأمن الإسرائيلي، عاموس غلعاد، اختصر كل المقاربة بالإشارة إلى أن إيران كانت ولا تزال وستبقى العدو والخطر الرئيسي لإسرائيل، قائلا: «علينا أن نتعامل معها على هذا الأساس، فهي الجهة التي تمول وتسلح حزب الله، وهي الجهة التي تمثل التحدي المركزي».
كذلك تطرق المؤتمر إلى الفرص الماثلة أمام إسرائيل ومصالحها، وتحديدا الدول العربية المعتدلة، التي تتشارك معها العداء ضد إيران. التقارب بين إسرائيل وهذه الدول، تحديدا مع المملكة العربية السعودية، كان محل تثمين من المتكلمين، وأفردت له جلسات نقاش خاصة لتنمية هذا التوجه ولتصويبه نحو «الفائدة المشتركة» للجانبين. في هذا الإطار، أشار المدير العام للخارجية الإسرائيلية، دوري غولد، إلى أن الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني صار في «أسفل» أجندة العالم العربي، وكذلك الأجندة الإسرائيلية، مكررا أن التقارب الإسرائيلي من الدول العربية السنية، وفقا لـ«إستراتيجية» رئيس حكومة العدو، بينيامين نتنياهو، ستتم قبل التوصل إلى اتفاق تسوية مع الفلسطينيين. وقال غولد: «ما يجري بيننا والدول السنية يثلج القلب، لكن علينا أن نكون حذرين ونبقي ذلك سرا دون إعلان، لأن لديهم أوضاعا خاصة... المواطنون لدى هذه الدول لا ينظرون دائما بإيجابية إلى ما يحدث بيينا».