كان نداء "دوري البابور يا بنت" واحداً من أكثر الجمل إخافةً بالنسبة إلي. فلطالما شكّل إشعال البابور بالنسبة لي خوفاً. ولمن منكم لا يعرف ما هو البابور، ربما لأنّه لم يعرفه، أو لم يكن موجوداً أثناء استعماله. فالبابور هو عبارة عن إناءٍ معدني نحاسي أصفر اللون، يستعمل لطهي وتسخين الأشياء ويستخدم الكاز كوقودٍ لإشعاله. طبعاً لاتزال بيوتٌ كثيرةٌ في القرى تستعمله حتى اليوم. ولم يكن المخيّم ليشذ عن هذه القاعدة قبل عشرة أو خمسة عشر عاماً من الآن. طبعاً كنت وشقيقاتي حالما سمعنا هذا النداء، نختبئ فعلياً كي لا تعرف أمّي أننا هنا، لكن هيهات، فواحدةٌ منا سيقع الدور عليها لإشعال هذه الآلة ذات الرائحة النافذة. طبعاً جدتي سودة كانت صاحبة النداء الصارخ ذاك؛ ومعناه أن تهرع إحدانا لإشعاله لتسخين المياه للاستحمام. ولأن والدتي كانت هي المسؤولة عن إشعاله عادةً، لم تكن هناك مشكلة، لكن المصيبة وقعت حينما انشغلت أمي. يومها أصرّت جدتي على أنَّ نتعلم كيفية إشعال البابور. وطبعاً رفضنا كان قاطعاً بأننا لا نريد تعلّم أمرٍ شديد الإخافة مثل هذا. طبعاً كانت قصة سعاد المحروقة وسمر المشوّهة من أهم سمات طفولتنا. فسعاد المحروقة (كما سمر المشوّهة) هي نوعٌ من القصص المخيفة التي كانت تروى لنا كي نبقى على تهذيبنا طوال الوقت؛ وكان بين هاتين الشخصيتين أمرٌ مشترك واحد: البابور. حيث تروي الحكاية بأنَّ الفتاتين كانتا تلعبان في الحمام والبابور بجوارهما، وفجأة شبت النار بهما فاحترقتا لأنهن لم يطيعا والدتهما بالابتعاد عن النار والبابور تحديداً. كنا نخاف البابور كما لو أنّه سيقتلنا، حاولت والدتي تعليمنا كيف يعمل، لكن الخوف كان أكبر منا. بكثير.
وذات يوم عصيب، كانت والدتي تزور إحدى صديقاتها التي تسكن قريباً من منزلنا، وإذ بجدتي سودة تصرخ: دوري البابور يا بنت. طبعاً هذا النداء الرهيب وقع علي كالصاعقة لأنني كنت وحيدةً في المنزل. صحيحٌ أنني أعرف كيفية تشغيله، لكن أن أفعل ذلك، وأنا وحدي في المنزل؟ ذلك لم يكن أبداً في الحسبان. حاولت بداية الأمر تجاهل الصرخة، إلا أنَّ جدتي كانت تعرف أنني هناك. حاولت أن أتعلل لها بأنني لا أعرف، فأشارت علي بأنه في حال لم أكن أعرف فستأتي هي لتعليمي. وطبعاً أنا أفضّل الموت احتراقاً على ترك سودة تعلّمني، حيث يخشى الجميع من سودة أن تعلّمه شيئاً، وكيف أختلف أنا عنهم؟
دخلتُ إلى الحمام واجسةً خائفة، كان البابور الأصفر ينظر إلي مخيفاً كما اعتدته دائماً، أدرت مفتاح الكاز ثم أشعلت عود الكبريت وبدأت أقربه كي يشتعل. لكنه لم يشتعل. أشعلت عوداً ثانياً، لم يشتعل أيضاً. جربت مختلف الطرق لكنه لم يشتعل نهائياً. عبثاً حاولت، لكن لا مجال البتة. ساعتها هممتُ بالوقوف على قدمي وإذ بي أرى جدتي سودة تقف على باب الحمام وهي تقول: إذا بابور ما بتعرفي تشعلي؟ كيف بدك تتجوزي ولي؟ طبعاً أنا لم أسألها ما هو المشترك بين البابور والزواج، فهمهمت بما معناه أنه لم يعمل ولا أعرف لماذا. هي أزاحتني بقوة قائلةً: زيحي زيحي. وجربت وجربت، لكن الأمر لم ينفع معها أيضاً، نكشته بنوع من "النكاشة" القديمة الحديدية التي لها إبرةٌ صغيرة، لكن حتى ذلك لم ينفع. جدتي سودة نظرت إلي مطولاً ساعتها، ثم قالت لي هلق بس يجي أبوكي قوليله يوخده للبابور عند المصلح، ما تنسي آه؟ هززتُ برأسي وأنا لا أصدق كيف حدث ذلك.
حينما عادت والدتي أخبرتها بما حدث، بسمت وقالت لي، ما تقولي شي لأبوكي أنا بعرف أصلحه للبابور، وفعلاً بعد دقائق سمعت صوت البابور منطلقاً. أمي نظرت إلي وهي تقول شفتي مشي معي. مرت أعوامٌ كثيرة، حتى علمت أن أمي كانت كلما خرجت من المنزل، تفرغ البابور من الكاز، وتملأه بالمياه، لماذا؟ كنت أخاف عليكو يما شي واحدة تجرب تولع البابور ويصرلها شي وهي مش منتبهة، بعبيه مي، هيك بتأكد، ما حدا منكو رح يولع معه!