فرصة التعرف إلى ثقافات مختلفة تكون أكبر للطلاب الذين يدرسون في دول أجنبية. وهي أكبر لمن يعيشون مثلنا، في سكن طلابي يتجمع فيه التلامذة من دول شتى وثقافات مختلفة: عرب، آسيويون، أوروبيون، أفارقة وأتراك وغيرهم. فوجئت بأنّ حب فلسطين والتعلق بها كان مشتركاً بين كثيرين بيننا. هكذا كان هؤلاء يعبّرون لنا، نحن الطلاب الفلسطينيين هنا، عن تعلقهم الشديد ببلادنا المحتلة وقضيتها، ويقصون علينا الفعاليات التي شاركوا فيها في بلدانهم، نصرة للقضية الفلسطينية. لا بل إنهم كانوا يستغلون فترات الاستراحة والغداء ليستفسروا منا عن الكثير من التفاصيل غير الواضحة لهم عن "البلاد".
لعل هذا الحدث غريب، ولكنه حدث فعلاً. عندما التقيت بالطالب الإندونيسي "ترمذي محمد" الذي يدرس العلوم الشرعية "الإلاهيات" في جامعة إسطنبول، وهو يتقن العربية التي تعلمها قبل سنوات في القاهرة، رفض السلام علي لأنه ليس على وضوء، وأصرّ على أن يذهب يتوضأ ثم يأتي للسلام وإكمال الحديث. وقفت مندهشاً من غرابة المشهد، ولكنه برر ذلك لاحقاً بحبه الشديد لفلسطين، وأن التعامل مع قضيتها وأهلها يجب أن يكون على طهارة كما قال! وراح يسألنا عن أسماء بعض أئمة المساجد الذين كانت ترسلهم وزارة الأوقاف في غزة لإمامة المصلين بصلاة التراويح في إندونيسيا وماليزيا خلال شهر رمضان المبارك ويطلعنا على الصور التي جمعتهم سوياً.
عند الحديث عن حب فلسطين لا نجد أكثر من ذلك الحب المُشبع بالمعرفة بقضية فلسطين عند طلاب أهل المغرب العربي، خاصة الجزائر. فهم يعتبرون فلسطين قضيتهم الأولى، وحبها من حب بلادهم. التوانسة أيضاً كانوا كذلك، فمحمد أو كما ينادونه حَمّه، صديقي من تونس، وناشط في حركة الجبهة الشعبية التونسية، وعندما التقيته أول مرة، كان يعلق سلسلة في رقبته فيها خريطة فلسطين بأسماء المدن، وعلم فلسطين على الوجه الآخر. يقول إنه هدية طالب فلسطيني في تونس منذ سنوات، وما زالت معلقة في عنقه إلى الآن، كذلك هو يتابع باهتمام الأخبار المحلية الفلسطينية، وكثيراً ما نتناقش بها سوياً.
أما خير الدين، وهو طالب جزائري سكنّا معاً العام الماضي، فانتبه ذات مرّة إلى أنّ الطلاب داخل السكن خلال حديثهم ونقاشاتهم السياسية يستخدمون مصطلح "إسرائيل" بدلاً من الصهاينة أو الاحتلال، فقطع علينا الحوار مرة واقترح أنّ من يخطئ ويقول "إسرائيل" مرة أخرى بدلاً من الاحتلال يدفع غرامة 5 ليرات تركية (1.5$) توضع في صندوق خاص نسميه فلسطين، ثم تُجمَع الأموال، ونصدر فيها مجلة تنشر الوعي عن فلسطين بالإنجليزية والتركية وتوزع على الطلاب.
في إحدى المحاضرات كانت الأستاذة تتحدث عن ثقافات الشعوب المختلفة. طلبت مني أن أقف أمام الطلاب وأتحدث عن الثقافة العربية وخاصة فلسطين، بصفتي الطالب الأجنبي الوحيد وقتها في القاعة. أخبرتهم عن الفروقات بين المجتمعات العربية المختلفة وبسّطتُ لهم صورة المجتمع الفلسطيني القروي، وكيف تقام فيه الأفراح. تحدثت عن الأكل والتعليم ومخيمات اللاجئين وأين هي منتشرة. وخلال الحديث سأل أحد الطلاب عن العملة النقدية في فلسطين، وعندما أخبرته أننا نستخدم عملة الاحتلال الإسرائيلي، وأن العملة الفلسطينية القديمة "الجنيه الفلسطيني" أُلغي العمل بها مع انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين وقدوم الاحتلال الإسرائيلي، لم يتفهم الطلاب الأتراك أن هذا يمكن أن يكون جدياً! فأعادت المُدرسة السؤال باستغراب: "هذا يعني أنكم تستخدمون عملة احتلالكم غصباً عنكم؟"، ثم قالت:" لماذا ﻻ نعرف شيئاً عن هذه التفاصيل؟ بل إن البعض تم تلقينه أنكم بعتم أرضكم للإسرائيليين، وأن هناك مشاكل بينكم دون الخوض في جزئياتها!". وحين قالت ما قالت، لمعت دموع لم تستطع كتمها في عينيها لاحظها كل من كان في القاعة.
وهناك أيضاً سينام إيرأوغلو، وهي طالبة تركية تدرس اللغة العربية في جامعة إسطنبول. تعرفت إليها في أحد المطاعم الفلسطينية في إسطنبول. اكتشفت أنها تُعطي فلسطين جزءاً أساسياً من حياتها، فتشارك في الفعاليات الخاصة بها وتقرأ الكثير عنها، ولا تترك مؤتمراً عن فلسطين إلا وتشارك به. كذلك تعرف تفاصيل عن حياة الناس في الأراضي المحتلة، ولا سيما غزة، وتزين شنطتها بميداليات فيها مفتاح العودة وخريطة فلسطين، وفي معصمها ترتدي إسورة مطرزة بالطريقة التقليدية الفلسطينية، وصورة قبة الصخرة خلفية لشاشة هاتفها المحمول. تسعى سينام لإيجاد طريقة ما تمكنها من زيارة فلسطين دون أن تدخل ضمن التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، فجواز سفرها التركي يمكّنها من زيارة فلسطين المحتلة بسهولة، لكن معرفتها بتفاصيل القضية تمنعها من أن تكون جزءاً من عملية تطبيعية مع الاحتلال دون رغبة.
لكن كما قلنا، إن السكن الطلابي يحوي من كل الألوان، فكما هناك المناصرون والمتعاطفون، هناك أيضاً الكارهون. في إحدى المرات انتقلنا للعيش في سكن طلابي جديد تعرف فيه إلينا طالب قال إنه من كولومبيا. كان يتحدث العربية والإسبانية والإنجليزية وبعض العبرية. هذا يعني أنه يستطيع التواصل مع أغلب الطلاب، فتسلسل إلى بعضهم يسألهم على انفراد عن رأيهم بـ"إسرائيل"، محاولاً ترويج الرواية الصهيونية من خلال القول إنه ذهب إلى القدس وتل أبيب والضفة المحتلة وشاهد الواقع، وأن ما نسمعه في الإعلام من "تحريض" على "إسرائيل" محض افتراءات بعيدة عن الواقع! وأن هذه الخلافات يجب أن تتوقف ويعيش الطرفان معاً بسلام. وسرعان ما انتبه له الطلاب وأجبروه على مغادرة السكن، وبدأنا بحملة توعوية نحدث فيها الطلاب الذين التقى بهم عن الاحتلال وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني، والتاريخ الذي يحاول سرقته وتزويره، وفعلاً غادر ذلك الطالب السكن دون أن يعرف أحد إلى أين توجه.
هذه المواقف وغيرها من اليوميات التي نعيشها هنا، تجعلنا نؤمن بأننا كطلاب فلسطينيين، بمثابة سفراء لقضيتنا، وتحثنا على العمل على استغلال هذه الغربة لفتح عيون العالم على الظلم، ومحاولات الإبادة التي نتعرض لها في فلسطين المحتلة وفي الشتات، ظلم يرزح شعبنا تحت نيره الثقيل منذ 68 عاماً، وما زال يزداد شراسة ووقاحة بالتوازي مع تنامي جهل العالم لحقيقة قضيتنا.