تونس | كنتُ في بيتها، بعد أيام من انتهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، في إطار عملي الصحافي لإنجاز عدد من القصص الإنسانية حول أهالي الشهداء، وما جرى معهم خلال الحرب. بعد محاولات عدة، وافقت الفتاة أخيراً على عقد اللقاء معها، وسط تعقيدات أمنية، بدت غريبة وقتها، من قبل التنظيم الذي كان ينتمي إليه زوجها. ما السبب لكل هذا؟
أمن أجل مقابلة أرملة شهيد ما، لا يزيد عمرها على 26 عاماً؟ اعتقدتُ بأن وراء المسألة "قصة صحافية دسمة"، إلا أن لقاءنا خيّب آمالي إلى حد بعيد: ما قدمته من تفاصيل كان محبطاً للغاية.
التقطت عيناها الواسعتان الذكيتان إحباطي. قالت فيما كنتُ أستعد لأخذ أغراضي، وقد لاحت على وجهها ابتسامة واسعة غريبة:
أرى أنك محبط...
دعيني أكون صريحاً معكِ: أنا كذلك بالفعل! فالاحتياطات الأمنية التي تم اتخاذها قبل إجراء هذه المقابلة أوحت إليّ بأنني سأعود إلى مكتبي بقصة فريدة من نوعها، إلا أن النتيجة كانت مخيبة للآمال كما ترين!
نظرت إلى قريبها الذي حضر اللقاء معنا. كان يبدو محل ثقتها. لمعت بعدها عيناها بنظرة لم أفهمها، وهي تقول: "لستُ أدري ما الذي يدفعني إلى الوثوق بك. حسناً. سأعطيك القصة التي تريد، لكن بشرط: ألا تنشر منها حرفاً واحداً. ستبقى محفوظة لديك إلى أن تتاح الفرصة ذات يوم لنشرها. اتفقنا؟".
توقفتُ عن إغلاق حقيبتي، ونظرتُ إليها متمعناً: لقد استيقظت "حاستي الصحافية" بشكلٍ قوي. تأملتها لحظتها بفضول كاسح: ما القصة التي تمتلكها هذه الفتاة ولا تريد أن يعرفها احد، على الأقل، في الوقت الحاضر؟؟

■ ■ ■


القاعدة الأولى لتحليق الأقحوان:
"إذا كنت لا تعرف الحب، فما يجديك شروق الشمس أو غروبها؟"
أمين معلوف

■ ■ ■


كان الأمر مؤلماً جداً بعد استشهاده. لك أن تتخيل أرملة في العشرين من عمرها، ولديها طفل في السنة الأولى من عمره، وفي أحشائها الطفل الثاني! كان ذلك في العدوان الإسرائيلي الذي وقع أواخر عام 2008. وقتها اتخذتُ قراراً مصيرياً بعد تفكير معمق: قررتُ البقاء في شقة الزوجية الخاصة بي وأن أرعى ابنينا أنا و"عمار" هناك، رافضة أن أتركها لأعود إلى بيت عائلتي، كما جرت العادة.
أتذكر هذا اليوم جيداً: كان اليوم الخامس بعد استشهاده. دخلتُ إلى غرفة نومنا الخاصة، وقد تأملتُ أغراضه، وأتأمل ألبوم صورنا: هذه صور خطوبتنا وزفافنا. صورنا في بيت الزوجية وبمناسبات عائلية مختلفة. ها نحن معاً مع "يامن"، طفلنا الأول، وابتسامة تلمع في عينيه تماماً كالشمس. كانت آخر صورة تجمعنا معاً، قبيل استشهاده، وأنا حامل بابني الثاني "بشار". أغلقتُ الألبوم، وشرعتُ في البكاء.
تخلصتُ من الكثير من الأغراض الخاصة التي لا ضرورة لها: "الماكياج" وغيرها من الأمور التي لم أعد بحاجة إليها. كانت معضلتي هي: كيف أتصرف مع أغراضه هو؟ بعد أيام طويلة من التفكير، قررتُ الاحتفاظ بكتبه وأوراقه، ووزعتُ ملابسه الغالية المحدودة كصدقة عن روحه لعددٍ من المعارف ذوي الفاقة الذين أعرفهم...

■ ■ ■


القاعدة الثانية
"وكن من أنت حيث تكون...
واحمل عبء قلبك وحده...".
محمود درويش

■ ■ ■


انتهت حصتنا التدريبية في الصالة الرياضية المخصصة لتمارين الرشاقة، قبل أن نجتمع في بيتي. كنا سبعاً من أرامل الشهداء، جمعنا القدر من حيثُ لا ندري. جزء منا التقى عندما كانوا يذهبون لأخذ مخصصات أسر الشهداء من الجمعيات الخيرية، فيما تعارف البعض الآخر في مناسبات أخرى، لتجمعنا نشاطاتنا الجماعية الخاصة بنا، قبل أن تجمع شملنا الصداقات المشتركة، لتصبح أخوَّتنا متينة، وتزيدها نشاطاتنا معاً قوة، كتبادل الكتب والآراء بخصوصها، وممارسة الرياضة في الصالات المغلقة، من تمارين الرشاقة والجري والسباحة وغيرها، في القاعات المخصصة للرياضة النسائية، رغم ندرتها وارتفاع تكاليفها، في قطاع غزة.
يوماً بعد يوم، وجدنا أنه رغم اختلاف ثقافاتنا ومشاربنا بل وحتى أدياننا ــ كان هنالك بيننا مسيحيتان. تخيّل هذا! ألم فقدان أزواجنا وحّد بين قلوبنا إلى حد بعيد، إلى درجة أننا أصبحنا لا نفترق إلا لنلتقي من جديد معاً، برغم مسؤولياتنا ومشاغلنا المختلفة: "رشا"، تلك الفتاة الجميلة، المائلة إلى القصر، بقوامها الرياضي، والمرحة دوماً، شعلة متقدة من النشاط. و"حنان"، بقوامها الفارع المائل إلى الامتلاء، وخجلها وصمتها الدائمين. "ليلى"، الطبيبة الفلسطينية المسيحية، التي تخرجت في إحدى الجامعات الروسية، وقد قتلت القوات الإسرائيلية زوجها، عندما كان يؤدي واجبه كطبيب. ثم "جمانة": أكثرنا رجاحة في العقل، وأذكانا وأكثرنا ثقافة وهدوءاً في الوقت ذاته. "بسمة" النحيلة، بمرحها الجنوني المتناقض مع نقابها الذي تغطي به وجهها. لا تتخيل ساعات المرح التي كنا نحظى بها، إن التقت كل من "رشا" و"بسمة" معاً. لم نكن نتوقف عن الضحك لساعات!
وأخيراً: هنالك "ريناتا"، أوكرانية تعمل مدرّسة لعزف آلة الكمان في معهد إدوار سعيد للموسيقى بغزة. كانت قد تعرفت إلى زوجها في بلادها عندما قدم لدراسة الهندسة هناك، فيما كانت هي أيضاً طالبة في المعهد العالي للموسيقى، ليتزوجا وتقرر القدوم معه إلى قطاع غزة. استشهد زوجها في استهداف لأحد الطواقم الفنية الذي كان يحاول إصلاح أحد خطوط المياه الرئيسية في غزة، خلال عدوان عام 2008، لتقرر أن تبقى هي في غزة وحيدة، رغم أنها بلا أولاد، وتستمر في تقديم دروس الموسيقى، معتبرة أن "فلسطين" أصبحت بلادها أيضاً.
كانت اجتماعاتنا محط أنظار معارفنا وأقاربنا، الذين كانوا يتأملون "أخوّتنا" و"الروابط العائلية" القوية التي جمعتنا، التي فاقت في قوتها متانة روابط الدم والقرابة، فكان المتابعون لنا من هؤلاء يتأملون اختلاف أفكارنا وعقلياتنا وأساليب تفكيرنا ومعتقداتنا، قبل أن يرددوا باستغراب، المثل الفلسطيني المعروف: "شو اللي لمّ الشامي ع المغربي"؟!
لكن اجتماعنا الأخير معاً، بعد ذلك التمرين الرياضي بالذات، كان مختلفاً تماماً عن بقية الاجتماعات الأخرى، حيثُ كانت الكلمة فيه لـ"رشا"، التي قدمتْ أغرب اقتراح مرّ علينا جميعاً...

■ ■ ■


القاعدة الثالثة
"إن الذي تبحث عنه... يبحث عنك".
جلال الدين الرومي

■ ■ ■


قالت "رشا" للرجل الواقف أمامها: "أرجوكم. امنحونا هذه الفرصة. لقد جئتك للمرة الثالثة، فلا تخيب ظني...".
اسمعيني جيداً يا أختاه: قراري واضح ولن يتغير. عودي إلى منزلك فهو أفضل لنا ولكِ...
كانت هي في أحد مواقع تدريب المقاومة، التي كان زوجها يتدرب فيها، حيثُ يعرفها رفاقه، وكان ذاك الرجل هو قائده. طلبت منه مراراً تدريب عددٍ من النسوة على السلاح، كي يكنّ جزءاً من المعركة ضد الاحتلال، محاولة إقناعه بأن الحجج التي قدمها لرفض طلبها واهية، وأن المرأة كانت دائماً جزءاً مهماً في المعارك وفي نضالات الشعوب والأمم، حتى في بدايات ظهور الإسلام، وفي وقت النبوة بالذات، ولكن من دون جدوى.
ما الذي جعلها تشعر بأن الأمر مختلف رغم رفضه؟ أهو ذلك الرجل الأشيب الواقف بجوار قائد زوجها مع بعض مساعديه، متابعاً محاورتهما بهدوء وإصغاء؟ قررت أن تقوم بـ"ضربتها الأخيرة" أمامهم جميعاً. خاطبت القائد بحزم: "لا تستهن بي لأني امرأة. سأريك ما أستطيع القيام به". تأملها الرجل بنظرة ساخرة، قبل أن يتبدل مضمون نظرته إلى الاستغراب، وهي تقول له بهدوء: "أعطني تلك البندقية هناك!". كاد يجيب بالرفض، لولا تدخل الرجل الأشيب ساعتها: "أعطوها ما تريده. دعونا نر ما ستفعله!". وسط نظرات استنكار القائد، أمسكت البندقية باحتراف، تأملتها بنظرة خبيرة، قبل أن تقول بثقة: "بندقية كلاشينكوف من صناعة صينية!"، ثم نزعت مخزن الطلقات من مكانه، لتخرج إحداها باحترافية واضحة، وتأملتها سريعاً قبل أن تردد في ظفر"... ورصاص روماني الصنع! جميل"! أعادت الطلقة والمخزن إلى مكانهما. توجهت بعزم إلى ميدان الرماية، حيثُ توقف جميع المتدربين عما يفعلونه، وابتعدوا مشكلين حولها نصف دائرة، فيما كانت هي تتأمل الأهداف المخصصة لتدريبات الرماية. تأكدت من وجود الطلقة في "بيت النار"، لتبدأ الإطلاق على الأهداف البعيدة عنها عشرات الأمتار، من دون أن تهتز يدها.
توقفت، ليتم تشخيص إطلاقها للرصاص: لم تخطئ هدفاً واحداً. قالت لهم بهدوء مبررة المسألة: "كان زوجي "رمزي" من أمهر المدربين في المقاومة، وقد دربني على السلاح وإطلاق الرصاص خلال رحلاتنا الخلوية، حيثُ كان يشتري الرصاص من جيبه لأجل ذلك خصيصاً. والآن ما رأيكم؟".
كان من الواضح أن المسألة نالت استحسان الرجل الأشيب، الذي بدا أعلى مرتبة بكثير من القائد في التراتبية. قال بهدوء: "موافق، لكننا لا نستطيع تدريبك وحدك". «هنالك ست صديقات أخريات لي، جميعهن من أرامل الشهداء، وأتوقع أنهن يردن المشاركة والأخذ بالثأر. سأقترح عليهن المسألة، لكنني أريد موافقتك المسبقة لتدريبنا جميعاً".
لاحت ابتسامته الهادئة، وهو يقول: "حسناً. أنا موافق...".

■ ■ ■


القاعدة الرابعة
"إن الطريق مظلم وحالك. إن لم أحترق أنا وتحترق أنت، فمن ينير لنا الطريق إذاً؟"
أرنستو تشي غيفارا

■ ■ ■


عدنا منهكات ومتعبات، بعد يوم شاق للغاية، تماماً مثل بقية أيام تدريبنا المتفرقة. لا تتخيل كم كان برنامج تدريباتنا متعباً، كان المدربون صارمين معنا إلى أبعد حد: الجري السريع لوقت طويل، والزحف بأنواعه المختلفة، والقفز عن الحواجز وسط اشتعال النار من حولنا، والخوض في الأوحال والطين وبركة ماء صغيرة اصطناعية، حيثُ تم إنشاء كل تلك الموانع خصيصاً لتدريبنا، وغيرها من التدريبات الأخرى التي تواصلت لشهور، في أوقات مختلفة من الليل والنهار.
كان من الواضح أن مدربنا الأول أراد بقسوته جعلنا نندم على فكرة انضمامنا إلى الكفاح المسلح. بدا ذلك واضحاً من نظراته الساخرة، واستهانته بنا، وأنه كلما بدا التعب علينا، صاح قائلاً: "أهكذا أصابكن التعب بسرعة؟ أنتن لم ترين شيئاً بعد! المسألة ليست لعبة مثلما كنتن تتخيلن، ومن تعبت منكن تستطيع الانسحاب فوراً". لم تنسحب أي منا طبعاً، وقررنا تحديه ببذل المزيد من الجهود، حيثُ كانت تساعد كل واحدة منا الأخرى وتشجعها. كانت أيام تدريبنا متفرقة بما يتناسب مع ظروفنا الحياتية: في حال وجود تدريبات ليلية، كانت الواحدة منا تختلق الأعذار لأهلها، تاركة أولادها لديهم ــ إن كان لديها أولاد مثلي ــ مدعية أنها ستقضي ليلتها عند إحدانا، فيما كانت أمور التدريبات النهارية أفضل إلى حد ما.
تولت "رشا" قيادة المجموعة، بحكم أنها أكثرنا خبرة ودراية. كنا نتدرب والأقنعة على وجوهنا طوال الوقت، حماية لهوياتنا التي لم يكن يعرفها سوى عدد محدود من الأشخاص القياديين، وهو الأمر الذي أثار سخرية "رشا"، التي قالت ضاحكة لـ"بسمة"، مثيرة بيننا زوبعة من الضحك كعادتها: " أمسرورة أنتِ الآن؟ ها قد أصبحنا جميعاً منقبات مثلكِ، حتى "ليلى" و"ريناتا" المسيحيتان!". كنا لا نعرف المدربين ولا يعرفوننا إلا بالأسماء الحركية، كما أنهم كانوا أيضاَ ملثمين أمامنا. عندما بدأنا المرحلة الثانية من التدريب، حيثُ بدأنا نتدرب على السلاح لأول مرة، جاءنا مدرب جديد كان واضحاً أنه أكثر براعة وخبرة من سابقه في مجال التدريب: على يديه بدأنا نفهم كيفية التعامل مع السلاح. فهمنا ساعتها أن المسألة ليست امتشاقك للسلاح واستعماله بكفاءة، بل أيضاً كيفية تحركنا معاً في تناغم وتنسيق كامل كمجموعة. كان الهدف من كل تلك التدريبات بناء مقاتلين من الصفر، حيثُ ساعدتنا ممارساتنا للتدريبات الرياضية ولياقتنا الجيدة، فضلاً عن عزيمتنا القوية، ومن ثم بدأت التدريبات تأخذ منحى آخر، عندما بدأ تدريبنا على تنفيذ مناورات جماعية من قبل مجموعتنا، باستعمال مختلف الأسلحة التي تدربنا عليها، مثل الرشاشات، والقنابل اليدوية، وقاذفات الصواريخ المضادة للدروع، وغيرها من الأسلحة الأخرى.
المرحلة الثالثة من التدريب كانت هي الأكثر صعوبة وخطورة: كان علينا الإقامة داخل الأنفاق المخصصة للمقاومة لأيام متتابعة، من أجل تدريبنا كي نكون "وحدة كوماندوس"، مثلما طلبنا. وافقت القيادة العامة للمقاومة بعد شهور طويلة، وإلحاح شديد وإصرار منا على هذا الطلب، كي يفهموا جميعاً أننا كـ"نساء" نستطيع القيام بمثل ما يقوم به الرجال تماماً، بل وبطريقة أفضل أيضاً. أنتَ "ذكر" ولن تستطيع فهم العقدة التي كنا وما زلنا نحن "النساء" نعاني منها في مجتمعاتنا العربية: دائماً يُنظر لنا على أننا "عورة" و"أقل قدرة في التفكير والإنجاز" من الرجال، ليس في ميدان المقاومة، بل في مختلف الميادين أيضاً. طاردت هذه العقدة فريقنا، وقد أثبتنا خطأ هذا الاعتقاد مراراً ومن خلال حجج مختلفة. قلنا لهم: "ألا ترون أن الثورة الفلسطينية قدمت من الأمثلة ما يدحض ذلك؟ شادية أبو غزالة. تيريز هلسا. دلال المغربي. ليلى خالد. ألسن نساء؟". المشكلة أن هذه العقد موجودة لدى عدونا أيضاً: إيهود باراك، الذي كان مسؤولاً رفيع المستوى وقت تنفيذ عملية دلال المغربي، لم يصدق أن قائدة المجموعة الفدائية امرأة، إلى درجة أنه كشف عن ملابسها الداخلية، ليتأكد من ذلك!!
كانت عقدة الفريق أننا نريد اسماً مميزاً لنا نحن، يميزنا عن بقية مجموعات المقاومة الأخرى. فكرنا ملياً في العديد من الأسماء، إلى أن اقترحت علينا "جمانة" اسم "مجموعة الأقحوان": اسم أول تنظيم نسائي فلسطيني مسلح، والذي أسسته مهيبة خورشيد عام 1947. وافقنا عليه بالإجماع، لتصبح زهرة الأقحوان رمزنا، وليكون شعارنا: "ليحلق اسم "الأقحوان" عالياً..."!

■ ■ ■


القاعدة الخامسة
"إنه يبدو مستحيلاً... إلى أن يتم تحقيقه".
نلسون مانديلا

■ ■ ■


كان علينا تنفيذ عمليتنا الأولى، بعدما استمرت تدريباتنا القاسية على مدى عامين. أنهينا الاحتفال الرسمي، الذي اقتصر على عروض قدمناها أمام القياديين في المقاومة، وسط نظرات الإعجاب الشديد بما نقوم به. أما احتفالنا الخاص، فكان في منزل "تاتيانا"، حيثُ مرحنا كثيراً. كنتُ أتأمل أفراد مجموعتي واحدة تلو الأخرى، بكل ما فيهن من تفرد وقوة: ما الذي ينتظرنا؟ إن الانتهاء من التدريب يعني أننا سننتقل إلى "خطوط المواجهة الساخنة" حتماً. عام 2014، وجدنا أنفسنا أمام الاختبار الحقيقي: تم نقلنا خلال العدوان الإسرائيلي في تلك السنة، إلى منطقة الأنفاق الموجودة في الخطوط الأمامية، بمنطقة التفاح، شرق مدينة غزة: كان معنا في تفريعة أخرى من النفق، رجال كي يكونوا بمثابة "وحدة إسناد" لنا، فيما أخذت تفريعة النفق الخاص بنا خصوصيتها بحكم وجود "مجموعة الأقحوان" النسوية هناك.
مع احتدام المعارك، طلبت منا القيادة أن نقوم بتدمير إحدى الدبابات، من طراز "ميركافا"، بالقرب من مخرج النفق الخاص بنا. قررتْ "رشا" أن أقوم أنا وإياها بتنفيذ العملية: خرجتُ زاحفة من النفق، على ظهري حاملة بين يديّ العبوة المخصصة للتفجير، فيما كانت "رشا" تمسك سلك التفجير الخاص بالعبوة، وتسيطر على حركته، بحكم أن عبوتنا ستنفجر سلكياً. عندما وصلتُ إلى أسفل الدبابة بالضبط، خرج جندي إسرائيلي من برجها. تجمدتُ عن الحركة. هيأتُ مسدسي للإطلاق. لحسن الحظ، أن المسألة لم تستغرق أكثر من ثلاث دقائق تقريباً بتقديري، بدت كأنها ثلاث سنوات. نظرتُ حولي، ومن ثم قررتُ أن أخرج من أسفل الدبابة زحفاً أيضاً... ولكن من دون أن أُبقي العبوة أسفلها! جن جنون "رشا" التي راحت تناديني همساً بهستيريا، من دون أن تتخلى عن السلك، الذي يربط العبوة، بين يديها: ""ريم"! ماذا تفعلين أيتها المجنونة؟!". غير بعيد عن الدبابة، كان هناك ناقلة جنود من طراز "نمر"، حيثُ وضعتُ العبوة أسفلها، قبل أن أنهض جرياً لأدخل فوهة النفق، وليتم تفجيرها بنجاح. قلتُ لها وأنا ألهث: "بحسب ما تلقيناه في تدريباتنا، فإن ناقلة الجنود أخف تدريعاً، وبالتالي كان من الأفضل وضع العبوة هناك، حيثُ ستكون حصيلة الانفجار أكثر من الجنود القتلى، في حين أن تدريع الدبابة قد يحدّ من وقوع أية خسائر تُذكر".
قالت لي بحزم: "ولو! هذه المرة الأخيرة يا ريم التي يتم فيها عصيان أوامر القيادة. هل فهمتِ؟". أديتُ لها التحية العسكرية بجدية تامة وعدتُ إلى مكاني، منتظرات بهدوء. قررنا هذه المرة استخدام مخرج آخر للنفق الذي كنا فيه لضرب الدبابة ذاتها، التي بقيت رابضة في مكانها، ولكن هذه المرة باستخدام صاروخ مضاد للدبابات، من طراز خاص خارق للدروع. قررت "رشا" أن من سينفذ العملية هذه المرة هُما "تاتيانا" و"جمانة". خرجت الاثنتان من مخرج النفق الآخر، واختبأتا بالقرب من منزل، فر سكانه بفعل الحرب، كان يبتعد عن الدبابة بضعة أمتار. كانتا تدركان استحالة تنفيذ المهمة عملياً، بحكم معرفتهما أن قاذف الصاروخ سيطلق لساناً من اللهب طوله أربعة عشر متراً، ما يعني أن احتراقهما سيكون مؤكداً، وهذا ما يعني فشل العملية وضرورة عودتهما. فوجئت "تاتيانا" بـ"جمانة" وهي تذهب باتجاه المنزل المهجور، آخذة من حبل الغسيل غطاء كان منشوراً عليه، لتعود بسرعة وتسكب عليه الماء الموجود في حافظتي المياه الخاصتين بهما، ومن ثم لتغطيتهما معاً بعد تعديل وضعية المدفع المضاد للدبابات وهي تقول: "هيا! صوبي بدقة وأطلقي. لن نسمح بفشل عمليتنا أبداً! ينبغي أن يعرف الجميع من هم أفراد "مجموعة الأقحوان""!
أطلقت "تاتيانا" قذيفتها، ليصيب خيط اللهب الخاص بالصاروخ ساقي "جمانة" بحروق، فيما لم تصب هي بشيء يذكر ساعتها، وليتم تفجير الدبابة بشكل كامل! اندفعت كلتاهما نحو فوهة النفق بسرعة، حيثُ كانت "جمانة" الأسرع في دخول النفق، برغم حروقها لأنها لم تكن تحمل المدفع المحمول على الكتف الذي تحمله "تاتيانا". بقي بين هذه الأخيرة وفتحة النفق ثلاثة أمتار تقريباً، ليسطع ضوء شديد، يصاحبه دوي رهيب: كانت "تاتيانا" ملقاة على الأرض، مبتورة الساقين، بفعل صاروخ من طائرة استطلاع إسرائيلية. استغللنا الغبار المتعالي، لتقوم "رشا" بإلقاء حبل لها، وسحبها إلى داخل النفق سريعاً. نظرت إلينا جميعاً ونحن نحيط بها، ثم إلى ساقيها المبتورتين، قبل أن تقول عبارة باللغة الروسية، ثم أسلمت الروح! كانت "رشا" تبكي، وهي تبلغ القيادة أننا استطعنا تنفيذ العمليتين، لكن "الأقحوان" خسر ""تاتيانا"، التي كانت أجمل زهرة بيننا، ولا تقل إخلاصاً عنا جميعاً. سألتُ "ليلى"، من بين دموعي: "ما الذي قالته "تاتيانا" قبل أن تموت؟". تجاهلتني واستمرت في النحيب...

■ ■ ■


القاعدة السادسة
"...بكلمات أخرى: أنت لم تُهزم... ما لم تترك المعركة...".
خوسيه موخيكا

■ ■ ■



انتهى العدوان الإسرائيلي أخيراً، بعد واحد وخمسين يوماً من الذكريات الرهيبة علينا. استطعنا أخيراً أن نثبت للجميع أننا لا نقل عن زملائنا الرجال في المقاومة عزيمة وشجاعة وإقداماً، وهو ما عزز ثقة القيادة بنا، لتتخذ قراراً بتعميم تجربتنا، ليصبح "الأقحوان" الاسم الخاص بالمجموعات النسوية للمقاومة، والذي سيجمع العديد من النماذج النسوية الاستثنائية، وهكذا عاد الدور النسوي الريادي ليظهر من جديد وبقوة في كفاحنا الفلسطيني المسلح. كنا قد دفنّا "تاتيانا" في مقبرة المسيحيين الموجودة في مدينة غزة، حيثُ صلى عليها كاهن أرثوذكسي في حضورنا نحن، في ظل غياب أهلها. لم يعرف أحد كيفية استشهادها، كما أننا أصررنا على ألا يفتح أحد التابوت، وقد احترم الجميع رغبتنا، وخاصة أن "ليلى"، صديقتها المقربة، والمسيحية الأرثوذكسية مثلها، كانت حاضرة معنا. بعد دفنها، اقتربت مني "ليلى"، لتقول لي فجأة ومن دون مقدمات: "لقد كانت تقول بالروسية، قبل استشهادها: هل سيتاح لي أن ألتقيه في الجنة؟ أنا مسيحية وهو مسلم! هل تمكنني من ذلك يا رب؟". لقد كانت تتحدث عن زوجها الراحل يا ريم". ثم أجهشت بالبكاء طويلاً...