الدانمارك | في ليلة ليست ككل الليالي. حالكة الظلام شديدة البرودة، لا يمزق صمتها إلا اصوات الانفجارات ورشقات الرصاص المتتالية التي لا تهدأ، ومعه رعب الأطفال الذي لا ينتهي أبداً، اشتدت أصوات الرصاص وبدأت تتعالى في شارعنا أصوات رجال ينادي بعضهم بعضاً. جميع السكان التزموا منازلهم يبحثون فيها عن زاوية آمنة لأولادهم. الأطفال يبكون تارة ويهدأون تارة أخرى، والنساء في توتر شديد لا يعرفن ماذا يفعلن. أما الرجال، فمنهمكون بالإنصات إلى ما يجري خارجاً.ليلة قاسية بأصوات انفجاراتها، والأقسى أننا لا نعرف ماذا يجري خارجاً. أدركنا الفجر ونحن مستيقظون، وعند اكتمال الضوء بدأنا ندرك أن الأمور أصبحت خطيرة، وأنّ علينا الرحيل. وبغريزة الخوف في داخلي على عائلتي، صرخت بهم أن "هيا، أسرعوا، خذوا الضروري جداً وودّعوا بيتكم، علينا الرحيل الآن"!
نزلنا الدرج بحذر شديد. كانت مجموعة من الجيران تفعل ما نفعله. أمام البناية، شاهدت بعض الرجال المسلحين، فسألتهم: "هل بإمكاننا الخروج؟"، فأجابوا: "نعم، ولكن بحذر شديد. انتبهوا، فالأوضاع خطرة جداً".

هكذا، بحذر شديد، متسللين ببطء وصمت لصق الجدران ومن تحت أسقف الشرفات، بدأت رحلتنا. حملت ابنتي الصغيرة، فيما أمسك ولداي بي، ومشت زوجتي خلفنا. بدأنا المسير من "حيّ التقدم" حيث كنا، إلى داخل مخيم اليرموك. لم يكن هناك وقت لألتفت إلى ما حولنا. التركيز كان على السلامة، سلامة الأولاد وسلامتنا. لكني في ما بعد استعدت تلك الوجوه التي رأيتها في طريقنا، وعلقت في مخيلتي. وجوه ليست كتلك الوجوه المعتادة: في كل حارة رجال مسلحون، ومنهم ملثمون، والمشهد مرعب تماماً، ولا تكاد تخلو منطقة من إطلاق النار. أولادي يبكون، وزوجتي تكاد تنهار، والطريق لم تنته. لا بل إني شعرت بأنها لن تنتهي أبداً.
وفي إحدى الحارات، أمرنا أحد الرجال بالوقوف والانتظار، لأن هناك معركة مشتعلة في الحارة الأخرى. مرت علينا هذه الدقائق والرعب يلفّنا والموت يحيط بنا. وفجأة صرخ بنا الرجل: "الآن. هيا، أسرعوا. اركضوا من هنا بسرعة كبيرة واحذروا".
استجمعت كل قواي وتشبثت بابنتي الصغيرة، فيما تمسّك أولادي بسروالي بشدة. كانت زوجتي خلفنا، وركضنا بكل ما نملك من قوة إلى الحارة الثانية. لم نصدق حين وصلنا أننا وصلنا، والحمد لله استطعنا. تابعنا المسير واجتزنا "شارع العروبة"، وهناك بدأت الوجوه تختلف. وجوه أقرب إلى تلك المألوفة، وجوه مطمئنة ومتعبة. قال لنا أحدهم: "اطمئنوا. أنتم الآن في مخيم اليرموك، ولن يصيبكم مكروه".
تابعت طريقي إلى "دوار فلسطين" في المخيم. لكن أصوات الانفجارات والرصاص لم تتوقف. لم أشعر بارتياح إلا حين وصلنا إلى بيت أقاربنا في دوار فلسطين، حيث أمكنني أن أنام أخيراً بعد ليال عدة لم أنم ولم ينم فيها أولادي. تناولنا قليلاً من الطعام ونمنا. بعدها أخذت الأخبار ترد عن حيّنا: "حيّ التقدم قد أخذته وسيطرت عليه مجموعة مسلحة، والاشتباكات هناك في أوجها".
يا إلهي! ماذا يجري؟ إنه مخيم اليرموك. إنه بقايا الوطن. إنه الحلم والأمل. هل سنفقد ما بقي لنا؟ أسئلة لم يكن لدي عليها أدنى جواب. ومع اقتراب المساء ونحن في دوار فلسطين بدا التوتر يصيبني والخوف على عائلتي يزداد بقوة. وقررت أن أنتظر الصباح لأغادر مع عائلتي إلى أعماق المخيم.
بزغ الفجر وكنت على استعداد. هكذا، أيقظت الأولاد وغادرنا مسرعين إلى بيت أصدقاء لنا في عمق المخيم. حارات ليست كالحارات... حزينة كانت حارات مخيمي. جدرانه تكاد تبكي مما يجري. هل انتهى مخيم اليرموك؟ خوف كبير من الإجابة! يا الهي! ماذا يحصل؟ تابعنا المسير وأنا متوتر خوفاً من قذيفة هاون أو أي شيء مفاجئ. وأخيراً، وصلنا إلى غايتنا بجوار ثانوية اليرموك.
بعد ساعات قليلة من وصولنا، كنت أقف أمام الباب مع صديقي حين شاهدت عشرات أو مئات الرجال المسلحين ينتشرون في شوارع المخيم. هنا، أدركت أن اليرموك انتهى وعلينا المغادرة.
هكذا، حملت عائلتي وتوجهنا إلى شارع اليرموك، وإذا بنا نُفاجأ. يا الله! ماذا أرى؟ آلاف مؤلفة من الناس تحمل حقائبها وتغادر! كأنه يوم الحشر: الناس في هرج ومرج.
مشينا حتى اجتزنا اليرموك وأنا لا أدرك إلى أين أذهب أو ماذا أفعل. انعدم التفكير نهائياً. تابعنا المسير خارج المخيم متوجهين إلى الزاهرة الجديدة، وهناك استقبلنا أقاربنا، ونمت تلك الليلة وأنا أفكر: إلى أين سأذهب؟ وماذا سيحل بنا بعد مغادرة اليرموك!؟
بدأت رحلة النزوح. بدأت التغريبة الثانية والطريق التي لن تنتهي، ولا نعرف متى ستنتهي.
آلاف مؤلفة غادرت اليرموك. غادرت الوطن. لعنة أصابتنا ولا ندري إن كانت ستنتهي أو أنها أبدية.
وللحديث بقية.