شبه إجماع فلسطيني على أن الأقطاب السياسية، من السلطة حتى قوى المقاومة، لم تبن على تطورات الهبّة الجماهيرية في القدس، ولم توفر لها البيئة الحقيقية لإنضاج استراتيجية وطنية قادرة على مواجهة الاحتلال، في خواتيم عام شهد جموداً سياسياً خارجياً (الدولة الفلسطينية ومفاوضات التهدئة) وداخلياً (ملفات المصالحة والأزمات المعيشية). وفي آخر أيام 2015، ظهر أن إسرائيل لا تزال تعوّل على دور السلطة في قمع أي حراك في مدن الضفة، فضلاً عن جهودها الأمنية في تطويق دوائر الاشتباك.
ينسحب الجدل نفسه على الوضع الاقتصادي الذي يتفق الجميع بشأنه، على أن 2015 عام الفقر والبطالة في الأراضي المحتلة، خصوصاً قطاع غزة، الذي لا يزال يرزح تحت الحصار ويدخل عامه العاشر في ظله، بالترافق مع تراجع حادّ في خدمات «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ــ الأونروا»، سواء على صعيد فرص التوظيف أو العمل المؤقت، وكذلك المساعدات الإغاثية وملف الإعمار.
وتعكس حالة الجدل القائمة بين الشباب، تباين آراء القوى الوطنية والإسلامية في حماية الهبّة الشعبية، ففي الوقت الذي تؤكد فيه حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» بصفتهما رأس حربة في المقاومة، ضرورة استمرار الانتفاضة، تبحث السلطة عن أفق سياسي لإحراز تقدم في عملية التسوية، وقد اعترف بذلك خلال الشهر الماضي، كبير المفاوضين، صائب عريقات.
لكن جريمة حرق المستوطنين في الواحد والثلاثين من تموز الماضي، منزل عائلة دوابشة في قرية دوما شرق نابلس وهم نيام، والتسبب في استشهاد الرضيع علي دوابشة ثم الوالد سعد والأم ريهام متأثرين بجراحهما الخطرة، ونجاة ابنهم أحمد (3 سنوات)، كانت هي المحرك الأساسي لاندلاع شرارة الهبّة الشعبية.
بلغت نسبة البطالة بين الشباب في غزة نحو 60%

وبرغم الخطوة التي اتخذها «المجلس المركزي لمنظمة التحرير»، الذي يرأسه محمود عباس (أبو مازن) في الثالث من آذار الماضي بوقف التنسيق الأمني بكل صوره مع الاحتلال، في ضوء عدم التزامه الاتفاقات الموقعة بين الجانبين، فإنه لم يدعم الحراك الشعبي في مدن الضفة، بل سعت السلطة بوضوح إلى القضاء عليها بالاستدعاءات وقمع التظاهرات. واللافت وجود انقسام مجتمعي حول نتائج الاحتجاجات. فعلى بعد أمتار من الاشتباكات على الحواجز في مدن الضفة، كانت الحياة تسير بوتيرة طبيعية، فيما كانت الحالة مشابهة في غزة، حيث لا يزال الشبان يواصلون رشق الثُّكَن العسكرية المقامة على أطراف القطاع الشرقية والشمالية، بالحجارة، الأمر الذي أوقع أكثر من 140 شهيداً، في المناطق الفلسطينية، في آخر ثلاثة أشهر.
وعلى ما يبدو، حاولت السلطة استثمار الحراك الشعبي لغاية استكمال مشروعها السلمي الذي بدأته بالانضمام رسمياً إلى «محكمة الجنايات الدولية»، والحصول على مزيد من الاعترافات بدولة فلسطين (السويد واليونان والفاتيكان)، لتشكل ضغطاً على الاحتلال واستئناف المفاوضات. وكان اللافت أن مصادر إسرائيلية كشفت النقاب عن طلب السلطة إجراء مفاوضات سرية لوقف «انتفاضة القدس»، مقابل بحث القضايا المفصلية (القدس، وحق العودة، والاستيطان).
في المقابل، رأى خصوم السلطة من الفصائل أن هذا الأمر محاولة لإجهاض الحراك الشعبي، وتقديم مزيد من التنازل بحق القضية الفلسطينية، وعابوا على السلطة مواصلة سياسة التنسيق الأمني.
أما على جبهة غزة، فلم يلمس أي تفكك للحصار القائم، ولم تخلق حالة الاشتباك على حدود القطاع أي بادرة لتخفيف الضغط عن مليوني إنسان يعيشون واقعاً اقتصادياً واجتماعياً متردياً، فيما لا تزال حالة الجمود تسيطر على العلاقة بين حركة «حماس»، التي تدير القطاع، ومصر. ولم تفلح كل خطوط الاتصال بين «حماس» والأطراف الدولية، في كسر العزلة التي يعانيها القطاع إلى الآن، برغم الزيارات المتوالية لوفود أوروبية ودولية إليه. كل الزيارات اقتصرت نتائجها على تصريحات على سبيل التعاطف الإنساني مع الفلسطينيين، في الوقت الذي قدمت فيه تلك الدول دعماً حقيقياً لإسرائيل على الصعيد العسكري والسياسي، خصوصاً الهند التي وقّعت اتفاقية أسلحة بمليار دولار مع إسرائيل في تشرين الأول الماضي.
من الجدير ذكره، أن معظم المحافل الدولية التي زارت رام الله خلال العام المنصرم، فضلت الالتقاء بصورة منفصلة مع رئيس الوزراء الفلسطيني، رامي الحمد الله، بعيداً عن رئيس السلطة، بما يعكس محاولة ترسيخ الفصل في التعامل مع أقطاب السياسية الفلسطينية، خصوصاً الرئاسة ورئاسة الوزراء. وأبرز هؤلاء وزير الخارجية الأميركي جون كيري، والأمين للأمم المتحدة، بان كي مون، ورئيس الوزراء اليوناني، أليكسيس تسيبراس، إضافة إلى الرئيس الهندي براناب مخرجي، وعدد من السفراء العرب والأجانب. كذلك سافر عباس إلى اليونان وسويسرا ومصر والسعودية والأردن والولايات المتحدة في زيارات متعددة الأهداف.
في غضون ذلك، لا يمكن تجاهل أن وتيرة الإعمار التي تسير في غزة بطيئة للغاية، وهو أمر يعكس رغبة إسرائيل وحلفائها في ضرورة مواصلة الضغط على الغزيين. وشكل تراجع «الأونروا» عن تقديم خدماتها واعتماد سياسة التقشف، عبئاً إضافياً على الفلسطينيين المحاصرين في غزة، بحجة وجود أزمة مالية خانقة.
أيضاً، واصلت القاهرة عداءها ضد غزة، في ما يسمى عملية تأمين حدودها مع القطاع، بعد بدء الجيش المصري في أيلول الماضي ضخ كميات كبيرة من مياه البحر في أنابيب عملاقة مدها في وقت سابق على طول الحدود، من أجل تدمير أنفاق التهريب أسفل الحدود عبر إغراقها، وذلك بعد عمل كبير لتدمير قطاع عرضي قدره كيلومتر من مدينة رفح المصرية، الأمر الذي قوبل باستهجان الفصائل، وخاصة «حماس»، دون أن تقدّم السلطة أي موقف معارض حيال هذا الإجراء.
جملة هذه الأحداث هي ترسيخ للحصار المفروض على غزة، ومحاولة للدفع باتجاه الضغط على «حماس»، التي تواجه غضباً شعبياً واسعاً بفعل مواصلتها فرض مزيد من الضرائب على المواطنين، علماً بأن الحالة الاقتصادية بلغت مستوى غير مسبوق من التدهور؛ وفقاً لآخر إحصاءات، بلغ عدد المتعطلين عن العمل 200 ألف مواطن، و41.5% هي نسبة البطالة في الربع الثاني من 2015 في غزة، كذلك بلغت البطالة بين فئة الشباب أيضاً نحو 60%، علماً بأن أكثر من مليون غزي يتلقون مساعدات إغاثية، ما يمثل 60% من السكان.
إضافة إلى ذلك، يعمل نحو 45 ألف موظف في غزة ظلوا يتلقون ما نسبته 40% من الراتب طوال السنة الماضية، بفعل الأزمة المالية التي تعانيها «حماس»، فيما ترفض السلطة منحهم رواتبهم حتى بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني في حزيران 2014.
الحالة الاقتصادية المعقدة، ألقت ظلالاً واسعة على شعبية «حماس» في غزة، التي بات ينظر إليها على أنها سبب رئيسي في الحصار، خصوصاً بعدما تذرعت القاهرة بتمنعها عن فتح معبر رفح بسبب وجود أفراد الأمن التابعين لـ«حماس» على المعبر. ودفع هذا الأمر ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي إلى تدشين هاشتاغ (#سلموا_المعبر)، الذي أثار سخط الحركة الإسلامية، ولكنها لم تقدم أي بادرة فعلية لحل المشكلة، التي يعاني بسببها آلاف العالقين من مرضى وأصحاب احتياجات إنسانية وطلاب يحتاجون إلى السفر.
وزادت حادثة اختطاف أربعة شبان مسافرين من عناصر «حماس» العسكريين، في العشرين من آب الماضي، أثناء مرورهم بالأراضي الأراضي المصرية، دون الكشف عن هوية الخاطفين حتى اللحظة، الطين بلة، بين الحركة والقاهرة، إثر اتهام الأخيرة باختطافهم في سيناء.
وخلقت هذه الحادثة توتراً شديداً بين الطرفين لا يزال مستمراً حتى اللحظة، خصوصاً أن الجيش المصري يقف بالمرصاد ضد أي محاولات لاجتياز الحدود على الجانب الفلسطيني، وقد بدا ذلك واضحاً في حادثتي قتل الصياد محمد البردويل (44 عاماً)، في الثاني عشر من أيار الماضي، وكذلك قتل المواطن إسحاق حسان، الذي قيل إنه مختل عقلياً في الرابع والعشرين من الشهر الماضي.
وهذه القطيعة بين غزة والقاهرة، هي جزء من انسداد أفق العلاقة مع الوسط العربي، في ضوء استحواذ الملف السوري واليمني والنووي الإيراني، على اهتمام العالم، الأمر الذي دفع «حماس» في الساعات الأخيرة من 2015 إلى البحث عن بدائل عن حليفيها المعروفين (قطر وتركيا)، وذلك بإجراء مباحثات عالية المستوى مع طهران لإنهاء القطيعة بين الطرفين.
وتعوّل الحركة، التي ترفض قطعاً تسليم المعبر على اعتبار أنه ورقة اللعب الوحيدة في يدها مقابل السلطة، على تحول جذري في المنطقة يخلق لها أفقاً أوسع لتطوير علاقاتها وكسر جدار العزلة، بجانب الانفتاح النسبي أمام السلطة، التي ترفض القبول بالتسليم بدفع رواتب موظفي «حماس». كذلك تحاول الأخيرة وبعض قوى المقاومة في غزة، المراكمة على مخزونها الصاروخي بعد استنزاف جزء كبير منه في المواجهة التي اندلعت في تموز 2014، وتبث وسائل الإعلام العبرية بين حين وآخر نبأً عن إطلاق صواريخ تجريبية من غزة في عرض البحر، كان آخرها في تشرين الأول الماضي.
إلى جانب ذلك، تحرص أجنحة المقاومة في غزة على تقديم استعراضات عسكرية في الشوارع، وهو أمر يحمل مضمونين: الأول أن المقاومة تواصل استعدادها لأي مواجهة قادمة برغم الهدوء على جبهة غزة منذ التهدئة في آب 2014، والثاني رسالة داخلية بالنسبة إلى «حماس»، بأنها لن تسمح بحصول عصيان مدني وما شابه، اعتراضاً على إدارتها للقطاع، وقد حدث أن قمعت ناشطي إنهاء الانقسام في الرابع عشر من آذار الماضي.
وبالعودة إلى حالة الجدل التي لن تنتهي بكتابة هذا الحصاد، فهي لا تزال متواصلة بين فئات كبيرة من الشباب، وحتى بين أقطاب العمل السياسي الفلسطيني في ضوء انسداد الأفق، وبقاء المستقبل مفتوحاً على المجهول، خصوصاً أن لا أحد من الفلسطينيين يملك إجابة حتى هذه اللحظة، عن السؤال: نحو أي مسار تتجه القضية الفلسطينية؟




سنة سيئة على الأسرى

على صعيد الأسرى الفلسطينيين، يمكن القول إن العام المنصرم هو الأسوأ، لأنه شهد تصاعداً واضحاً في حالات الاعتقال بحق النساء، وتحديداً في مدينة القدس المحتلة، حيث رصد مركز أسرى فلسطين للدراسات (291) حالة اعتقال لنساء وفتيات على يد الاحتلال، من بينهن مسنات تجاوزن 60 عاماً. وشهد 2015 اعتقال أطفال لا تتجاوز أعمارهن 14 عاماً، بدأت بالطفلة ملاك الخطيب، التي أمضت ثلاثة أشهر في السجون قبل إطلاق سراحها، مروراً باعتقال عدد من الفتيات بعد إصابتهن بالرصاص الحيّ بحجة نيتهن تنفيذ عمليات طعن لجنود أو مستوطنين، لا يزال منهن 4 جريحات في السجون، إضافة إلى ست قاصرات أخريات.
كذلك اعتُقلت في العام الماضي، النائبة في المجلس التشريعي، خالدة جرار، من رام الله، وصدر حكم بالسجن الفعلي لمدة 15 شهراً بحقها. وإلى جانب هذه الظاهرة واعتقال نحو ألف فلسطيني بسبب الهبّة الشعبية، برزت ظاهرة جديدة هي اعتقال الفتيات والنساء على خلفية كتابات على مواقع التواصل الاجتماعي، الذي يرى فيه الاحتلال تحريضاً على استمرار العمليات، وهو لا يزال يحتجز خمس أسيرات بحجة «التحريض»، اثنتان منهن من داخل أراضي الـ48.
ومع دخول فصل الشتاء أصعب أوقاته نهاية العام، لا يزال آلاف الأسرى الإداريين والمحكومين يعانون أصعب لحظات سجنهم، فيما أفرج عن عدد من الإداريين الذين خاضوا إضرابات فردية، لكن بعض الأسرى المرضى لقوا حتفهم داخل الزنازين.