"لقد بلغَ هذا الشخص الحد الأقصى من الأصدقاء ولا يمكنه قبول صداقتك، يمكنك متابعته بالضغط على زر المتابعة إن أردت".
■ ■ ■


لكثرة ما فقدنا من أصدقاء منذ بداية الثورات العربية، وصولاً إلى الانتفاضة الفلسطينية، كان الهاجس الأكبر الذي يسيطر علي، هو أنهم ما زالوا على قيد الحياة.. فيسبوكياً! ولطالما عدت إلى صفحاتهم مبالغاً في وهمٍ لا أريد أن أعبّر عنه لكي لا أتهم بالسوريالية.

مؤخراً، دخلتُ صفحة الشهيد بهاء عليان الذي طعن مستوطنين في الباص في القدس، فقتل ثلاثة منهم. وكعادتي حاولت أن أقرأ كلّ ما كان قد كتبه الشهيد على صفحته، فأنسى الوقت وأنا أعود بمنشورات الصفحة إلى أعوامٍ خلت. هكذا، تتخبط روحي بين الحسرة على خسارته، والفرحة بما تدل عليه تلك المنشورات من صدق وعمق وتوثيق الكلمة بالفعل. ثم أعود لأكتشف أن عمره يوم استشهاده كان اثنين وعشرين ربيعاً، وهذه النقطة بالتحديد تعود لتؤكد لي أن جيل الثمانينيات، الذي أنا منه، كان جيلاً مخذولاً وخاذلاً وجباناً في أغلب الوقت. هذا الجيل الذي وُلد في نهايات العمل الفدائي ودُجِّن في انتماءات ضيقة لا تمُتّ إلى التحرير بصلة.
من الملفت للنظر أن العقل الجمعي تلقّف فكرة الطعن الفلسطيني كأيقونة للانتفاضة بحلتها الجديدة، انتفاضة لا تشبه غيرها من حيث المعطيات السياسية والاقتصادية والتاريخية. فأغلب من قاموا بعمليات الطعن هم من الشباب المثقف الذي لا يعاني من أعباء مادية شديدة، بل من وعي وطني وأخلاقي هزّته غطرسة الصهاينة التي علينا دائماً أن نضع حدّاً لها. فالصهاينة، النازيون الجدد، يساوموننا دائماً على صبرنا وعلى تحجيم أحلامنا. لكنهم من حيث لا يدرون، يأخذون بنا إلى أملٍ جديد. ولعلَّ هذا الأمل سيشفي صدورنا بسكاكينَ تقود الثورة الحقيقية. فقد تبين للفلسطيني في الفترة الماضية، أن جميع العرب، حكوماتٍ وشعوباً، لديهم نفس طويل على القتال. والجميع يقاتل بكلّ ما يملك حتى آخر نفس. وأن كل الرعب النووي والوهم من أن العدو قادراً على تدمير البلاد بلمحة عين، كان وهماً حقاً! فلا الشعوب وفّرت غضبها، ولا الحكومات رفّت جفونها وهي تدمر بلادها حجراً حجراً. والفرق البسيط أن أسلحة الجميع الثقيلة والخفيفة باتت بلا بوصلة، أما سكين الفلسطيني فهي البوصلة بحدّ ذاتها.
بهاء عليان الذي دخل موسوعة غينيس بأطول سلسلة قراءات حول القدس، والمتابع من قبل الآلاف على الفيسبوك، والذي شارك بنشاطات ثقافية مهمة على مستوى مدينة القدس، يعلمنا أن التشبّث بما نملك من إنجازات هو تشبث الضعفاء. فقد استطاع بلحظة أن يتفلت من كل هذه الأوهام وأن يخرج للطعن متجرداً من كل شيء إلا من فلسطين.
إن صح القول في الأشخاص المتحررين إلا من عقيدة الوطن فإن لحظة الشجاعة لديهم أثناء الطعن يمكن لها أن توزع على أمةٍ كاملة فتنقلها من الخنوع إلى الطلوع، ومن الرياء إلى النقاء، ومن "تعريص" الطرق السلمية - كما يقولها مظفر النُواب- إلى الحرية.
هذه المرة سوف نقود الانتفاضة من دون رأيٍ عام عربي واسع يركز جرحه في فلسطين، فجروحه باتت تباهي جرحنا، والجميع بدأ ينافسنا على المركز الأول في عدد القتلى والجرحى وأشكال التعذيب والموت. وأبطال الشاشة الزرقاء يتسابقون على المقارنة: بين ما ارتكبه النظام السوري وما ترتكبه إسرائيل.
ولنكن صريحين، فإن أحداً منهم لا يُبرئ صفحة إسرائيل بوعيٍ مقصود بقدرِ ما يحاجج بسادية لا واعية بأن الموت السوريَّ أشد وأقسى من الموت الفلسطيني! وكأنّ الموت نسيَ فلسطين في لبنان والعراق وسوريا وليبيا والبحرين واليمن. ولذلك كلّه لا بدّ لنا من انتفاضةٍ تُخرج الأبيض من الأسود، لا بد لنا من انتفاضةٍ تعيد تشكيل إيمان المنطقة خارجَ دائرة الحسين ويزيد. لا بد لنا من انتفاضة تؤكد أن الموت العربي من المحيط إلى الخليج ممهورٌ بأختامٍ وطوابعَ إسرائيلية. لا بد لنا من انتفاضةٍ تذكر السذج الذين أصبحوا مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي أن الطعنات الفلسطينية موجهة لمستوطنٍ سكن البيت بدلاً مِنا، وليست لمدنيين إسرائيليين أبرياء من نظامهم كما في بلاد العرب. لا بد لنا من انتفاضةٍ تضع أبو مازن وزبانيته على بغالٍ ووجوههم للخلف تاركين أطفالنا يمارسون أوسخ ألعابهم الصبيانية على موكبهم السافل.
هل مطلوبٌ منا نحن اليائسين أن نتفاءل في ظل كل هذا اليأس؟
نعم.. فللسكينِ هنا لحنٌ أجمل للجرح، لا تشبه سكينَ داعش وأخواته، لا تهيئ الذبيحة قبل الذبح للشاشات، بل تأخذها على حينِ غرة وتحفر في جرحنا لُتخرِج منه ما تكدس من تجلطات. آهٍ أيتها السكين، لو تمرين على قلبي وتأخذين نبضةَ واحدة قبل أن تزرعي هذا الحقد في صدرِ مستوطنٍ. ما أجمل هذه الأيادي التي تطعنُ دون خوفٍ أو تردد في زمنٍ يتردد فيه الأخ قبل الصديق في أن يقول لا.
في أحد وصايا الشهيد بهاء عليان كتب على حائطه منذ عشرةِ أشهر "لا تبحثوا على ما كتبته قبل استشهادي بل ابحثوا ما وراء استشهادي".
أضحكْتني من خيبتي يا بهاء! ولكن كيف لنا أن لا نقف مطولاً قبل استشهادك لنستجلي عظمته، يحق لنا الآن أن نقول: إلى الوراء إلى الوراء. فهذه رايةٌ لو تلقفتها الأمةُ كما رسمتها بموتك الجميل لما تأخر أحدٌ عن طريق القدس.