محادثة «سكايب» (1)
«إنو هيك اللي إلو أبو ما بسأل عنه؟»، يسألني أبي عبر السكايب.
لا أسارع للرّد وتبرير انشغالي عنه وعن عائلتي بالعمل وبطفلي الصغير، هذا الأخير أساساً لا يترك لي مجالاً لألتقط الكلمات الآتية من فلسطين عبر الكابلات. «ليره ليره ليره...». يقول جواد الجليل، ثم يتوقف لحظة، ممسكاً قلماً للتلوين. أخمّن في رأسي أي حائط سيكون ضحيته، مع ذلك فهو لم يفهم بعد أن بإمكانه الخربشة على الجدران، فقد اعتاد الخربشة على مساحات بيضاء فارغة من الورق، أو على كتبي.
«يا سيدو... حبيبي جواد». في فم جواد قطعة شوكولاته، أعطيته إياها ليتلهى، يقترب من شاشة السكايب. يمدّ يده ليطعم جده، أبي. أرجو أن تتوقف عن الكلام أيها الطفل، ليس الكلام بل ربما «الترغله» كما فهمت أن هذا اسمها هنا. في عينَي أبي مسحة حزن لم أرها من قبل، وأنا أعرف بأنه يغفر لي هذا الانشغال عنه بعدما تحول التركيز في حياتي إلى العمل. هل أقول له إنني أحلم في الليل بما سأكتبه في الغد، وإنه لو كان بجانبي ورقة وقلم لكنت خطيتها؟ انتبه إلى أني أبالغ بعض الشيء، وأن في حياتي أموراً أخرى عليّ أن أنتبه لها.
وأخيراً يلتهي الطفل بألعابه. «ليه زعلان دخلك؟» أسأل أبي. يجيب: «الله يلعن آل سعود وكل حدا واقف بصفهن». أتمنى في دخيلتي لو أن الكلام يتوقف عند هذا الحد، فأمام الوالد كأس ويسكي زجاجها متعرق. يا إلهي، الآن سيبدأ الحديث عن السياسة، فيما على الخط الآخر شخص مجهول يمسك كوب قهوة أميركية في يده، مستغرقاً في تسجيل كلامنا (نعم، أعرف ذلك واتوقعه). أجازف: «شو مالهن آل سعود شو عملولك؟». «ولك قطعوا بث قناة المنار، تخيلي طيب أنا وين بدي أشوف السيد حسن وأسمعه؟».
أستغفر الله العلي العظيم. «إنو ع شو قاتل حالك تشوف المنار؟ قناة مذهبية منيح اللي قطعوها». أحاول تغيير الحديث كي يفهم أبي أن عليه التوقف. يعرف أنني أكذب، ومع ذلك فهو يستمر في كلامه: «ممكن توكلي هوا؟ وتوقفي هبل وبياخه؟ طز باللي عم يتسمع».
هُنا أرجّح أن الويسكي بدأ يأخذ مفعوله جيداً: «والله العظيم، وحياة جواد لأرجّعها! أنا بفرجيهن!».
الحمد لله إنني في لبنان. أشكر الرب العظيم ومعه سياسو الجمهورية على نعمة قطع الكهرباء. خي! ينقطع الاتصال، قبل أن يستغرق أبي في حديثه.

******
«الدب القطبي» في محل تبديل العلب

لا يبدو عليه الهمّ، مع ذلك لا أعرف ما الذي يضطره إلى تجميع العلب الفارغة وبيعها. ملابسه ليست رثة. لماذا أستهجن ذلك إن كانت سارة نتنياهو بنفسها (زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي) تفعل ذلك؟ امرأة وقحة باعت علب وزجاجات البيرة والمشروبات الروحية لتقبض ثمنها، بعدما سرقت مبلغاً من خزينة الدولة لتحتفل مع رفاقها في منزل هو أساساً مسروق من مال الدولة.
يدخل الرجل (يهودي من أصول روسية) محل تبديل العلب، جارّاً خلفه كيسين كبيرين ممتلئين بزجاجات الفودكا الفارغة، فيما عرقه يسيل من دون توقف، أمّا رائحته فهي مجموع ما في الكيس من زجاجات.
- شالوم (مرحباً بالعربية).
- شالوم أوفراخاه (أهلاً وسهلاً).
- شالوش، لبروتشيني إنفورماتسيا (للروسية اضغط على الرقم ثلاثة). أضحك طويلاً وأنا أسترجع ما تقوله عاملة الهاتف، ففي بلادنا المحتلة أكثر من 90 جنسية عليها مراعاتها.
- كين أدوني ما أتاه روتسيه؟ (تفضل سيدي ما الذي تريده).
- أني(غ) وتسيه كيسيف! (بدّي مصاري).
- تين لي لرأوت كاما بكبوكيم يش ليخاه؟ (دعني أعرف كم زجاجة معك).
- شيش ميئوت (600).
- إز اتاه روتسيه مميني شيش ميئوت شكاليم (إذن تريد مني 600 شاقل).
- كين كين... (نعم نعم).
يقترب الرجل الروسي من أذني، ينفث رائحة الفودكا التي خزنتها أنفاسه منذ زمن طويل قد يمتد إلى ما قبل هجرته إلينا.
- أدوني... أني شماعتي شيش لخيم – أتيم هع(غ)افيم - سميم طوفيم، بو كولو خيمي، أني روتسيه سميم مهآغيتس خشيش، كونبوس كولو طوف بشفلي (سيدي... سمعت أنه يوجد عندكم – أنتم العرب – مخدرات جيدة، هنا جميعها كيميائية، أريد مخدرات من قلب الأرض حشيش أو قنبص جميعها جيدة بالنسبة إليّ).
لا أعرف إن كان عليّ أن أضحك أو أصفعه على الأقل، وفي هذا الموقف المحرج جداً يجب قول كلمة واحدة تختصر المشهد: (أكلنا هوا)!
- خفيفي، إين لانو سميم كاخ إت هشيش ميئوت فليخ مبوه... إتسل يهودي تيمان يش قات أتاه يخول لليخت لكيبوتس أح يهود شماه يش قات طوف مؤود (حبيبي، ما في عنا مخدرات، خذ الستة مئة وانصرف... عند يهود اليمن هناك قات، بإمكانك الذهاب إلى مستوطنة أح يهود هناك قات جيد).
- ما زيه أح يهود... فإيفو هي؟ (شو هي اح يهود ووين؟).
- استغفر الله العظيم عَ هالنهار!
- خراشو (ماذا بالروسية).
- شوم دفار أدوني، كيبوتس اح يهود زيه ليد عكو، فهو هآرتس شل همشورير مخمود درويش إم أتاه يوديع أوتو، فبعرفيت أنحنو كورإيم لو البروة (سلامتك ولا شي سيدي، مستوطنة أح يهود تقع بجانب عكا، وهي بلد الشاعر محمود درويش إذا كنت قد سمعت به، وبالعربية اسمها البروة).
- هقات طوف؟ (القات جيد؟).
- كين كين... بن زوناه اتاه أو ما؟ ليخ مبو يالا! (نعم نعم... أنت ابن عاهرة أم ماذا؟ انصرف من هنا هيا).
- أدوني لماه أتاه تسوعيك؟ (سيدي لماذا تصرخ؟).
-شوم دفار، يش لي عسكيم ليخ مبو فإم لو عسيتا أز أنيه أكريه لمشتراه! (لا شيء، لدي عمل، وإن لم تذهب فسأتصل بالشرطة).
- لو... لو... لو تساريخ كول كاخ، أني عغشاف هوليخ لأح يهود فإكنيه قات، فمحار اني روتسيه لببو إيليخاه لهفي لخاه قات (لا لا... الموضوع ليس بحاجة لكل ذلك، الآن سأتوجه إلى أح يهود وأشتري القات، وغداً سآتي إليك به).
-أني لو روتسيه خرا قات ليخ كوس إيما شلخاه (لا أريد خرا قات اذهب ك.. أمك).
- يقتنع الرجل أخيراً بالذهاب، فيما يروي الشاب القصة لوالدي.
- أين هو هذا الرجل؟
-لا أعرف إنه يأتي كل يومين تقريباً، ومعه مئات الزجاجات الفارغة.
-عندما يأتي في المرة المقبلة دعني أتحدث معه!

*****

كيف بنرجّع «المنار» ع الجليل؟

- كين أدوني ما شومخاه؟ (نعم سيدي كيف حالك؟).
- بيسيد(غ) غمور (جيد جداً).
- أريد اقتناء صحن روسي كالذي عندك في المنزل.
- ومن قال لكَ إن عندي صحناً روسياً؟.
-أنت روسي، ولذلك لا بد أن يكون عندك، الشاب الذي تبيعه الزجاجات قال لي ذلك.
- نعم نعم الشاب بني آدم بالرغم من أنه يصرخ.
- متى ستحضر لي واحداً؟.
-غداً.. غداً.
*****
محادثة سكايب (2)
قسمات وجهه تضحك لدرجة أنك حتى لو استعنت بمفك للبراغي لن تستطيع شدها.
-الله أكبر رجّعنا المنار، والمرّة الجاي بس يحكي السيد حسن بدنا نشوفه ونسمعه غصباً عن آل سعود والخليج العربي كله! (يقول أبي عبر السكايب).
كأس الويسكي تترنح في يده على وقع حركته، ومع ذلك فأنا أناشد شركة كهرباء لبنان أن تستمر في توفير التيار لنا، ليتحدث في السياسة ويشتم آل سعود ما الفرق؟ فأنا منذ ثلاث سنوات لم ألتقِ به لأنه ممنوع من السفر، ولو التقينا سيستمر في شتمهم والتعبير عن فرحه من دون أن يتخلى عن كأسه!
يصدح صوت أحد مذيعي قناة المنار. هذه المرّة لم ينقطع الاتصال بفضل كهرباء لبنان، لكن صوت التلفاز العالي في الجليل قد شوّش على سمعي هنا... في صيدا!