هدوء الثلث الثاني من الليل يحمل في طياته العتمة والملل، وينذر بفجر متهالك، كنتُ وقتها أتفرس شاشة حاسوبي ما بين "بوستات الفيسبوك" المقيتة، وأهرب أحيانا منه إلى كتاب يتحدث عن شريعة ما. مبيتي في الطابق الثاني من بيتنا يجعلني أقرب للأصوات التي تثير الحواس خارجاً، منها ما يكون طبيعياً كالأحوال الجوية، وعبور القطط والكلاب بالقرب من أسفل الشباك، ومنها ما يستدعي مني أن أترك فراشي أو مقعدي وأعمل كبرج مراقبة ليلي.
وفي ذات الثلث من الليل، عشية اليوم الثاني لعيد الأضحى، لم يكن حفيف الأشجار الذي يأتي من الأسفل عبر الشباك يوحي بحركة طبيعة، فصوت أشجار الخريف المتساقطة تحمل تحتها وقع أقدام ثقيلة، أقدام بشرية من نوع مفترس يتعدى افتراس بعض الممالك الحيوانية، ترجلت عن تختي وقذفت حاسوبي جانباً وأطفأت إنارة الغرفة، وتدليت بنصف جسمي العلوي عبر الشباك الشرقي، ويممت بصري إلى الأسفل، حيث الشجرة تغطي جزءاً كبيراً مما يحدث في الأسفل، لكن ليست الشجرة وحدها ما أعاقت بصري ومعرفتي بما يتحرك ويحدث، بل تواطأت معها العتمة أيضاً.
حاولت أن أفتح عيوني بأكبر قدر ممكن باتجاه مكان الأصوات الصادرة، وانتظرت بؤبؤي عيني بالتوسع أكثر، علني أرى شيئاً، لكن كل ما استطعت أن أعرفه في لحظة العمى تلك، بأن هناك حركة بشرية كثيفة داخل سور بيتنا، طيلة فترة وقوفي على الشباك والتي لا تتعدى الثلاث ثواني، اعتقدت في بادئ الأمر أن هذه الحركة البشرية ما هي إلا مجرد شبان فضلوا استخدام محيط بيتنا للعبور. إلا أن حالة العمى تلك تفاقمت بعد أن اخترق ضوءٌ ساطع بصري من بعيد، ردعني وأعطاني تحذيراً ما بالابتعاد عن الشباك والدخول، بدأت الهواجس تتقلب وتغلي، فالموضوع لا يشي بأن ما يحدث سيفضي إلى نتيجة آمنة، تراجعت عن الشباك وفكرت باتخاذ موقع آخر لمعرفة تلك الحركة البشرية التي تدور في محيط بيتنا، لكن كان صوت الصراخ القادم من الطابق الأرضي أسرع مني، كان صوت صراخ أخي الأكبر محمد، بعد أن استيقظ على كشافات جنود الاحتلال فوق رأسه، دخلوا البيت دون أن يطرقوا الباب أو حتى يكسروه، لقد فتحوه بكل سلاسة، لأنه لم يكن مقفلاً ليلتها بالمفتاح، وكان هذا خطأي أنا كوني كنت آخر الداخلين إلى البيت ولم أقفله.
دخل رهط من الجنود إلى البيت وقدموا أنفسهم بالعبرية إلى أخي الأكبر، بأنهم من "جيش الدفاع الإسرائيلي"، تعريف لا ضرورة له، أو أن هذا التعريف عن أنفسهم في قواميسهم من لزوم ما لا يلزم، في تلك اللحظة نزلنا، أبي وأختي الكبرى راية وأخي الأصغر عصام وأنا من الطابق العلوي إلى الأرضي، أشعل أبي مفتاح إنارة الدرج، نزلنا دفعة واحدة فارتبك الجنود بالأسفل ووجهوا بنادقهم صوبنا نحن القادمين من الأعلى، وصلنا أول عتبة الطابق الأرضي، فتشوا بعضنا، وسألنا أحد الجنود عن أسمائنا وأعمارنا، توجهت أختي الكبرى إلى الغرفة التي كانت تبيت فيها بقية أخواتي الصغريات اللواتي كن قد استيقظن وأغلقن باب الغرفة على أنفسهن منعاً من اقتراب الجنود، وبعد مشادة بين الجنود وأبي، توصلوا إلى إبقاء أبي مع أخواتي في الغرفة، ونصحنا أبي بذات الاقتراح كي يبقى بجانب أخواتي خوفاً من أي ضرر قد يمسهن من همجية الجنود، إلا أن هذا لم يوقف المشادات الكلامية التي كانت العبرية لغتها. ومن هبات هذه الليلة، بل هبتها الوحيد، أن أمي لم تكن متواجدة في البيت تلك الليلة، فقد قررت المبيت في بيت جدتي بصحبة خالاتي.
أما نحن الإخوة الثلاث، فقد أقعدنا الجنود في ردهة البيت الفسيحة، وسألونا عن بطاقات هويتنا، بطاقة أخي محمد كانت قريبة في الطابق الأرضي، فأمره الجند بالذهاب لإحضارها، هويتانا -عصام وأنا- كانتا في الطابق العلوي، فسألت الجندي كطالب مجتهد: "أروح أجيبها؟"، فردني بالسلب ورفض وطلب مني الجلوس على الأرض العارية، وكذلك الأمر بالنسبة لبطاقة هوية عصام فكانت بالطابق العلوي، إلا أن أحد الجنود طلب من عصام أن يصطحبه إلى الأعلى ليجلب هويته، وقلت لعصام في ذات اللحظة عن مكان هويتي ليجلبها معه أيضا، ذهب عصام إلى الطابق العلوي ومعه بضعة جنود، لم نعلم ما كان يحدث وقتها بالأعلى تماماً، فقط كنا نسمع حركات أٌقدام الجنود، وصعودهم على الدرج.
وفي ذات اللحظات كانت المشادات تتقطع بين الجنود وأبي في الغرفة المجاورة التي يجلسن فيها أخواتي، وبقينا محمد وأنا جالسين على الأرض في الردهة، سأل أخي محمد - الذي بدت عليه علامات الغضب والتوتر بعد أن استفاق من نومه بطريقة مرعبة- أحد الجنود الذي عرف عن نفسه فيما بعد بأنه الضابط: "بتدخلوا البيت وبتفتحوا الباب بدون إذن؟"، كان سؤالاً استنكاريا لا يحتاج لإجابة، لم يسمع ضابط الاحتلال السؤال من أول مرة، فكرره محمد عليه مرة أخرى، فأجابه الضابط بصرامة ونبرة غاضبة: " بستنى في إذن منك عشان أدخل". واستمر المشهد بالتراشق الكلامي، فشتمت ملة وإله أحد الجنود الذي كان يقف بالقرب منا – محمد وأنا- فرد الجندي بإسكاتي بإشارة من وجهه الملثم وبعبارات عبرية لم أفهمها، أو يوجه بندقيته نحوي، أو يقترب مني ليحاول ضربي برجله، فيضربني أحيانا، وأحيانا أخرى يقوم بالصراخ في وجه أخي محمد بالنيابة عني، وضربه ركلاً في بعض المرات القليلة، بدلاً من زجري وضربي أنا.

بعد دقائق، كان أخي الأصغر عصام ابن الاثنين والعشرين ربيعا، يهبط من الدرج قادماً من الطابق العلوي، بعد أن اصطحبه بضعة جنود ليجلب هويته على حد طلبهم وقتها، إلا أنه مكث معهم بالأعلى برهة من الزمن، نزل عصام وكان يلبس لباساً للخروج والمغادرة، وكنزة طويلة الأكمام، مرتدياً بنطاله وجواربه، لماذا بدل ملابس النوم بملابس الخروج؟ كانت ملامح وجهه تلبس لباس الجدية والحزم، وغرته تتمايل يسرة ويمنة من فرط شموخ رأسه وقامته الطويلة، وصل أسفل الدرج وانتعل حذاءه بتمهل ولامبالاة، وأمسك به الجنود، حاولنا أن نقترب منه لنلقي عليه تحية، ولو حتى بائسة، إلا أن الجنود أبعدونا وطلبوا مني ومن أخي محمد بالعودة للجلوس على الأرض، وكذلك أمروا أبي وأخواتي بالابتعاد مستخدمين الصراخ والتهديد والشتم كأسلحة لا تفارقهم، لم يكن هؤلاء الجنود يحلمون بالزنابق البيضاء كما قال شاعرنا الرقيق، أبعدونا عن الباب قدر الإمكان واقتادوا عصام خارج باب البيت، خطفوه قبل شروق الشمس بساعات قليلة، وسيرجع مع شروق الشمس.