القدس! أهي طريقنا الآمن إلى السماء؟ أم وداعنا المأساوي المؤجل؟ أتكون مكانا لتقاطر التاريخ على تدوين مرور العابرين والغزاة؟ وقد تكون حنين الأديان إلى معابدها النائمة في غبار المدينة؟ كأنها محبوبة تقاتل عليها عشاق حمقى، أو طريدة تكالبت عليها فكوك المفترسين، وأي مفترس فيهم يملك سند الملكية لهذه الحجارة المتجعدة كتقاسيم امرأة عجوز، تحفظ جل ذكرياتهم عن ظهر قلب؟ هي قدس واحدة، ليست فريسة لأي مفترس. لا هي شرقية ولا هي غربية، تكاد تزهر قداسة كلما داس أرضها نبيٌ غامض، وتركنا في حيرة من صراعنا.
ها هو الزائر حواري القدس ومسجدها وكنيستها يشعر بأنه يزورها للمرة الأخيرة. كأنها زيارة الوداع، أو زيارة ما قبل الضياع الذي سيسجل على قائمة الصراعات التاريخية. ولكن لا ندري متى ستُسترد من ضياع كهذا قد يحدث وقد لا يحدث أصلا.
ولماذا أبدو متشائماً وجازماً بأنها ذاهبة إلى الفقدان والضياع؟ هل لأنه تنقصنا مشية أخيرة في أزقة بلدتها القديمة، وأن نصلي ركعتين في مسجد قبة الصخرة على عجل؟ نعم! ثم سنقطع طريق الآلام إلى القيامة، نضيء شمعة، ونولي وجوهنا صوب السماء، وفي طريقنا إلى السماء نبصق على هيكل مزعوم.
"يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن"، ها هن بنات القدس يطوقن بوابات سبع لمسجد بأسوار صخرية سميكة وعالية، إنهن لا يبكين بل يصرخن غضباً في وجه محتل قادم من بعيد، لا رابط يربطه بأرضنا، أما أولادهن، فقد ظلوا نياماً في البيوت، أو تمردوا وخرجوا يقذفون زجاجات المولوتوف على الآليات العسكرية الاحتلالية، أو حافلاته التي تتحول إلى شعلة أولمب عندما تحترق، وقد يطلقون الألعاب النارية شطر جنود الاحتلال، فالنار متعة من ألعاب الطفولة، والموت لم يأخذ مكانه في قواميس هؤلاء الفتية اليبوسيين، وبتلاعب لغوي، يبوسيين تعني أنهم ذو بأس وشدة.
ولإيليا بنات قتلهن يهود الصهيونية، عصابات الآرجون وشتيرن. آه يا ابنة القدس الدامية! يا دير ياسين! لقد كان سقوط دير ياسين النطفة الأولى لبقية المجازر، إنها أم النكبة الكبرى، هكذا هي القدس، تركض لتنال شرف التضحية الأولى، كالأم العطوف، وفي مخاض النكبة، التحقت بقية بنات القدس بأختهن دير ياسين: المالحة، لفتا، القسطل، عين كارم، وأقيم على أنقاضهن مناطق بأسماء عبرية، تكاد تشعر بالتقزز عندما تسمع أسماء هذه المناطق، وكأن اللغة لديهم شيء من انعدام الجمال، بشاعة لغوية تشبه همجيتهم.
هي القدس الضائعة في سؤال المتصارعين: من منا كان هنا أولاً؟ ونحن الذين شيدنا المدينة في الألفية الرابعة قبل ميلاد يسوع، أي قبل حوالي ستة الآف سنة، فيأتي أصحاب السوالف الطويلة العفنة بحججهم حول مملكتهم الرغيدة العتيقة. فأول أسماء المدينة كان "أور سالم"، فكلمة أور تعني المدينة، أما سالم فهو إله السلام عند الكنعانيين. فالقول الفصل هو ما أنشده الشاعر القاسم:
على ملأ الله أعلن روحي وضوئي
وأشهد أنا ملك القدس نجل يبوس
وريث سلالة كنعان
وحدي خليفة روح النبي القديم الجديد محمد
أنا ملك القدس لا أنت ريتشارد
فاسحب فلولك
وأنت تداهمها بالصليب، وتخلع أبوابها المطامع
وتجهل سر الصليب. وحلم يسوع المسيح. وأحزان مريم
وأعلمُ ما لستَ تعلم
هي القدس. ريتشارد
فلا تتغطرس. ولا تتوهم
ليَ القدس. ريتشارد
أنا القدس. ريتشارد
لنا القدس. ريتشارد
أفلتت جيوش ريتشارد، وانغرزت شظاياها في تراب القدس، لكن خرج لنا من تراب بعيد نجس، ألف ريتشارد، مصحوبين بطواغيت المعابد وكهنة الدجل. ألقوا بأسمالهم على نور القدس، وقتلوا الخاشعين المصلين فيها، ودقوا رؤوسهم وأرجلهم في جدرانها، انظروا أيضاً إلى كلابهم البوليسية تشمشم تاريخهم المفقود بين تصدعات حجارة أرض المدينة وحيطانها. فأصبحت المدينة كاليتيمة الساجدة التي تتحامى بأبنائها وبناتها.
وما زلنا نستمر بالابتهال منذ سنين الفقدان والنكبات، نرفع أيدينا إلى السماء، ندعو ونتوسل أن يحمي الله قدسنا، لكن لا حياة لمن تنادي. كيف سيحميها والراعي عدو الغنم؟
لكنها هي القدس، لا تحتاج إلى رعاة ولا إلى عناية إلهية، هي التي اعتنت بالآلهة وأنبيائهم واستضافتهم على أرضها، وكانت حجتهم، هي القدس التي لا نعرف ما يدور في طبقات صخورها، القدس الغامضة الواضحة غير قابلة لأن تكون تحت مجهر تحليل علم نفس المدن، وعصية على التموضع في صفحات معجم البلدان.