اهتمام إسرائيل بالدبلوماسية ليس بالأمر الجديد. لكن تبنّي الحكومة الإسرائيلية حملة إعلانية رسمية لتحسين صورة إسرائيل في الخارج هو ما يحصل لأول مرّة في تاريخ الكيان الصهيوني. «ليكن كل مواطن سفيراً لإسرائيل» هو الشعار الجديد الذي جُنّدت على أساسه «قوات» بشرية خاصة وأطلقت إلى العالم منذ أسبوع
صباح أيوب
يُحكى أنه بعد حرب 1967 قام رئيس الوزراء الإسرائيلي (وقتها) ليفي أشكول بتجنيد مجموعة من الخبراء الإسرائيليين والأجانب للعمل على تحسين صورة إسرائيل في العالم. وبعد أربعة أيام من الاستشارات بشأن كيفية تقديم إسرائيل بشكل مقبول دولياً، عرض هؤلاء حلّاً واحداً على أشكول: «اخرج من الأراضي التي احتللتها».
منذ ذلك الوقت، لم تنجح إسرائيل في تجميل صورتها لدى مواطنيها وأمام العالم، فاستعاضت عن ذلك بفرض سياسة التعتيم على الأخبار وتزوير الوقائع من خلال تأليف مجموعات ضاغطة على مختلف وسائل الإعلام المحلية والعالمية. داخلياً، شهدت الذكرى الستون على تأسيس الدولة العبرية حملات دعائية باهظة تبعتها حملات اتخذت شعار «لسنا بلد الحمّص فقط».
لكن صورة إسرائيل العالمية كـ«الديموقراطية الوحيدة في المنطقة» وكـ«البلد الباحث عن السلام» وكـ«القوة التي لا تهزم»، أصيبت أخيراً بأكثر من نكسة. آخر تلك «النكسات المعنوية» التبنّي الدولي لتقرير غولدستون وفضيحة تورّط جهاز «الموساد» في اغتيال محمود المبحوح، أحد قادة حركة «حماس»، في إمارة دبي.
بعد العدوان الأخير على غزة (2008 ـــــ 2009)، دعت وزيرة الخارجية الإسرائيلية (وقتها) تسيبي ليفني الخبراء الدبلوماسيين في وزارتها إلى وضع خطة طارئة لمواكبة العدوان إعلامياً على الصعيد الدولي. جلّ ما استطاعت الوزارة فعله حينها هو انتداب بعض دبلوماسييها الذين يتقنون لغات أجنبية للظهور على المنابر الإعلامية الدولية والحديث عن «همجية حركة حماس وجرّ إسرائيل إلى ردّ دفاعي»، و«استخدام حماس المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية» و«ضرورة محاربة الإرهاب» وغيرها من الحجج... لكن الصور الآتية من غزة كانت أقوى من الحملة الدبلوماسية. ثم جاء تقرير «غولدستون» الذي تبنّته الأمم المتحدة ليقضي على كل أمل إسرائيلي بإيجاد مخرج مشرّف لـ«الدولة المحبّة للسلام».
لكن يبدو أن حكومة بنيامين نتنياهو أخذت على عاتقها مهمة تلميع الصورة الآتية من إسرائيل وإنقاذ ما بقي من هيبة الدولة الإسرائيلية داخلياً وخارجياً. فأنشأت في آذار 2009 وزارة جديدة تحت اسم: «وزارة الإعلام والشتات»، على رأسها يولي إيدلشتاين. الفرصة الأولى التي اقتنصتها الوزارة الجديدة مدعومة من وزارة الدفاع كانت عبر الحملة الإعلامية الكبيرة التي رافقت مشاركة إسرائيل في تقديم المساعدات لضحايا زلزال جزيرة هايتي في كانون الثاني 2010. وحتى هذه الحملة شابتها انتكاسة بتوجيه أصابع الاتهام إلى الإسرائيليين بسرقة أعضاء بشرية من الضحايا. ثم جاءت فضيحة تورّط جهاز الموساد باغتيال محمود المبحوح، حيث نشرت وسائل الإعلام العالمية صور العملاء الإسرائيليين المشاركين في الجريمة، وكشفت هوياتهم، فتلقّت إسرائيل صفعة جديدة. وفي ظل هذا الجو السلبي، قررت وزارة الإعلام الإسرائيلية أن تثبت وجودها عبر حملة إعلانية أطلقت منذ 6 أيام تحت شعار «كل مواطن سفير». «سنواجه الأموال العربية المغدقة على البروباغندا ضد إسرائيل باستخدام رصيدنا البشري، أي المواطنين الإسرائيليين أنفسهم». هكذا شرح وزير الإعلام الإسرائيلي هدف الحملة، مضيفاً أنّ «91% من الإسرائيليين يرون أنّ صورة بلدهم في الخارج ضعيفة». وها هي إسرائيل، على خطى الولايات المتحدة الأميركية، تطلق أول حملة «دبلوماسية عامة» (Public Diplomacy) لتسويق صورتها وكسب حرب القلوب والعقول. وباللغة الإسرائيلية، سمّت وزارة الإعلام والشتات رواد هذه الحملة بـ«قوات الدبلوماسية العامة».
موقع إلكتروني، إعلانات تلفزيونية، ومنشورات وكتيّبات بُثت ووزّعت في مختلف أنحاء إسرائيل، إضافة إلى دورات تدريبية للراغبين... والرسالة واحدة: «إلى الذين ضاقوا ذرعاً بكيفية عرض صورتنا في الخارج، هكذا يجب أن نشرح إسرائيل للعالم».
الموقع الإلكتروني يحمل شعار «معاً نغيّر الصورة» ويعدّد «المفاخر الإسرائيلية» و«الإنجازات الدولية»، ويروي تاريخ الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي من وجهة نظر إسرائيلية بحتة، ويدافع عن الاستيطان، ويفنّد بعض «الأساطير» الكاذبة بحق إسرائيل واليهود والشعب الإسرائيلي ويصوّبها ويقدم نصائح سياحية و«إرشادات للسفراء المبتدئين» (انظر الإطار). إضافة إلى الموقع، توزّع ملايين المنشورات على المسافرين في مطار بن غوريون وعلى متن خطوط «العال» الجوية وتحمل عناوين مثل «اشرح إسرائيل» و«عرّف عنا بطريقة حسنة». طائرات «العال» علّقت على أبوابها ملصقاً موجّهاً إلى الركّاب يقول: «قوموا بتمثيلنا جيداً».
الرسالة الجامعة بين مختلف وسائل الحملة هي: «كفى تصوير إسرائيل كأنها جزء من العالم الثالث المتخلّف. نحن دولة عصرية متطورة نعمل وننتج ونتقدم». هذه الرسالة مثّلت مضمون الإعلانات التلفزيونية التي تُعرض بكثافة على القنوات الإسرائيلية منذ حوالى أسبوع. وتهاجم هذه الإعلانات المصوّرة الصحافيين الأجانب وتتّهمهم بنقل صورة مشوّهة عن الدولة الإسرائيلية وشعبها. في الشريط الإعلاني، يظهر أحد الممثلين الذي يؤدي دور صحافي بريطاني فيقول: «وسيلة النقل الأكثر اعتماداً في إسرائيل هي الجمل، الذي يطوف الصحراء حيث يعيش الإسرائيليون»، ثم يظهر آخر بصفة صحافي إسباني فيقول: «الإسرائيليون يُعدّون الطعام خارجاً لأن منازلهم غير مجهّزة بالغاز أو بالكهرباء أو بالمطابخ»، وأخيراً يمثل دور الصحافي الفرنسي فيقول: «الحياة هنا هي عبارة عن سلسلة متواصلة من الانفجارات». كذلك تحمل الإعلانات رسائل موجّهة إلى الأوروبيين تقول لهم: «تتمتعون كل سنة بعطل صيفية رائعة على الشواطئ الإسرائيلية، وتأتون لإقامة الصفقات التجارية والأعمال مع الإسرائيليين، لكنكم غير قادرين على نشر صورة جميلة عن إسرائيل في بلادكم».
وبعد يوم من بثّ تلك الإعلانات على الشاشات والموقع الإلكتروني، استنفرت بعض وسائل الإعلام الأجنبية والإسرائيلية للردّ على تلك الحملة. صحيفة «تلغراف» البريطانية ووكالتا أنباء «رويترز» و«أسوشييتد برس» نشرت مقالات انتقادية لمضمون الحملة الإسرائيلية. «جمعية الصحافيين الأجانب» في إسرائيل (التي تضم حوالى 500 صحافي) استنكرت ما جاء في الحملة وعدّته «مؤشراً خطيراً على نهج الحكومة الإسرائيلية». كذلك رفضوا «كيفية تصوير إسرائيل للصحافيين الأجانب على أنهم أغبياء وجهلة ومدعاة للسخرية». بدورها، هاجمت صحيفتا «يديعوت أحرونوت» و«هآرتس» الإسرائيليتان أداء الوزارة الإسرائيلية، وأجمعتا على أنّ «الحملة تظهر الإسرائيليين أغبياء»، وأنها ستزيد من حدّة التوتّر الذي يشوب العلاقات بين إسرائيل والصحافيين الأجانب أصلاً. كذلك دعا أحد صحافيي «يديعوت أحرونوت» إلى استخدام «الوسيلة الصحافية الأفضل، وهي الكتابة عن الحملة وتبيان فشلها». من جهتها، رأت صحيفة «هآرتس» في افتتاحية أول من أمس أنّ الحملة «سخيفة ومقلقة»، لأنها «تكشف النقاب عن فكر حكومة نتنياهو: ادّعاء الحق بلا حدود، عداء خالد للعالم العربي والإسلامي، اعتبار الفلسطينيين غزاة، والالتزام بتوسيع المستوطنات». يرى معظم منتقدي الحملة في إسرائيل أنّ نتنياهو يناقض نفسه، فهو يدّعي من جهة أنه يمدّ يده للسلام والحوار مع الفلسطينيين ويؤيّد حلّ الدولتين بشعبين، ويحرّض، من جهة أخرى، على الفلسطينيين ويحذر من أي سلام معهم.
وقد أطلقت مجموعة مجهولة، أمس، موقعاً معادياً لموقع الوزارة، اتخذ التصميم نفسه، معلناً على صفحة الاستقبال: «هذا الموقع ليس تابعاً لوزارة الإعلام والشتات ولا للحكومة الإسرائيلية. هو يقدم صورة مختلفة ومتكاملة عن المواضيع التي طرحتها الحملة الحكومية». يعرض الموقع المعادي صوراً لجنود إسرائيليين مصابين ومشاهد من مآتم المقاتلين الإسرائيليين، وأخرى لاستهداف مدنيين فلسطينيين. وفي تعليق أوّلي على الموقع المضاد، اتهم وزير الإعلام الإسرائيلي، مساء أمس، «اليسار الإسرائيلي» بإطلاق حملة مضادة ووعد بملاحقة الفاعلين.
تجاه كل الانتقادات المحلية والأجنبية للحملة، بدت الحكومة الإسرائيلية «غير مبالية» وماضية في دعايتها السطحية، وقد سرقت هذه المرّة بعض الكليشيهات الإعلانية التي كانت تطلق «حصراً» على العرب وشعوب العالم الثالث، واخترعت لنفسها دعاية ودعاية مضادة لتقفز فوق دماء مجازرها لتقول للعالم: «باستطاعتي أن أبتسم!».


نصائح إلى سفير مبتدئ

يتضمن الموقع الإلكتروني للحملة الإعلانية الرسمية للحكومة الإسرائيلية فقرات وأبواباً عدّة. لكن الرابط المشترك بين المصطلحات والتعريفات واللمحات التاريخية «لدولة إسرائيل» هو مبدأ واحد يكرر في معظم الفقرات، «أنّ المشكلة في الصراع العربي الإسرائيلي لا تدور حول حجم الدولة، بل حول وجودها في الأساس». تبدأ التحذيرات على الموقع الإلكتروني بالإشارة إلى أن «إسرائيل تمثّل مادة دسمة للإعلام الأجنبي والعربي، لذا علينا أن نتنبّه إلى كيفية تغطية أخبارنا». ومن أبرز ما يرد في تعريفات الموقع أنّ «فلسطين ليست دولة عربية»، لأنه «لا يمكن أن توجد أي دولة عربية على أراضي إسرائيل». ولعلّ أبرز أبواب الموقع «إسرائيل الأسطورة والواقع" و«نصائح إلى سفير مبتدئ». في الباب الأول، تفترض إسرائيل أنّ هناك أساطير حيكت عنها وعن شعبها وهي جميعها كاذبة، لذا فهي تتكفّل بتصحيحها. ومما نفاه الموقع بعض الأمثلة: «إسرائيل ليست دولة ضخمة»، «هي ليست صحراء»، «ليست دولة دينية»، «النساء الإسرائيليات لا يرتدين الحجاب الإسرائيلي، بل هن يتبعن أحدث صيحات الموضة»، «إسرائيل تريد السلام رغم كل الهجمات ضدها»، «المستوطنات الإسرائيلية ليست عقبة أمام السلام»، «إسرائيل ضحّت بالكثير مقابل إحلال السلام مع مصر والأردن وأخيراً في غزة»، «إسرائيل تحترم الأقليات التي تعيش داخل حدودها بطمأنينة»...
باب آخر يقدم بعض النصائح والإرشادات للمتطوعين في حملة تحسين صورة إسرائيل، أي من سمّتهم الوزارة «السفراء المبتدئين»، ومن تلك النصائح: أنصتوا جيداً إلى محدثكم وأظهروا له أنكم مهتمون بما يقوله، احرصوا على النظر في عيني محدّثكم أثناء الحوار، تنبّهوا إلى لغة الجسد كحركة اليدين ونبرة الصوت وشكل الوقفة، شاركوا محدثيكم في روايات شخصية عن حياتكم في إسرائيل، عبّروا عن عواطفكم، لا تكونوا عدائيين بالردّ على الاتهامات ضدكم، تزوّدوا دائماً بصور جميلة عن الحياة في إسرائيل.
ينهي الموقع توصياته بعبارة: «ذكّروا أصدقاءكم بأنّه رغم حقنا التاريخي والرسمي في أرض إسرائيل، نحن نقدم التضحيات والتنازلات للفلسطينيين، لكن للأسف هم يرون في ذلك ضعفاً وخضوعاً من قبلنا. لا جدل في الأسبقية على هذه الأرض، فالإسرائيليون اليهود كانوا هنا قبل العرب بكثير».

أحد الأشرطة الدعائية الخاصة بالحملة الاسرائيلية: