لندن | في كل صباح وأنا أُمشي نحو مكان عملي الملاصق لمكتب دائرة الهجرة البريطانية في ضاحية كرويدون في لندن، أصادفُ العديد من أولئلك الذين قذفتهم يدُ الخوف والفقر نحو هذه البلاد، تعرفُ أخبار بلادهم الأولى من وجوههم وملابسهم وشكل الخوف الذي يحيط بهم. لكن معظم هؤلاء الذين أصادفهم هم من المحظوظين الذين لم يضطروا لأن يسلموا أجسادهم للبحر حتى يأخذهم من موتٍ عبر موتٍ إلى حياةٍ يأملون بها.
لم تعُد تخفى على أحدٍ أخبارُ أولئك البعيدين الذين يحلمون بغزواتنا التي لا موت فيها، غزواتنا نحو التلال العالية، نحو البيوت الصغيرة والمساءات السريعة، نحو الظفر بالأشياء العاديّة كلها. لكنهم يموتون، يموتون قبل أن يُسرجوا معنا أحصنتنا الخشبية وقبل أن تغبرّ الساحات التي لا تراب فيها، قبل أن يرسلوا إلى من صاروا عنهم بعيدين مراكب من ورق ويبعثوا إليهم برسائل من على ألواح مضيئة، يموتون لأن الخيول هناك صارت خشبيةً لا تنزلُ الساحات، ولأن الساحات ما عادت تجتمع فيها الناس بل القنابل، لأن المراكب ورقيةٌ لا تؤتمنُ على أهلها، ولأن الضوء المنبعث من كل هذه الألواح لا يضيءُ منارةً في البحر ترشدُ التائهين، أو تخبرُ الموت أن هؤلاء الآتين من بعيدٍ لهم أهلٌ، لهم وطنٌ، لهم سماءٌ واسعة تحمل أشياء أخرى غير القنابل، لهم تلالٌ طرية لا تُنصبُ عليها المدافع، وأنهم، مثل الكثيرين، تنتظرهم غزواتٌ لا يموتون فيهم.
صور هؤلاء الحالمين بليلةٍ لا تمطرهم فيها السماءُ ببراميل من حممٍ، ونهارٍ لا يسعونَ فيه إلى النجاة، صور الغرقى في البحر، وحتى صورة ذلك الطفل المُلقى على الشاطئ، ليست أفظع ما رأيناه في أيامنا الحمراء هذه. لنتذكر معاً، حتى لا ينقطع حبل الذاكرة لدينا عند السؤال عن بدائل الموت غرقاً في أشهر الصيف، أو الموت برداً في صحارى اللجوء، لنتذكر صور المصروعين بالغاز، الذين ما زالوا يموتون بعيداً عن عيوننا، وصور أيادي الأطفال وأعضائهم المبتورة في غير مجزرة. لنتذكر حتى لا نظن أن البحر هو عدونا الأول. وحتى لا ننسى أن كل شيءٍ ابتدأ هناك في أرض الياسمين التي صارت تملؤها رائحة البارود، وصارت سماؤها مرعىً لأحلام النجاة، النجاة فقط.
والآن، بعد أن رأينا ملء أعيننا صوراً للموت لم نكن ندركها، وبعد أن أمعنا التفكير في بدائل هذا الموت، وأشارت أصابعنا للجناة الكثر، كلٌ حسب هواه، وسمعنا من أنفسنا أسوأ ما فيها من تعليقاتٍ فوقيةٍ وعنصرية، وجلدنا ذواتنا بالقدر الذي يليقُ بخيبتنا. الآن، ماذا بعد؟ هل ننتظر موسم الموتٍ المقبل ونجهزُ قصائدنا لرثاء الأطفال الذين سيغشوهم الثلج وغيرهم من الذين سيأكل أجسادهم الجوع. لا أعرف شخصياً ما الذي يمكننا فعلُه غير الانتظار، انتظار مواسم أخرى نرى فيها صوراً مشابهة ونكتبُ فيها ذاتِ هذا الكلام.
علينا ابتداءً أن نحدد الجاني المسؤول عن كل هذا الأسى الذي يعصفُ بنا. رُبما يخلصُ البعضُ إلى أن المسؤول عن كل هذا هو الحكومات الأوروبية التي صرنا من فرط خيبتنا نعلق عليها كل خطايانا وكل آمالنا، آمالنا بأن تصير أشد رأفةً بنا، فتمنحنا بلاداً نعيشُ فيها، بعد أن جردنا الظالمُ ليس فقط من بيوتنا، بل من هويتنا وكل أشيائنا الحميمة.
ربما المسؤول هو البحر، الذي جاءنا بأفواج الغزاة قبل مئات السنين، وصار الآن يبتلعنا كأنه لا يطعمُ غير أجسادنا. إن كان البحرُ هو الملوم، فربما علينا أن نستعيد خطة هرمان سورغل، المهندس الألماني الذي وضع خطةً لربط قارات العالم الثلاث، عن طريق بناء سدٍ عند مضيق جبل طارق وآخر عند صقلية لخفض منسوب مياه المتوسط حتى ترتبط الجزر الإيطالية ببعضها وبشمال أفريقيا من جهة، وترتبط الجزر اليونانية ببعضها وبغرب آسيا من جهةٍ أخرى، فيصير باستطاعة ذلك الطفل أن ينجو من رحلته بين بودروم وكوس، ويكون باستطاعتنا أن نزهو بانتصارنا على هذا البحر. هكذا نكون قد أمِنا مكر البحر الغادر، وصنعنا للهاربين ممراً آمناً من موتهم الأول.
لكن ماذا عن أولئك الذين لم يستطيعوا أن يهربوا، أو الذين لا يريدون أن يهربوا، الذين لا يريدون أن يصيروا غرباء، ويتركوا الأرض التي ولدتهم فيها أمهاتهم. لا أحسب أن شيئاً ما ينهي هذا القهر الذي ينهش قلوبنا ويلتهم النور من أعيننا، غير ما ابتدأ لأجله كل هذا الأمر: حريةُ الذين لم يعودوا يطيقون كل هذا الظلم، وكرامة الذين لا يريدونَ الحياة بمنةِ أحد، وحياة الذين اختاروا أن يكونوا سواسيةً أمام الموت، حتى يبلغوا أن يصيروا سواسيةً أمام الحياة.