تصرّ السردية المهيمنة في الوسط الاعلامي على ترويج صورة تظهر الأزهر على شكل مؤسسة تتبنى خطاباً دينياً معتدلاً وتدافع عن الوسطية والانفتاح وتقبل الآخر. ولا شك أنّ مفهوم الاعتدال فيه شيء من الالتباس على أكثر من صعيد لذلك لا بد من تفكيكه قبل الشروع بمناقشة موضوعنا.فمن جهة أولى قد يقاس الاعتدال نسبة لجهة متطرفة معلومة، فكل موقف ينتقد ارهاب تنظيم "داعش" مثلاً هو شكل من أشكال الاعتدال لكن ذلك لا يمكن أن يعني أن هذا الموقف هو معتدل بالفعل: فما هو اعتدال قياساً على جرائم "داعش" قد يكون تطرفاً قياساً على بنود الاعلان العالمي لحقوق الانسان.
ومن جهة ثانية، يطرح الاعتدال مشكلة نظرية مهمة ألا وهي معيارية هذا المفهوم. فإذا كان الاعتدال هو القيمة المعيارية التي يجب أن تحكم عمل المؤسسات الدينية لا بد أن ينعكس ذلك على كامل منظومة الأحكام الدينية لا سيما على مستوى العقيدة والفقه. فمن غير المعقول أن ينحصر الاعتدال وزعم الوسطية في مجال العبادات والمعاملات على الصعيد الفردي من خلال تسهيل حياة المؤمن وتخفيف الشروط الدينية في مجالات الصوم والصلاة والحج على سبيل المثال، بينما يغيب الاعتدال على الصعيد العام في كل ما يتعلق بالسياسة وتنظيم الدولة والنظرة الى الآخر أكان من مذهب أو دين مغاير. فإما يكون الاعتدال سمة شاملة أو لا يكون. من هنا نفهم موقف الازهر الذي رفض تكفير تنظيم "داعش" إذ كون الاختلاف مع هذا الأخير لا يتعلق بالعقيدة بل يقتصر على الجانب العملي وتفاصيل فقهية هي أبعد ما يكون الاختلاف فيها كافياً لمحض صاحبها صفة الاعتدال.
جراء ما تقدم يتبيّن لنا ان اسباغ صفة الاعتدال على مؤسسة ما يحتاج في المقام الأول دراسة أدبيات هذه المؤسسة والفكر الذي تعرضه على جمهورها إذ لا يعقل ان يكون الاعتدال نتيجة التصريحات الصحافية والبيانات الاعلامية التي غالباً ما تؤدي وظيفة سياسية محصورة في الزمن. ومن المعلوم أن مؤشر الاعتدال لدى الأزهر اختلف هبوطاً وصعوداً وفقاً للسلطة السياسية الحاكمة في مصر خاصة في التاريخ الحديث منذ محمد علي باشا مروراً بحقبة القومية العربية وجمال عبد الناصر وصولاً لحسني مبارك والمشير السيسي. لذلك لا تجدي "المؤتمرات الفكرية" نفعاً ولا يمكن التعويل على لجان "الحوار بين الأديان" في ظل نصوص تكرس التطرف الفكري وتنمي الشعور بالعداء بين المواطنين. من هنا كان لا بد من استعراض بعض الوقائع والنصوص في الكتب التي تدرس في الأزهر كي نقف على حقيقة هذا الاعتدال ومدى فعاليته.
ومن أشهر الكتب التي تدخل في منهج الأزهر بغية تعليم طلابه في المرحلة الثانوية نجد كتاب "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع"/ تأليف شمس الدين الخطيب الشربيني (دار الكتب العلمية، بيروت، 2004)، وكتاب «الاختيار لتعليل المختار» في الفقه الحنفي تأليف عبدالله بن مودود (دار الكتب العلمية، بيروت).
ففي كتاب الاقناع المخصص لطلاب صف الثانوي الثالث في جامعة الأزهر نجد مجموعة متعددة من النصوص التي تحض على العنف وكراهية الاخر وتحقيره، إذ نقرأ مثلاً في كيفية معاملة اهل الذمة (أي المسيحيين واليهود بشكل اساسي): "ويعرف أهل الكتاب في ديار الإسلام بلبس الغيار وشد الزنار ويمنعون من ركوب الخيل، ويلجأون إلى أضيق الطرق، ولا يمشون إلا أفراداً متفرقين، ولا يوقرون في مجلس فيه مسلم لأن الله تعالى أذلهم». ويضيف في مكان آخر "تميز نساء المسيحيين بلبس طوق الحديد حول رقابهن ويلبسون إزاراً مخالفاً لإزار المسلمات، وتميز دورهم بعلامات حتى لا يمر السائل عليهم فيدعو لهم بالمغفرة". وهنا نتذكر كيف تم وضع علامات فارقة على منازل المسيحيين في مدينة الموصل بعد سيطرة "داعش" عليها ونتساءل ألا يعتبر هذا النص تسويغاً فقهياً لما قام به هذا التنظيم الارهابي وكيف يمكن لمن ينتقد "داعش" أن يقبل بوجود مثل هكذا حكم في كتاب موجه لشباب ينبغي أن يتقبلوا الغير، ويتم تحصين مناعتهم الفكرية والثقافية ضد المجموعات التكفيرية.
ومن جواهر كتاب الاقناع هذه الرخصة الممنوحة للمسلم للقتل إذ نقرأ انه يحق لهذا الأخير كفاية لشر الكافر "أن يفقأ عينه، أو يقطع يديه ورجليه، وكذا لو أسره، أو قطع يديه أو رجليه، وكذا لو قطع يداً ورجلاً". ولا يتم الاكتفاء بهذا القدر بل لا بد من تدمير العلاقات الانسانية الفطرية القائمة بين البشر من خلال الحض على الاساءة للآخر: "بما أن الإساءة تقطع عروق المحبة فيجب الإساءة لهم وعدم الميل القلبي لهم، وقطع عروق المحبة معهم".
ولا تقل نصوص كتاب "الاختيار لتعليل المختار" لطلاب الصف الثانوي الثالث في الأزهر أيضاً خطراً. ففي باب "أحكام المرتد" نقرأ حرفياً: "وإذا ارتد المسلم يحبس ويعرض عليه الإسلام، وتكشف شبهته، فإن أسلم وإلا قتل، فإن قتله قاتل قبل العرض لا شيء عليه". فقتل المرتد ليس فقط جائزاً بل حتى شرط حبسه (لثلاثة أيام عادة) ومناقشته قبل قتله هو شرط ظرفي غير ضروري إذ يمكن لأي كان أن يقتله قبل ذلك!
وفي نص آخر يشرح الكتاب ما نشهده اليوم وكأنه يصف الوضع في سوريا والعراق فنقرأ التالي: "وإذا فتح الإمام بلدة عنوة إن شاء قسمها بين الغانمين، وإن شاء أقر أهلها عليها ووضع عليهم الجزية، وعلى أراضيهم الخراج، وإن شاء قتل الأسرى، أو استرقّهم، أو تركهم ذمة للمسلمين، ولا يفادون بأسرى المسلمين ولا بالمال إلا عند الحاجة".
تطرح هذه النصوص اشكالية حقيقية أمام الفقه الاسلامي. فالخطر يكمن في هذه الأحكام التي تحولت مع الزمن إلى التفسير الطاغي والمهيمن على الفقه الاسلامي ولا يمكن الاكتفاء بالعودة إلى قصص تتعلق بحياة النبي والصحابة كي تظهر اعتدال الاسلام، بل لا بد من ترجمة هذا الاعتدال في نصوص فقهية رسمية والقيام بورشة اصلاحية تهدف لتنقيح كتب التراث وتحريرها من كل ما من شأنه أن يمنح المجموعات التكفيرية شرعية دينية.
لكن المعضلة لا تكمن فقط هنا بل هي تتعلق أساساً بهيكلية الاسلام السني تحديداً كدين لا مؤسسة رسمية فيه لتفسير النص. فالأزهر لا يملك سلطة قانونية لتفسير الدين والعقيدة كما هو الحال في الكنيسة الكاثوليكية مثلاً حيث يعود لها عبر الحبر الأعظم ومجامعها اعتماد تفسير واحد ملزم لجميع المؤمنين. وبالحقيقة لا تتمتع أي مؤسسة دينية في الاسلام بمثل هكذا سلطة وقيمة الأزهر هي فقط معنوية تنبع من تاريخه ومن دعم الدولة المصرية التي تستخدمه في خدمة سياستها الداخلية والخارجية. لذلك لا بد للأزهر في حال أراد فعلاً تبني الاعتدال كمنهج له أن يعمد على الغاء كل هذه النصوص وتبني اجتهادات عصرية وإصلاحية تعطي اعتداله قيمة حقيقية ومعيارية شاملة، علماً أن ذلك غير كاف كون هذا الأمر سيقتصر على مصر بينما المطلوب أن يشمل هذا الاصلاح الكتب الفقهية كلها وفي جميع أقطار البلاد العربية.

* كاتب وأستاذ جامعي