نستشفّ من نصٍّ طويل كتبه المؤرّخ البريطاني بيري أندرسون عن الأزمة القائمة في البرازيل، أنّه قد يكون من الأصحّ مقارنة النظام السياسي البرازيلي ببلدٍ كلبنان، بدلاً من النظر اليه كـ"ديمقراطية غربية". الفساد والمحاصصة وشراء الولاءات "سرٌّ معروفٌ" للجميع ومفتاح عمل النظام. الأحزاب التقليدية (باستثناء حزب العمّال الحاكم الذي يتهاوى اليوم، والذي يصفه أندرسون بأنه "الحزب الحديث الحقيقي الوحيد" في البلد) هي أشبه بحركة أمل أو تيار المستقبل في لبنان: شبكات وتحالفات لتوزيع الريع والنفوذ ومغانم الدولة، تمتدّ من السياسيين الى رجال الأعمال والسلطات المحلية في المحافظات، وصولاً الى زعامات الأحياء والشوارع. فوق هذا كلّه تجعل القواعد الدستورية والإنتخابية النّظام البرازيلي ــــ كنظيره اللبناني ـــــ نظاماً عصياً على الإصلاح. في هذا السياق استلم الحزب اليساري، بقيادة لولا، الرئاسة عام 2002؛ وهي كانت المرة الأولى التي يحكم فيها حزبٌ عمّاليّ البلاد منذ نهاية الدكتاتورية العسكرية.
قد يكون من المبرّر لمن يراقب الأحداث في البرازيل أن يقرأها كـ "مؤامرة" ضدّ حزب العمّال والرئيسة روسيف. بغض النظر عمّا إن كانت روسيف مذنبة (هي متّهمة بالتلاعب بأرقام الميزانية الفيدرالية)، فإنّ "المعايير المزدوجة" التي يتمّ تطبيقها اليوم ضدّها وضدّ حزبها صارخة. التّظاهرات الهائلة في البرازيل، والحملة الإعلامية التي تحيط بها، شعارها مكافحة الفساد؛ ولكن الفساد هنا يعني حزب العمّال حصراً. على الرغم من أنّ كلّ الأحزاب البرازيلية متورّطة في فضيحة دفعات "بتروبراس" الّا أنّ المحقّقين في القضية قد سرّبوا ما يخصّ لولا وفريقه فقط، وكان التركيز الإعلامي كلّه عليه. رئيس مجلس النواب، الذي قاد حملة إزاحة روسيف بتهمة الفساد، تبيّن أنّه يملك حسابات سويسرية بملايين الدولارات. وفيما أجّج الإعلام حملةً ضخمة ضدّ الرئيسة، بحجة أنها عيّنت لولا في منصبٍ حكومي لحمايته من الملاحقة القانونية، كان الرئيس السابق كاردوزو قد ارتكب الفعل ذاته مع حليفٍ له خلال رئاسته، ومن غير أن يصدر أي احتجاج (نحن نتكلّم على بلدٍ كان أكثر من ربع نوّابه عام 2010، في المجلسين، تحت التحقيق بتهم فساد وإثراء غير مشروع).
التّصويب على حزب العمال وعلى ديلما روسيف، دون غيرهم من قوى النظام السياسي، يعود من دون شكّ الى العداء الشرس الذي تكنه الطبقة العليا في البرازيل، والقوى التقليدية، وكلّ الإعلام تقريباً، تجاه الحزب الحاكم. بعد عام 2006، خسر لولا، فعلياً، كلّ ما تبقّى له من تأييد في صفوف الطبقة الوسطى، وصار من الصعب أن تجد برازيلياً مدينياً، متعلّماً وذا مدخولٍ مرتفع، لا يعارض الحزب ولا يحتقر قادته. بل إنّ السّردية السائدة خلف الحملة القائمة تقول إنّ إصلاح النظام السياسي، والخروج من الأزمة الإقتصادية، يكون عبر لفظ هؤلاء العماليين، الشعبويين والجهلة والذين ما كان يجب أن يستلموا الحكم أصلاً، وإعادة السياسيين التقليديين الى السلطة.
هناك أبعاد متعدّدة لأزمة حزب العمّال: عداء النخب المحلية وواشنطن، هبوط أسعار المواد الأولية والأزمة الاقتصادية، وعزوف الكثير من المؤيدين عن حزب روسيف. يقول أندرسون إن فقراء البرازيل اعتبروا أن الرئيسة قد "خدعتهم" حين أقرّت حزمة إصلاحات تقشفية بعد 2011، مع أن حملتها قد قامت على معارضة مثل هذه السياسات (المفارقة المحزنة هنا هي أن روسيف نفّذت هذه السياسات أملاً بأن تؤدي الى "تصالح" مع النخب المالية في البلد، ورضى البنك الدولي وصندوق النقد). أساساً، يقول أندرسون، لم ينعكس حكم لولا وروسيف اليساري على شكل "ثورة" (كما في فنزويلا) أو حتى تغيير وإصلاح في النّظام: لم تجرِ "إعادة توزيع" اقتصادية في فترة لولا، بل مجرّد توزيع، بمعنى أن الإزدهار الإقتصادي قد رفع حظوظ كلّ فئات المجتمع، ولم توجّه ثماره الى الفقراء؛ كما أنّ البرنامج الإجتماعي الوحيد الذي دفع به حزب العمال، "المنحة العائلية"، تقلّ كلفته بكثير عن المساعدات والتسهيلات التي أقرّتها روسيف للشركات الكبرى في فترة "التقشّف". رئاسة لولا الأولى، في الأصل، جاءت تحت شعار "السلام والحبّ"، والتصالح مع المصالح القائمة، وقد وجّه قبيل انتخابه "رسالة الى الشعب البرازيلي" كان الهدف منها تطمين الرساميل الى أنّه لن يفعل شيئاً راديكالياً.
وسط هذه المتغيّرات والفضائح المتوالية، برز في الساحة "اليمين الجديد" (هكذا يسمّون أنفسهم)، وقد كان له أبرز الأثر في تنظيم المظاهرات الحاشدة ضد حزب العمال منذ آذار 2015. اليمين التقليدي في البرازيل، من ورثة الفترة العسكرية، كان شعاره "العائلة، الله، الوطن" (يذكّر ايضاً بالقوى القديمة في لبنان)، أمّا اليمين الجديد، فهو شابٌّ، مديني الطابع، ويؤمن بمبادىء الحرية الإقتصادية بنفس حماسة الماركسيين للشيوعية. أكثر من ذلك، هذا اليمين ليس محصوراً في مراكز القوى القديمة الهرمة، بل هو شعبويٌّ، يروّج لأفكاره عبر الفايسبوك والمدوّنات، ويعتبر أنّ الشّارع هو الساحة الأساسية للنضال. بل أنّ هذا المعسكر قد قلّد أساليب وشعارات الحركات اليسارية في تنظيم المظاهرات التي سار فيها أكثر من ثلاثة ملايين برازيلي، مع فارق أنهم يطالبون بحكومة أصغر وخصخصة، وإلغاء المنح لـ "الكسالى"، ويعتبرون أنّ هدفهم هو اسقاط حكومات الفساد والشعبوية، وإقامة دولة "نظيفة"، يقودها أناسٌ درسوا في الغرب، وتعمل وفق وصايا المنظمات الدولية وواشنطن. أحد أبرز وجوه هذا التيار، أولافو دي كارفالو، يعيش في ولاية فيرجينيا بأميركا، ورواده يستعيرون اللغة وأسلوب المحاججة من حركات أميركية يمينية - كحزب "حفلة الشاي" المتطرّف.
في ظلّ الحديث عن مصير الحركات اليسارية في أميركا اللاتينية، لا بدّ من النظر ايضاً الى "ردّ الفعل التاريخي" عليها، والتذكير بأنّ حركات التغيير الطموحة ليست حكراً على اليسار، بل هي ايضاً تأتي من اليمين ــــ وهو أكثر قوة وحيوية وأغنى موارد من منافسيه، ولديه "جبهة عالمية" تدعمه. "يمين جديد"، على الطريقة البرازيلية، قد يظهر في شوارع أكثر من بلدٍ في الجنوب، يدعو الى النيوليبرالية تحت شعارات الحداثة والى إنقلاباتٍ يسندها الغرب بحجة النزاهة ومكافحة الفساد. قد لا يكون في لبنان جبهة من هذا النّوع بعد، وشباب "المنظمات الأجنبية" الموالي للغرب لا يملك الكفاءة والحيوية الفكرية التي يظهرها نظراؤه البرازيليؤن، ولكن من يراقب التحوّلات الفكرية في بلادنا، ونشاط المنظمات وتخريج الناشطين، يعرف أن نسخة محلية من "اليمين الجديد" قد لا تكون الا مسألة وقت.