الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى المتسارعة في العالم العربي، ضمن ما بات يعرف بالربيع العربي، أنتجت نوعاً من سوء الفهم والاستعمال والخلط النظري في المفاهيم والمصطلحات العلمية المتعلقة بتحديد ماهية وسياقات ما حدث ويحدث. ولئن كانت الظروف العامة والإيقاع السريع والعميق والحاد للأحداث مستمرة بالزخم ذاته الناشر لجديده في الشارع الثوري عربياً، فإنّه من المفيد تفحص تلك الظروف ومراجعة النتائج التي أدت إليها على الصعيد النظري العلمي، بعيداً عن الأكاديمية التخصيصة الأكثر شبهاً بالرطانة.
لقد بلغ تأثير الحدث السياسي الانتفاضي الحادّ، وردود أفعال المؤسسات القمعية للدول العربية الريعية والتابعة للغرب الإمبريالي على بعض المصطلحات درجة مثيرة فعلاً. فقد اختلف البعض في صفوف نشطاء وأصدقاء الربيع العربي حول صفة وماهية هذا الحادث التاريخي، وهل هو ثورة أم انتفاضة أم تمرد شعبي أم شيء آخر. لا بل أنّ البعض في مصر وسوريا، اعتبر أنّ وصف ما حدث في هذين البلدين بمجرد انتفاضة أو تمرد شعبي وليس ثورة، يستبطن نوعاً من الاستهانة، وربما الإهانة في تأويل سياسي يخلو من العلمية.
من الأمثلة العملية على ذلك، يمكن إيراد السجال الحي الذي دار على شاشة إحدى القنوات الفضائية العربية بين المفكر السوري ميشيل كيلو، أحد أقدم رموز المعارضة الوطنية والديموقراطية للنظام السوري الذي يتبنى تعبير «التمرد الشعبي واسع النطاق»، وشريكه في ذلك السجال وائل ميرزا، القيادي في المجلس الوطني السوري الذي يرى ما يحدث في سوريا ثورة، منتقداً كيلو بشدة لأنّه لا يشاركه رأيه. تصلح هذه الواقعة لتكون مثالاً بارزاً على هذا الخلاف السياسي في ظاهرة والنظري العميق في جوهرة.
هنا محاولة أولية لتفحص الموضوع من وجهة نظر «سياسية ــ اجتماعية»، تحاول قدر الإمكان الابتعاد عن إطلاق التقييمات والأحكام المعيارية وتعتمد التحليل المفهومي.
ليس خالياً من الدلالات، ذلك الترابط الوثيق في العربية بين مفردتي ثورة وانقلاب. فالمفردة الأخيرة تستعمل بمعنى ثورة في عدد من اللغات الشرقية المتأثرة بالعربية كالفارسية والأوردية حتى الآن، لكن هذا الترابط كان سبباً للاختلاف السياسي عند العرب أنفسهم. في العراق مثلاً، كان ينظر إلى مَن يرى ما حدث في 14تموز/ يوليو 1958 انقلاباً عسكرياً، بوصفه رجعياً ومعادياً للثورة، أما مَن يراها ثورة، فكان تقدمياً وجمهورياً. لكنّنا، على الرغم من هذه النظرة الأيديولوجية إلى المصطلح، لا يمكن أن نغفل أنّ كلمة انقلاب، أقرب من حيث تكوينها اللغوي ومضمونها الدلالي إلى المعنى العلمي المراد بمفردة «الثورة»، من كلمة «ثورة» ذاتها. نوضح ذلك بالقول: إنّ المفردة الأولى تحيل إلى الانقلاب، وإلى فعل القلب في الوضع، والتراتب الطبقي والسياسي والاجتماعي السائد. أما الثانية «الثورة»، فتحيل إلى حالة واسعة جماهيرياً من الثّوَران، الهيَجان، التمرد... الخ. مع ذلك، نجحت مفردة «ثورة» المحدودة لغةً، في الاستحواذ على المكنون الدلالي للمصطلح كاملاً، ضمن ما يسميه علم العلامات «السيميولوجيا»، بالانحراف الدلالي للعلامات اللغوية، وانحسرت مفردة «انقلاب» في العربية لتدل على الانقلاب العسكري فقط. أما في علم الاجتماع الحديث، فالانقلاب يختلف جوهرياً عن الثورة، لأنّه يعني انتقال السلطة من يد فئة قليلة إلى فئة قليلة أخرى، تنتمي إلى الفئة الأولى نفسها التي كانت تسيطر على الحكم، أو على الأقل تشبهها، ويحصل ذلك باستخدام وسائل العنف الرسمية، دون إحداث تغيير في وضع القوة السياسية في المجتمع، أو في توزيع عوائد النظام السياسي، أي انّه تغيير في أوجه حال الحكام، دون تغيير في أحوال المحكومين، والانقلاب نوع من أنواع التمرد.
في التأصيل التاريخي للمصطلح أوروبياً، نجد ما يؤيد ذلك الرأي، فكلمة ثورة (Revolution) في اللغات اللاتينية، قادمة من حقل علم الميكانيك، وتعني أصلاً «دوران الجسم حول نفسه أو انقلابه 360 درجة على محوره». بمعنى، أنّ الصِّلة مع دلالة الانقلاب أقوى من الدلالات الأخرى، كما في كلمة «الثّوَران». وقد استعار علم الاجتماع الحديث هذه المفردة «ريفيوليشيون»، من «الميكانيك» كما قلنا، ليضفي عليها دلالات ومحمولات أخرى، لتعني، أولاً وأخيراً، كلَّ حركة اجتماعية وسياسية تؤدي إلى انقلاب شامل في المفاهيم الفكرية والسياسية، بما يتضمنه ذلك الانقلاب من تغيير راديكالي شامل في أوضاع الملكية.
يلاحظ الكاتب المصري مهدي بندق، بصواب، أنّ التعريف السابق «لا يكاد ينطبق إلا على ما حدث في فرنسا عام 1789 وروسيا عام 1917 حيث تمكنت هاتان الثورتان من تحقيق أهدافهما بحيازتهما سلطة الدولة، وهو ما لم يحدث في مصر يناير، على الأقل حتى الآن». غير أنّ بندق يتخلى عن المحتوى الفكري العميق لمقارنته، وينحاز إلى نوع من البلاغة السياسية مرتين: الأولى، حين يفحص الحادث المصري بطريقته الخاصة، فيقول «ما حدث في يناير إنما يشي بانقلاب تاريخي جذري في الشخصية المصرية أساسه سقوط نمط الركود الإنتاجي بمطرقة عصر الاتصالات الذي أثمر محو ثقافة المفعولية والإذعان، فاتحاً الفضاء الثقافيّ لإرادة الفاعلين الاجتماعيين». فرغم حيوية تلك الفكرة، ولكنّها غامضة على المستوى البحثي، لأنّها أكثر ميلاً إلى العرض الوصفي البلاغي منها إلى الفحص النظري الدقيق. والمرة الثانية، حين يشترط لوقوع وتحقق الثورة في مصر شرطاً من خارج سياقها الحدثي والتاريخي، وهو نجاحها وانتصارها على قوى الثورة المضادة، أما إذا حدث العكس، فإنّ التاريخ، كما يقول «سيسأل علماء الاجتماع: هل كان يناير مصر ثورة أم كان مجرد حلم جميل؟».
من ناحية أخرى، ليس هناك تعريف كلاسيكي واحد للثورة، بل هناك تعريفات متعددة، منها تلك السائدة في النثر السياسي البرجوازي والتي تكاد تتفق على رفض اقتران الثورة بتغيير أوضاع المُلكية، على وجه الخصوص. لكنّ الثورات لا تنجح في تغيير أوضاع المُلكية، وتطيح التراتبية الطبقية القديمة بين ليلة وضحاها، بل بعد سنوات من وقوعها، فهل يعني ذلك أنّ إطلاق اسم الثورة على الحادث التاريخي المعني لا يكون إلا بعد سنوات من وقوعها؟ الإجابة ستكون بالنفي قطعاً، ولكن مصطلح الثورة قد يكتسب معناه ومشروعيته التاريخية والعلمية من تحقق البرنامج الثوري أو أجزاء مهمة منه في المجتمع.
ثم إنّ هناك ثورات انتكست بعد سنوات على قيامها، وثورات انتكست في أيامها الأولى ولكنّها حافظت على حيازتها لاسم الثورة، وهناك أيضاً الاستخدامات الأصيلة لمفردة «ثورة» في ميادين الأدب والفن والتكنولوجيا، وهي استخدامات سادت واكتسبت شرعيتها لا على جهة المجاز، بل على جهة التأصيل والجوهر.
بالعودة إلى تعريف الثورة، نجد في موسوعة علم الاجتماع أنّها تعني تلك «التغييرات الجذرية في البُنى المؤسسية للمجتمع، التغييرات تعمل على تبديل المجتمع ظاهرياً وجوهرياً من نمط سائد إلى نمط جديد يتوافق مع مبادئ وقيم وإيديولوجية وأهداف الثورة، وقد تكون الثورة عنيفة دموية، كما قد تكون سلمية، وتكون فجائية سريعة أو بطيئة تدريجية». والواقع أنّ ذلك التعريف فضفاض وفقير المحصول علمياً رغم أنّه يؤكد بصواب، وربما للمرة الأولى، أنّ العنف ليس شرطاً ملازماً للثورات، فهناك ثورات سلمية، وهذا ما ينطبق تماماً على تفاصيل الحدث العربي في تونس وفي مصر، أما في ليبيا فالأمر مختلف جوهرياً. الثورتان التونسية والمصرية كانتا سلميتين لجهة نشاط الثوار وحركتهم وليس لجهة نشاط النظام القائم الذي استهدفته الثورة والذي لجأ إلى أقصى درجات العنف المفرط وسفك الدماء. وبذلك تكف تلك التعريفات التي تشترط العنف لتسمية «الثورة» وتعريفها، عن الفاعلية العلمية كتعريف البروفسور هاري ايكشتاين الذي يعرّفها كالتالي: «محاولات التغيير بالعنف أو التهديد باستخدامه ضد سياسات في الحكم أو ضد حكام أو ضد منظمة».
إنّ ما قلناه عن تعريف موسوعة علم الاجتماع للثورة يمكن أن يقال، لكنْ بدرجة أخفّ، عن التعريف الذي يخلص إليه الباحثان قادري سمية وشنين المهدي في بحثهما المشوّق والغني «سوسيولوجيا الثورة» الذي نشر في خضم الربيع العربي. يقول الباحثان إنّ الثورة هي «أداة تطور تاريخي للمجتمعات الإنسانية، فهي حدٌّ فاصل بين النظام القديم والجديد، يحدث تغييراً جذرياً للبناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الثقافي، ويستهدف هذا التغيير إفراز منظومة تجسد مطالب الثوار وتحققها». وقلنا «بدرجة أخفّ» لأنّه رغم طابعه التعميمي يلامس في العمق الماهية الفعلية للثورة المتحققة.
إنّ التصدي النظري العلمي لمصطلح الثورة ومفهومها لم يعد ترفاً نظرياً أو بطراً فكرياً في الراهن العربي، بل هو شأن مهم وعملي يمنح الثوار وأصدقاء التغيير الثوري المتصاعد، سلاحاً نظرياً هم في أمس الحاجة إليه في هذا الصراع الضاري وفي وجه عدو مدجج بأكثر الأسلحة الإعلامية والنظرية خبثاً وفاعلية.
* كاتب عراقي