قد يبدو أنّ التغييرات التي تحققها الانتفاضات التي تعم العالم العربي شكلية، وقد تكون تلك التغييرات الشكلية مجال تعميم فكرة أنّها مؤامرة، الهدف منها تغيير نظم مهترئة لمصلحة نظم جديدة تخدم الإمبريالية. فما تحقق في البلدان التي انتصرت فيها هو إزاحة أشخاص لمصلحة آخرين، مع تحقيق انفراج ديموقراطي، لم يصل إلى حدّ بناء دولة مدنية ديموقراطية، وبالتالي ظلّت البنية «الصلبة» للسلطة كما هي، وتمثّل المصالح ذاتها، والارتباطات ذاتها. لذلك تصبح الانتفاضات كلّها مجال شك، ويسيطر المنطق الذي يرى أنّ الإمبريالية تغيّر جلد نظمها.ربما حكم ذلك الجو النظر إلى التغيير الذي بدأ منذ خمسينات القرن العشرين. فقد تحقق التغيير عبر انقلابات عسكرية، في مصر وسوريا والعراق، والسودان وليبيا واليمن. ولقد نُظر إلى ذلك انطلاقاً من الموجة الأميركية لتغيير النظم، من أجل أن تحلّ محل الاستعمار القديم. فالانقلابات لعبة أميركية نجحت في أميركا اللاتينية وبعض بلدان آسيا، وحتى في اليونان. وفي ذلك السياق، أصبحت تدرج الانقلابات في الوطن العربي، وخصوصاً أنّ انقلابات سوريا سنوات 1949 و1950، جاءت ضمن سياق الصراع الأميركي الأوروبي للسيطرة.
كان منطلق ذلك التحليل، ربما، هو أنّ الجيوش هي صنيعة النظم، التي هي بدورها صنيعة «الغرب الاستعماري»، ولهذا فإنّ دورها الجديد لا بد أن يكون ضمن سياق سياسة «غربية» لتجديد السيطرة على المنطقة. وذلك ما جعل اليسار يشكك في ما يجري، ويطالب بالنضال ضده. وكان «هوى» عبد الناصر «الأميركي» في السنوات الأولى يعطي هذا الانطباع، ويعزّز التصور بشأن أنّ ما يجري هو تغيير شكلي لمصلحة السيطرة الأميركية، التي باتت ترث الاستعمار القديم، رغم أنّ انقلاب «23 يوليو» كان بتحالف مع شيوعيين.
من حيث الشكل، الجيوش هي أداة نظم، وطبقات مسيطرة، لا شك في ذلك. وأيضاً فإنّ الانقلابات هي لعب إمبريالي، لكن ما كان يجري في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية كان يشير إلى أنّ المجتمعات تضج بالحاجة إلى التغيير. لم يكن يلمس ذلك الذين كانوا «يناضلون» في إطار الديموقراطية ومن أجلها (أو بالتحديد دمقرطة النظم)، ولم يكن الشيوعيون يتلمسونه كذلك، فنضالهم كان من أجل الديموقراطية. لذلك كانت الانقلابات مفاجئة، وليست في السياق الذي ترسمه هذه الأطراف كلها.
لكن تبيّن أنّ المسألة لم تكن تتعلق بانقلابات أميركية ولا خارج السياق، بل إنّها في صلب الوضع، ونتاج المشكلات التي تسكنه. فقد كان الوضع المجتمعي يفرض تغيير النمط الاقتصادي الذي كان يهمّش كتلة كبيرة من السكان، ويمركز الثروة بيد أقلية ضئيلة، ويقوم على السحق والاضطهاد الذي كان يطاول الريف، أكثر مما كان يطاول المدينة. الريف الذي كان يمثّل الكتلة الأساسية من السكان ومن قوى الإنتاج والدخل الوطني. وهو الوضع الذي كان يدفع إلى التغيير، إذ لم تعد الطبقات الشعبية (وخصوصاً في الريف) قادرة على العيش، ولا السلطة باتت قادرة على الحكم. ورغم وجود الأحزاب، الكبيرة والقوية، ومنها الأحزاب الشيوعية، لم تكن في وارد التغيير، الأمر الذي فرض تحوّل الجيش (الذي كان قد أصبح فلاحياً في كوادره الوسطى وجنوده) إلى قوة تغيير، تحمل أحلام التطور والحداثة التي كانت قد تعممت كأفكار ومطالب طيلة عقود سابقة.
وإذا كانت هناك أوهام بدعم أميركي نتيجة وضع أميركا حينها، الذي كان يظهر كداعم لحق تقرير المصير والاستقلال، فإنّ مطالب الواقع كانت تظهر التفارق، وتؤسس لتناقض سرعان ما ظهر. فما كان يجري هو نهوض شعبي من أجل التغيير، ولم يكن ممكناً توقفه عند حدّ التغيير الشكلي، بل كان يندفع نحو تغيير عميق. وهو ما تبلور في حمل فئات ريفية حلم التغيير، الذي فرض تحقيق الإصلاح الزراعي (وبالتالي تحرير الريف من اضطهاد إقطاعي طويل)، وتعميم التعليم المجاني (الذي كان حلم فئات واسعة)، وبناء الصناعة، وحلّ مشكلة البطالة، وكلّ المسائل التي لمسناها خلال سنوات الخمسينات السبعينات. بمعنى أنّ الريف لم يعد قادراً على بقاء الوضع كما هو، وكان يبحث عن التغيير، فلم يجد سوى الجيش مدخلاً لذلك.
بغض النظر عن النتائج، التي يمكن البحث فيها، وخصوصاً نتيجة سيطرة فئات ريفية تبحث عن تحوّلها الطبقي، فإن ما ظهر هو أنّ الخوف والأحكام وكل التقويم الذي طاول هذا التغيير، لم تكن جميعها صحيحة، وعبّرت عن سوء فهم للواقع. وانبنت على تصورات عمومية وشكلية تعتمد على ما يمكن أن يسمى «رؤية» للصراع العالمي، لا فهماً لمشكلات المجتمعات ووضع الطبقات الشعبية، وفهم الظروف التي فرضت (أو تفرض) التغيير.
إذاً، لا بد من الانتقال من الفهم الشكلي إلى فهم عمق المشكلات، وانعكاسها على الحراك الذي يجري. وذلك كان الهدف من تناول وضع التحوّلات في الخمسينات، إذ ظهر أنّ الشك لم يكن مبنياً على فهم حقيقي للواقع، بغض النظر عن كل النتائج التالية، التي يمكن البحث فيها. وكان الفهم العمومي، والمتعلق بما هو عالمي، هو الأساس في سوء الفهم.
الآن، يحدث الشيء ذاته. رغم اختلاف أشكال التغيير (على نحو جذري). فالشعب هو الذي يغيّر اليوم، لهذا ستكون النتائج عميقة وجذرية. ولهذا سنلحظ أنّ الأمور معكوسة، إذ لا تزال النظم هي ذاتها في الجوهر، أي من حيث الموقف من النمط الاقتصادي، بغض النظر عن اختلاف الأشخاص وشكل الحكم. وسنلمس أنّ مشكلة الأربعينات نفسها قائمة الآن، إذ لا أحزاب قادرة على تحقيق التغيير لمصلحة الطبقات الشعبية.
بالتالي لم تتغيّر النظم حقيقة، ولا تزال هي نظم الرأسمالية المافياوية التابعة (حتى حين تصبح حركة النهضة هي السلطة)، لكن لم تثر الطبقات الشعبية من أجل ذلك، وإذا كانت عاجزة الآن عن تحقيق التغيير الذي يحقق مصالحها، فإنها سوف تظل تقاتل إلى أن تحقق هذه المصالح. بمعنى أنّ التغيير الشكلي الذي تحقق لن يقود إلى تهدئة هذه الطبقات، ولا إلى عودة الاستقرار، بل سيكون «مرحلياً». فالمطلوب اليوم، كما كان في الخمسينات، وربما على نحو أعمق، هو تغيير النمط الاقتصادي بما يسمح بحل مشكلات البطالة والأجر والتعليم والصحة بالأساس. لذلك، فإنّ تحقيق هذا الشكل من التغيير الآن، الذي نتج عن غياب الأحزاب المعبّرة عن الطبقات الشعبية بالتحديد، لا يعني نهاية الصراع، بل تحقيق خطوة أولية في طريق تحقيق التغيير الذي يحقق مطالب الطبقات الشعبية.
إن ما يجب أن يلمس هو «روح» الانتفاضات التي بدأت، لا شكل التغيير الآني، لأنّ «انفلات» الطبقات الشعبية سوف يفتح الأفق لصراع لن ينتهي إلا بتحقيق مطالب هذه الطبقات. المطلوب اليوم هو تغيير النمط الاقتصادي من أجل تأسيس اقتصاد منتج، هو وحده الذي يضمن حل مشكلات الطبقات الشعبية، العمل والأجر والتعليم والصحة.
ومن ثم إذا لم تُفهم طبيعة دور الجيش في الخمسينات من القرن الماضي، فإنّ ما لا يُفهم اليوم هو أنّ الوضع لا يقبل هذا التغيير الشكلي، وأنّ الصراع سوف يستمر إلى أن يتحقق التغيير العميق.
إنّنا في لحظة تفرض التغيير الجذري، أي ذاك المتعلق بالنمط الاقتصادي، وكلّ تغيير شكلي سوف يسقط في الطريق، لأنّ الطبقات الشعبية لم تعد قادرة على تحمّل الوضع الذي هي فيه، وباتت النظم أعجز عن أن تحكم. وبالتالي، فإنّ محاولات الامتصاص أو الالتفاف سوف تتساقط الواحدة بعد الأخرى.
نحن في هذه النقطة. الأمر الذي يفرض إسقاط كل التهويش الذي يجري، والانطلاق من «هلام عالمي» لا يعني شيئاً في الواقع الآن. بمعنى ليست السياسات الإمبريالية هي التي ستصوغ الأفق، بل الشعب هو من سيفعل ذلك.
* كاتب عربي