«لن تقع أرملة أو يتيم تحت رحمة رجل قوي بعد الآن». بهذه الكلمات المترجمة بتصرف وجّه أوروكغينا حاكم مدينة لجش السومرية (2400 ق. م.) نداءه الإصلاحي لأهل مدينته في جنوب العراق، حيث أخذ على عاتقه حماية فقرائها من جشع الأثرياء والكهنة والمرابين. فصادر أملاك النخبة وأعاد توزيعها وبذلك يكون حاكمنا السومري هذا قد قدم نفسه لنا كأول مصلح في تاريخ بلاد الرافدين المديد، ولكن هناك الكثير من الغموض يلف الظروف التي انطلقت منها هذه الإصلاحات، التي لم تتضح بعد لعلماء السومريات. وكأوروكغينا يحاول رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إعادة تعريف نفسه شعبياً مما سمي وقتها مرشح «المقبولية الوطنية»، أي من يحظى برضى جميع الكتل السياسية، إلى رمز الإصلاح ومحاربة الفساد.
الأمر الذي إن صحّ فسيعني الاصطدام بالطبقة السياسية العراقية وحمايتها في الوقت نفسه.
فما الذي حفّز العبادي ومن خلفه المرجعية على أداء هذا الدور؟ وما سبب صمت السفارة الأميركية هذه المرة عن حملة العبادي ضد الفساد؟ فعادة ما تتدخل واشنطن في مثل هذه الحملات متهمة القائمين عليها بالإستبداد، وبقمع المعارضة.
ولكن يبدو أن الأوليغارشيا العراقية بدأت تشعر بالقلق من تصاعد شعبية وقوة الحشد الشعبي ورموزه مقابل تراجع شعبية وفشل برامجها وساستها، وإمكانية اتجاه بعض قوى الحشد الشعبي إلى تبني مطالب الحراك الجماهيري، سواءٌ الآن أو مستقبلاً والبناء عليه لتطرح نفسها بديلاً للطبقة الحاكمة، وهو ما لاحظه الكاتب العراقي الوطني صائب خليل، إلا أن التحريض على القوى الأساسية في الحشد قد بدأ من ممثل الأوليغارشية العراقية ذاتها، أي حيدر العبادي. فالرجل ذكر بحذر ومواربة أن علينا «عزل» الحشد الشعبي عن العملية السياسية باعتبارهم عسكراً مكانهم الميدان لا قبة البرلمان، حيث قال «إن للعمل السياسي مجاله، كما للعمل الانتخابي مجاله، ألم تغدُ طريقة عملنا أن نبعد القوات المسلحة عن العمل السياسي؟ جيد، إذاً لمَ لا نعزل الحشد الشعبي عن العمل السياسي؟ يجب أن نضع فاصلاً» (راجع خطابه بإحتفالية يوم الشباب العالمي ببغداد يوم 12 أب 2015).
ولا يخفي العبادي هنا خشيته من استغلال قوى الحشد لما سماه «المكاسب» المتحققة من معارك «تحرير الوطن».

ما بين الأوليغارشيا والحشد

على الرغم من محاولة البعض اليوم، وخاصة بعض المتظاهرين والإعلاميين، تحويل العبادي إلى رجل الإصلاح الأول ومنقذ العراق وأمله، إلا أن الرجل ركن من أركان الأوليغارشيا المتهمة بالفشل والفساد والضعف. وهو أصلا كان قد جيء به ضمن اتفاق الطبقة السياسية للحفاظ على نظام المحاصصة، الذي ما كان له أن يستمر بشكله الحالي إلا بالسير بما يسمى «حكومة الشراكة»، أي أن تشترك كل القوى ومكونات الشعب العراقي في الحكم، فلا يعود من مصلحة أحد محاسبة أحد، ويظل البرلمان حلبة للمهاترات الطائفية والفئوية.
وفعلاً جرى تعطيل عشرات القوانين والمشاريع الحيوية للبلاد، مثل قانون البنية التحتية، وتسليح الجيش، وقانون الأحزاب وغيرها. وتعد الأحزاب القومية الكردية، والمجلس الأعلى لعمار الحكيم والكتلة الصدرية لمقتدى الصدر والكتل السنية والنواب التابعون لإياد علاوي وأسامة النجيفي من أكبر المدافعين عن حكومة الشراكة هذه. وما كان لكل هؤلاء أن ينجحوا لولا دعم المرجعية، وذلك بإطاحة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي صاحب المشروع المضاد والمسمى «حكومة الأغلبية»، والمقصود بالأغلبية هنا أغلبية سياسية داخل البرلمان.

ما هو سبب صمت
السفارة الأميركية عن حملة العبادي ضد الفساد؟


ولكن فضلاً عن فشل نظام «حكومة الشراكة» وكونه ستاراً مثالياً للنهب والفساد، فإن تحولات سوق النفط العالمية وهبوط أسعارها قللا من مداخيل الدولة، وأضعفا من قدرتها على التزام نفقاتها ومصاريفها الكثيرة. فلم يعد الفساد فولكلوراً أو تفصيلاً يمكن تحمّله لأنه بات يهدد سلامة النظام.
وهو ما قد يعيد إلى الواجهة مرة أخرى مشروع «حكومة الأغلبية» الذي يعده البعض أكثر عرضة للمساءلة والمحاسبة من «الشراكة». وخطورته بالنسبة إلى الأوليغارشيا هو نشوء تحالف اليوم أو مستقبلاً بين ما تبقى للمالكي من شعبية ورمزية عند بعض جمهوره، وبعض قوى الحشد الشعبي التي زادت قوتها وشعبيتها أخيراً، لكنها (أي الأوليغارشيا) تدرك أن المالكي يملك (أو كان يملك) أكبر كتلة نيابية (دولة القانون)، وأنه كان قد حصل على أكبر عدد من الأصوات في انتخابات 2014، لكنه ليس أخطر التهديدات التي تواجهها. فهناك قوى عسكرية وسياسية كمنظمة بدر، التي تعد إحدى أهم قوى الحشد الشعبي بقيادة هادي العامري، وحليفة المالكي، والأقرب للحكومة من بين قوى الحشد المهمة، حيث أنها كانت وما زالت جزءا من دعاة «الأغلبية».
وهناك أيضاً قوى «الحشد الشعبي المقاوم» وهي القوى التي حاربت المحتل وقاتلت ضد القاعدة ومشتقاتها في سوريا ومثّلت أخيراً نواة الحشد الشعبي، كعصائب أهل الحق وحركة النجباء (المنشقة عن العصائب التي ما زال لها مقاتلون في سوريا) وكتائب حزب الله العراق الأقرب تنظيمياً وتدريباً لسميه اللبناني، وكتائب سيد الشهداء (المنشقة عنها)، وكل هؤلاء خارج الحكومة وتمثيلهم في العملية السياسية شبه معدوم.
وما تدركه الأوليغارشيا أيضاً أنه على الرغم من حرص هؤلاء ألا يصطدموا بالسيستاني وتأكيدهم على أبوته للحشد، إلا أن أيا من قادتهم، كما جزء لا بأس به من مقاتليهم، لا يرجع إليه بالتقليد، (كقيادة بدر التي تقلد الخامنئي). ولقد سبق لهم أن صرحوا علناً وسراً بأن المالكي كان أفضل وأسرع استجابة وايماناً بحاجاتهم الجهادية من العبادي (الذي باركته المرجعية للعراقيين بديلاً). وإذا ما قرر كل هؤلاء تبني «مشروع الأغلبية» مضافاً إليهم نواب المالكي السابقون كحنان الفتلاوي وكاظم الصيادي (بالمالكي أو بدونه)، ومن خلفهم انتصارات عسكرية باهرة وتظاهرات شعبية، فكل هذا قد يضع أنصار (حكومة المشاركة) في مأزق حقيقي.
ومع كل ما ذكر اعلاه، من المهم أن نوضح، أنه ليس كل قوى الحشد الشعبي والمقاوم منه، متفقة على برنامج ورؤية واحدة، ولا يعني إتحادهم اليوم لمقاتلة داعش أنهم سيكونون برنامجاً سياسياً موحداً عقب انتهاء المعارك، كما أن الشعبية الكبيرة التي نالها هؤلاء المجاهدون قد لا تترجم لمكاسب انتخابية كبيرة كما تخشى الأوليغارشيا، وذلك لأسباب تنظيمية وطبقية وحسابات سياسية معقدة.
ففي الوقت الذي يرى فيه الخزعلي ضرورة الإنخراط في العملية السياسية والتظاهرات، يرى قائد تنظيم حشدي آخر (شبل الزيدي ــ كتائب الإمام علي) أن توريط الحشد الشعبي في دهاليز السياسة ليس في مصلحته، كما أن من الصعب التنبؤ بمستقبل شعبية المالكي التي من الممكن أن يكون العبادي قد ورثها حيث يعتقد أن أغلب جمهوره هم من موظفي الدولة الذين قد يخيفهم كبيروقراطيين الحشد كقوة مستقلة.
ويمكننا تتبع القلق الأوليغارشي منذ بدأ تدفق الناس على مراكز التطوع في حزيران عام 2014، وتحقيق الحشد أول انتصاراته العسكرية في ديالى وصلاح الدين، مما أظهر الدولة وجيشها عاجزين وفاسدين، فاستشعروا تراجع شعبيتهم بين الناس على نحو كبير، وأن معظم العراقيين لم يعد يشتري كذبة الحرية وأخواتها التي «باعوهم إياها» منذ انتخابات 2005. لذا لا يُستبعد أن تحاول بعض قواها إظهار ممثلهم العبادي كرمز لمحاربة الفساد، مقابل شعبية أبطال الحشد التي انتزعوها بكفاحهم في الجبهات.
ويلاحظ أن تسابق أحزاب الطبقة الحاكمة على تحقيق شعبية البطولة بدأ بالصور الهزلية التي أخذ بعض هؤلاء ينشرها لقادتهم ووزرائهم باللباس العسكري، ولكن أنى لعمار الحكيم مثلاً أن يقنع شعباً عاش أكثر من ثلاثة عقود في حرب وعسكرة بأن له هيئة وهيبة القادة والأبطال؟ ولكن كما جرى ويجري في المعارك الإجتماعية والسياسية والإعلامية حول من تعود له أبوة الحشد وإنجازاته، ستجري معارك شبيهة حقيقية ووهمية حول معركة مكافحة الفساد.

منظمات المجتمع المدني والحشد

انطلقت باكورة التظاهرات من جنوب العراق، بسبب معاناة الناس من شدة الحر وانقطاع الكهرباء واستهتار المسؤولين وفسادهم. وكانت المطالب في البداية محصورة بمحاسبة وزير الكهرباء. ثم تطورت هذه المطالب لمحاسبة المفسدين، وبتزايد عدد المتظاهرين ودخول أطراف عدة تحولت ساحة التحرير في بغداد لكرنفال مطالب لا يشبه بعضها الآخر. يتفقون على محاربة الفساد، ولكن يختلفون على دور الدين ورجاله، وإيران ودورها، حول استهداف شخصيات وأحزاب بعينها كنوري المالكي، وعمار الحكيم، صدام حسين وابنته رغد وهكذا... وكان بينهم مؤيدون للحشد الشعبي، وآخرون يؤيدون منظمات المجتمع المدني، يساريون واسلاميون، والمرجعية، والعبادي، وأحزاب السلطة.
في مثل هذه الظروف من الصعب تحديد مسار التظاهرات ومن المستفيد منها، فهناك مهرجان مطالب وهناك عدة ملاحظات يمكن رصدها. فاذا ثبتت التقارير التي تتحدث عن أن التظاهرات سيطر أو يحاول السيطرة عليها شباب منظمات المجتمع المدني الممول والمدرب بأغلبه غربياً، فستحاول هذه التظاهرات أن ترسخ فكرة الحكم العلماني في العراق، التي لا تنوي في النهاية ضرب أحزاب السلطة الفاسدة فحسب، بل ستصطدم وفق منطقها المعادي للإسلاميين بقوى الحشد الشعبي بدعوى أنها في النهاية قوى طائفية إسلامية علينا أن نحمي ثقافتنا وتنوعنا ورفاهنا منها.
وبصراحة لن أستغرب إن إنضمت المرجعية لدعوة هؤلاء بإنشاء ما يسمى الدولة المدنية. فهم يخشون أغلب القوى المكونة للحشد الشعبي، حالهم كحال المنظمات الليبرالية، وكما أوضحنا في مقال سابق أنه لولا خطر داعش لما بارك جهادهم، وستكون حينها حملة دعاة العلمانية على الإسلاميين رافداً لدعوى العبادي وجهود طبقته السياسية بإبعاد قوى الحشد الشعبي عن السلطة بدعوى إبعاد العسكر عن السياسة، وسنعود في مقالة مقبلة لأزمة العلمانية في العراق والمشرق.

حين يرجع الحشد لأهله

تقول الكثير من السرديات اليسارية في غرب أوروبا إنّّ ما أجبر النخبة فيها على التنازل أمام الضغوط الشعبية بعيد الحرب العالمية الثانية وإرساء مشاريع دولة الرفاه، كمشاريع الإسكان والرعاية الصحية، والضمانات الإجتماعية السخية، والتقاعد، الخ... هو خشيتها من شعبها الذي تعلم فن الحرب. فلم يعد أبناء البروليتاريا العائدون من خنادق الجبهات ومعاركها تخيفهم الهراوات ورصاص الشرط. ومع انتشار الفكر اليساري الثوري في كل أنحاء أوروبا آنذاك ووجود الاتحاد السوفياتي كبديل جدي وفعال للرأسماليات الأوروبية في ما يخص هذه الحقوق، صار على النخبة أن تتجنب إغضاب الشعب واحتقاره.
وكما بعد نهاية كل حرب سيعود رجال الحشد إلى البؤس والمدن المدمرة وحكومة الفساد والفوضى، فهل سيقبلون الفقر والتهميش؟ وهذا ما يقودنا إلى السؤال التالي هل ستعمل قوى الحشد المقاوم، أو بعضها، على تطوير رؤية سياسية لمبدأ العدالة الاجتماعية والنضال من أجلها إن عادت وقررت المساهمة في العمل السياسي؟ من المعروف أن حزب الله كحركة مقاومة قدم لجمهوره الحزبي إن صح التعبير منظومة دعم وتكافل إجتماعي ساعدت فقراءه وأيتامه وأرامله، ما عزز جبهته الداخلية ورسخها، ولكن ظروف لبنان السياسية، وحجمه السكاني والجغرافي، يختلفان عن العراق، فما وفره الحزب من جمعيات أهلية تكافلية لن ينجح في العراق، إن لم تتبنّه الدولة وبضغط من الحشد والقوى الشعبية.

المقاومة والفقر والكفر

ومن بين كل القوى الإسلامية والقوى المكونة للحشد في العراق، يبرز تنظيم عصائب أهل الحق كأكثرها إبرازاً للهم الاجتماعي في خطب قادته وإعلامه. وميزة العصائب هنا أنها ليست تنظيماً سلمياً صغيراً وحالماً بل هم قوة عسكرية، لها شرعيتها الشعبية المتصاعدة، وليس من الحكمة تجاهلها وعزلها. يتحدث أمينها العام قيس الخزعلي بكل شجاعة عن ضرورة إقصاء الأوليغارشية التي ينعتها «بالإقطاع السياسي»، وتتميز خطاباته عن غيره من معممي العراق، الذين يمقتهم العلمانيون، باستخدامه مفردات الطبقة، والأغنياء، والفقراء، والمهمشين، والإقطاع، والفلاحين الخ... وهو أمر من المثير أن تسمعه من زعيم تنظيم مقاوم، حيث أن الكثير من حركات المقاومة الحالية لم تعوّدنا طرح المسألة الإجتماعية، وكانها ليست جزءاً من أمنها وأمننا القومي.
ففي خطبته التي ألقاها في مدينة الرفاعي في شباط 2015، أوضح الخزعلي للحضور أن نظام «الإقطاع السياسي» نهب العراق، فتآكلت «الطبقة الوسطى» وصرنا كالهند «أكثرية فقيرة» شببههم بالفلاحين، مستغلة من «أقلية غنية» شبههم بالملاكين «أيام الإقطاع الزراعي». وقال أيضاً إن هناك «طبقة سياسية برجوازية» حددها بالسياسيين وأسرهم وحاشيتهم، تستغل الأغلبية الفقيرة. ثم عاد وشرحها لحضوره الريفي فسماهم «أولاد المسعدة» مقابل «أولاد الخايبة». وهنا طالب «بثورة جماهيرية» لا عسكرية، وأننا كمقاومة لن نسكت، بل سندعم شعبنا ونقاتل معه «فخطوطنا الحمراء هي أرواح، وأعراض وأرزاق الناس».
وبينما قد تسمع خطاباً اكثر وعياً بالمظالم الإجتماعية لدى مفكر إسلامي كعلي شريعتي مثلاً، لكن لم يكن لشريعتي ميليشيا تدعمه، أما الخزعلي، فله جماهير وحركة مقاومة مسلحة ومحطة تلفزيونية وحضور برلماني معارض وحلفاء إقليميون. ونرى مثلاً في تلفزيون «العهد» التابع لتنظيمه برنامج «كلام وجيه» الذي تُعرض فيه أشد أشكال النقد لفساد الحكومة ومظاهر ثراء مسؤوليها. ويُعرّف فيه المقدّم نفسه بأنه فلاح ابن فلاح، وأنه ابن الأرض كما يقال. فهو ابن الشعب ويبدي ذكاءً ملحوظاً بفضح تجاوزات الحكومة ومحاولاتها الالتفاف على مطالب الجماهير، وقد تعرض للتهديد أكثر من مرة، وللمساءلة القانونية إثر عرضه لتجاوزات النائب المقال بهاء الأعرجي، ورجل الأعمال العراقي عون حسين الخشلوك، صاحب قناة «البغدادية»، وغيرهما.
وغالباً ما يجري التطرق بالخير للزعيم الراحل عبد الكريم قاسم (1958-1963)، المعروف «بنصير الفقراء»، ولعل هذا الامر يفسر لنا جانباً من عقلية وخلفية بعض عناصر رجال العصائب، حيث ينحدر الكثيرون منهم من مدينة الصدر، التي أول ما جرى تأسيسها على يد عبد الكريم قاسم، وكانت تعرف بمدينة الثورة، حيث جُمع كل سكان الصرائف والعشوائيات في بغداد ليقيموا في مدينة حديثة في شرق العاصمة، شيدت خصيصاً لهم، مزودة بالماء والكهرباء والطبابة والمدارس. وينحدر أبناء الصرائف تلك من فلاحين هجروا قراهم بجنوب العراق، بسبب ظلم الإقطاع نحو المدن الكبيرة. وظل لعبد الكريم قاسم تأثير قوي على كل أهل مدينة الثورة الفقيرة التي صارت تعرف اليوم بمدينة الصدر.
لم يشترك أبناء العصائب في نظام المحاصصة الطائفية كما فعل قادة التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر. وهو التيار الذي انشقوا عنه، ويبدو أن الثراء والسلطة اللذين نالتهما نخبة التيار الصدري قد أفسداهم أو أغلبهم على الأقل بينما بقي أبناء العصائب بعيدين عن السلطة ومفاسدها بفضل انخراطهم بالعمل المقاوم ضد المحتل حتى فترة قريبة. وهو الأمر الذي أبقى روحهم الثورية والصدرية، وربما شيئا من «القاسمية» حية، التي ساهمت في بلورة وعيهم الاجتماعي.

خاتمة

ما أتوقعه هو ألّا تؤدي التظاهرات هذه المرة إلى تغييرات راديكالية في العراق، ولكن قد تكون هناك فرصة أكبر لحصولها بعد انتهاء المعارك، ما سيبدل الكثير من الحقائق والتوازنات على الأرض، ويغير نظام المشاركة بنظام الأغلبية، أو حتى نظام أكثر مركزية، وخاصة اذا ما عاد بعض رجال الحشد، وعمل بعضهم كالعصائب على تطوير خطابهم الإجتماعي والوطني ليكسبوا ثقة ما أمكن من شعبهم وحلفائهم. ولعلهم وغيرهم من قوى المقاومة في المنطقة، يعون خطورة انتشار الفقر والبؤس بين شعوبهم، وخاصة أن ثلاثة بلدان حتى الآن (العراق، سوريا، اليمن) أكلت بناها التحتية ودمرت اقتصادها الحروب والفساد وسوء الإدارة، ولن يعود جنودها وفقراؤها ليروا الفوارق الطبقية للنخب على أنه قدر سماوي، بل قد تجري على ألسنتهم مقولة أبو حيان التوحيدي الحادة، حين سئل عن الوزير الصاحب بن عباد، وكان ثرياً، فقال: «سفهه ينفي حكمة خالقه، وغناه يدعو إلى الكفر برازقه، ولعن الله الفقر فهو الذي يخبل المروءة ويقدح في الديانة»
فالفقر والظلم كافران...
* كاتب عراقي