سيلحظ المراقب لمسار الانتفاضات العربية، من دون شك، بعض التشابكات والخطوط المتشابهة، سواء لجهة أسباب تلك الانتفاضات أو طريقة تعامل السلطات معها، مع عدم نفي وجود اختلافات أيضاً، حسب خصوصية كل بلد، بعيداً عن مفهوم الخصوصية الذي تذرعت به السلطات لوقف الإصلاح سابقاً، ولنفي أسباب الثورة في بلدانها، ومحاولة إجهاضها راهناً.
لكن بعيداً عن الانتفاضة التونسية، التي فاجأت النظام فأدت مفاجأتها تلك إلى لجم آلة القمع وتبعثرها، فإنّ الانتفاضات العربية اللاحقة ( مصر ــ اليمن ــ ليبيا ــ سوريا ــ البحرين) ستواجه نظماً عاتية، تمتاز بآلة قمع منظمة، مستفيدة من عنصر التوقع الذي سمح لها باستحضار قوتها واستعادة كل موروثها العنفي.
إلّا أن الملاحظ في ذلك الشأن أنّ تلك الأنظمة الجمهو ــ وراثية (باستثناء البحرين الملكية)، ستتشابه في تهديد شعوبها بلازمة واحدة، ألا وهي: الحرب الأهلية، متبعة بالخوف من التطرف الإسلامي.
هكذا سيبدأ وزير الداخلية المصري السابق حبيب العادلي، ببث الفرقة بين المسلمين والأقباط في مصر، وفق ما كشفت الوثائق اللاحقة. وسيهدد سيف الإسلام القذافي في خطاباته من تحوّل «الاحتجاجات إلى حرب أهلية ومن خطر تقسيم البلاد إلى عدّة ولايات»، متذرعاً بأنّ ليبيا «مجتمع قبلي مسلح»، ومؤكداً أنّ المتظاهرين «احتلوا معسكرات وسيطروا على أسلحة»، إضافة إلى التهديد بسيطرة الإسلاميين.
وفي اليمن ستتكرر اللازمة نفسها، إذ سيحذر نائب الرئيس اليمني الفريق عبد ربه منصور هادي خلال لقائه سفراء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي من دخول اليمن «مرحلة خطورة الحرب الأهلية». وسيعلن وزير الخارجية اليمني على الملأ، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنّ التظاهرات تهدد بإشعال «حرب أهلية ونزاع مدمر».
ومن جهتها، ستهدد المستشارة السياسية والإعلامية للرئيس السوري، بثينة شعبان، في حوار مع هيئة الإذاعة البريطانية بتاريخ 28/9/2011، بأنّ القضية ليست «في بقاء الأسد أو نظامه في الحكم، بل القضية تتمثل في ألا تنحدر البلاد إلى حرب طائفية». وستؤكد شعبان في كل حواراتها على وجود «عصابات مسلحة تقتل المواطنين وتعتدي عليهم».
في الأمثلة السابقة، سنجد تشابهاً في عنصرين، تستخدمهما السلطات لإخافة شعوبها، وهما: الحرب الأهلية، وقدوم الإسلاميين المتطرفين.
وسيُتبع تهديد السلطات ذلك، بإجراءات حقيقية على الأرض، لدفع الناس إلى التسلح، عبر تسهيل عملية الحصول على السلاح، أو افتعال حوادث عنف طائفية، أو استفزازات تؤدي إلى الاحتقان الطائفي، كما حصل في سوريا ومصر، واستعمال أجهزة وعناصر من خارج جهاز الدولة لقمع المتظاهرين. ويرافق ذلك ضخ إعلامي مبتذل، يجيّر كل شيء لخدمة أهداف السلطة، ولو عبر التناقض، وتكذيب الخبر نفسه الذي بُثّ البارحة على الشاشة نفسها، كما حصل في سوريا أكثر من مرة (نفي الإعلام الرسمي وما شابهه، لأي انشقاق في الجيش، ثم عرض اعترافات هرموش، ونفي اعتداء أجهزة الأمن على المواطنين في قرية البيضا، ثم بث شريط للشاب الذي ظهر في شريط البيضا أحمد بياسي، وهو يعترف!).
ما سبق، يشير إلى أنّ هذين العنصرين هما أوراق قوة في يد تلك الأنظمة، عمدت إلى جمعها لإدامة حكمها، داخلياً وخارجياً. كانت ورقة الحرب الأهلية، موجهة لضبط الداخل، عبر اللعب على مكوناته الطائفية وضرب المجتمع بعضه ببعض، حتى يخاف بعضه من بعض ويتنافر. بينما كانت ورقة التطرف الإسلامي موجهة إلى الغرب: «إن رحلنا، فسيأتي هؤلاء ويوردون الإرهاب إلى دولكم المستقرة كما حدث في 11 أيلول/ سبتمبر»، لتستغل الأنظمة خير استغلال الخوف المرَضي من الإسلام بعدما وُسم بتهمة الإرهاب.
تحتاج الحرب الأهلية، حتى تشتعل إلى ثلاثة عوامل: العنف، الطائفية، والتدخل الخارجي، ولا تحصل الحرب بغياب أي ركن من أركانها. لذا كان لا بد من رواية العصابات المسلحة (العنف) الذي يكمل ثالوث الحرب الأهلية. ولهذا عمدت السلطات إلى توفير كل ما أمكن توفيره لجعل تلك العوامل تتحقق، فهي وفرت العنف عبر أجهزتها العلنية في قمع المتظاهرين لدفعهم نحو خيارات عنفية، وعبر أجهزتها السرية التي لا تتورع عن فعل أي شيء لضرب الطوائف بعضها ببعض. ورغم أنّ التدخل الخارجي حاضر وليس بحاجة إلى دعوة، أسهم سلوك السلطات في زيادة تدخله، ووفر له كلّ العوامل اللازمة، بهدف تعقيد اللعبة الداخلية، وزيادة احتمالات الحرب الأهلية التي قد تدفع الخارج والداخل إلى التراجع.
لكن يبقى العامل الأهم في عنصر الحرب الأهلية، ألا وهو الطائفية، فهو غير متوافر كما ينبغي لحرب أن تشتعل. فهي طائفية كامنة وموجودة ومضبوطة، وليس هناك أدنى نيّة لأيّ مكوّن طائفي من الذهاب إليها، أو استحضارها، لوعي جماهير الانتفاضة أنّها مقتلهم، ولوعي الناس عموماً أنّهم يناضلون لأجل المواطنة، وليس لأجل التطييف، ودون أن ننفي أنّ خطرها يبقى قائماً، إذا ما استمر ذلك التجييش والقتل اللامحدود.
حسم الأمر في مصر بطريقة سلمية تسهم في المضي باتجاه بناء الدولة الوطنية، وتعثر الأمر في ليبيا التي حسمت عسكرياً، وبتدخل غربي قد يتحوّل إلى وصاية في ظل ضعف المجتمع المدني الليبي، وعدم وجود أيّة قوى حية على الأرض، تقاوم لاحقاً ما قد تفرضه تلك القوى الغربية. رغم ذلك، بقي الأمر في سوريا واليمن، في موضع تجاذب، بين أنظمة تذهب باتجاه تطييف الثورة وعسكرتها عبر استخدام المزيد من العنف بشكله الوحشي العاري المنفلت من أيّة ضوابط، وانتفاضة تصمد حتى اللحظة، مدركة أنّها إن ذهبت خارج الخيار السلمي، سواء باتجاه السلاح أو الطائفية، فإنّها كمن يحفر قبره بيده!
لكن ما حصل أخيراً في تونس من هجوم سلفيين على كلية تعليمية ومحطة تلفزيونية دفاعاً عن النقاب وضد عرض فيلم سينمائي، وفي مصر من صراع قبطي/ إسلامي، بعد رحيل النظامين بطريقة سلمية، يدفع إلى سؤال جذري وصعب ومقلق: هل زرعت تلك الأنظمة بذورها الطائفية في تربة خصبة؟ أم الأمر مجرد عارض سيزول حين تستقر الدولة؟
من المؤكد أنّ أنظمة الحرب الأهلية تلك تتفكك بفعل معاول الانتفاضة التي تدرك أنّ خطر الحرب سيبقى جاثماً طالما بقيت تلك الأنظمة. ويبقى السؤال: ما هو ثمن تفككها؟ هل يكون الحرب والدخول في مجهول، أم الخيارات الوطنية والاتجاه نحو المستقبل؟
* شاعر وكاتب سوري