فاجأ الإضراب الذي أعلنته رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية، في مطلع أيلول المنصرم، الأساتذة أنفسهم. لكن أحداً منهم لم يناقش صحة ما ذهبت إليه الرابطة، من ضرورة إعادة النظر في سلسلة الرتب والرواتب العائدة لأساتذة الجامعة. يمكن تبرير مطالب الأساتذة بحجج ثلاث على الأقل: 1) بإلقاء نظرة سريعة على ماضي الرواتب وتطورها؛ 2) بمقارنة تلك الرواتب مع ما هو معمول به في مؤسسات التعليم الجامعي الخاص؛ 3) بربط تلك الرواتب بالدور الذي تلعبه الجامعة اللبنانية في تأهيل الشبان اللبنانيين. حين يعالج بعض الأساتذة، أمام الطلاب، موضوع انهيار سعر صرف الليرة خلال الثمانينيات، والتضخم المفرط الذي نجم عن ذلك، لا تعوزهم أمثلة يستلّونها من تجربتهم الخاصة في الجامعة. في 1990، قطعت حكومة الرئيس الحص الرواتب عن موظفي الدولة القاطنين في مناطق بيروت الشرقية، ومنهم الأساتذة، لمدة خمسة شهور. حين سدّدت معاشاتهم، قبضوا عن خمسة شهور ما يعادل ألف دولار. أي كان الراتب الشهري لأستاذ الجامعة آنذاك 200 دولار.
وحين انهار سعر صرف الليرة للمرة الأخيرة في 1992، كان صوت الرابطة الأعلى احتجاجاً، لأنّ الرواتب عادت فانهارت إلى ما دون مستوى الـ350 دولاراً الذي كانت قد بلغته. أي أنّ أساتذة الجامعة استمروا طوال فترة 1984ــ 1996، برواتب دون الـ350 دولاراً. وقد ترك في تلك الفترة من ترك من أساتذة الجامعة، وأفرِغت كليات من أساتذتها بشكل كارثي. وقد هاجر قسم من أساتذة كلية العلوم إلى بلدان أوروبا نهائيّاً. لم يكن ممكناً إقناع من درسوا في الخارج بقبول رواتب لا يغطي مجموعها طوال عقد ما تكلّفوه لإنجاز دراستهم في الخارج.
عرفت الرواتب تحسناً ملحوظاً بعد تطبيق سلسلة الرواتب الجديدة بعد 1996، لمسه الأساتذة في تحسّن قدرتهم الشرائية. لا يصح ذلك الكلام إلا على السنوات القليلة الأولى التي أعقبت تطبيق السلسلة الجديدة. استمرت تلك القدرة الشرائية بالذوبان طوال السنوات اللاحقة. وأشارت الدراسات الجادة إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 100 في المئة بين 1996 و2011. مؤسسة البحوث والاستشارات التي قدمت هذا الرقم، هي مؤسسة رصينة، بل أكثر مثابرة من مؤسسات الدولة المعنية في تتبّع مؤشر الأسعار. وهي استمرت تصدره طوال سنوات الحرب، حين كانت الإدارات العامة المعنية لا تلوي على شيء. أي أنّ الأجور التي لم تصحّح طوال 15 عاماً، كانت قد أصبحت في 2011، بنصف قدرتها الشرائية لعام 1996. ينبغي أيضاً عدم إغفال التصحيح على الرواتب الذي حققته حكومة الرئيس السنيورة في 2008، بنسبة بين 10% و20%.

المقارنة مع الآخرين

ركّز ناشطو الرابطة على مقارنة رواتب الأساتذة المتفرغين بما حصل عليه القضاة، مستنتجين تجاهلاً لهم وإجحافاً بحقهم، وخصوصاً أنّه كان ثمة تلازم في السابق بين رواتب الفئتين كما قالوا. لكن المقارنة تصحّ أكثر مع رواتب أساتذة التعليم الجامعي الخاص. هناك طبعاً مؤسسات شديدة الاختلاف في هذا الميدان. وإذا استثنينا الجامعتين أو الثلاث العريقة التي يتمتّع أساتذتها بأجور مرتفعة للثابتين منهم، والحاصلين على عقود عمل طويلة الأجل، فإنّ الجامعات التي تأتي في المرتبة الثانية، وهي عديدة، وهي الأكثر عدوانية في استقطاب الطلاب، تدفع مرتبات لأساتذة في السنوات الأولى من مسارهم المهني، تتجاوز بنسبة الثلث، الراتب الذي يحصل عليه أستاذ في ملاك الجامعة بعد 25 سنة من التدريس.
وجه الاختلاف الأهم بين أساتذة الجامعة وأساتذة التعليم الجامعي الخاص، هو بالطبع في مسألة دخول الملاك والحصول بعد نهاية الخدمة على معاش تقاعدي، مع تقديمات صندوق التعاضد. وهي أمور مهمة إلى درجة أن أساتذة كثيرين تركوا الجامعات الخاصة في 2007، والتحقوا بالجامعة اللبنانية، ولو أنّ مدخولهم انخفض نتيجة ذلك بنسبة النصف. أحسّ هؤلاء بعد حصولهم على الأمان الوظيفي في الجامعة اللبنانية بصعوبة التكيّف مع مداخيل أقل مما تعوّدوا عليه. والبعض من المسؤولين في الجامعة ممن تحمّسوا لتفريغ أكبر عدد ممكن من الأساتذة، واحتفلوا بما حصل في 2007، فوجئوا في ما بعد بأداء قسم من هؤلاء. قسم كبير منهم يخرق مبدأ التفرّغ ويدرّس في الجامعات الخاصة لاستعادة مداخيل مفقودة، ويصعب على البعض منهم إظهار بادرة إيجابية تجاه المؤسسة التي فرّغتهم.

دور الجامعة اللبنانية في تأهيل شباب لبنان

كان تفريغ 700 أستاذ دفعة واحدة، في 2007، نقلة هائلة في تعاطي الحكومة مع الجامعة، مقارنة بالقاعدة المتّبعة تجاهها طوال حقبة ما بعد الحرب. جاء ذلك وسط جو طاغٍ داخل الطبقة السياسية، وخصوصاً من هم في سدة الحكم، بأنّ التخلّي عن مؤسسات الدولة، واحدة بعد أخرى، هو أفضل ما يمكن عمله كسياسة اقتصادية. كان ثمة قناعة، أنّه ينبغي الاستمرار في خصخصة العام، إلى حين اختفاء العام بالكامل، وأنّ ذلك خير ما يفعله اللبنانيون.
وفي 2007، حقق مركز إحصائي تابع للجامعة اليسوعية، يعتمد على كفايات قديمة نادرة، استقصاءً حول القوى العاملة، من ضمن مشروع لرصد هجرة الشباب. إحدى نتائج ذلك الاستقصاء أنّ أكثر من نصف الحائزين شهادات جامعية من كل الاختصاصات (58.8% منهم)، هم من مخرَجات التعليم الجامعي الحكومي. أما التعليم الجامعي الخاص الفرنكوفوني، فيستحوذ على 25.8% من المتخرجين، ويستحوذ التعليم الأنغلوفوني على 13.4% منهم (*). وتصل نسبة الحائزين شهادات في الآداب والعلوم الإنسانية من الجامعة اللبنانية إلى 73.7% من المجموع، في حين تخرّج الجامعة اللبنانية 60.7% من حقوقيّي لبنان. كل ذلك يعني أنّ الاستمرار بتعزيز دور الجامعة اللبنانية مسؤولية لا يمكن الهروب منها. فهي المعنيّة الأولى بإنتاج غالبية متعلّمي لبنان. هل تكفي تلك المعطيات الكميّة في محاججة من أجل الجامعة اللبنانية؟ ينبغي إضافة معطيات نوعية، وأمور تتناول النظرة إلى مستقبل لبنان.
كانت بعض كليات الجامعة، ولا تزال، تعمل وفق نظام المباريات الوطنية لقبول المنتسبين إليها. المباريات الوطنية التي تجعل الاستحقاق قاعدة، هي أفضل ما جاءت به الدولة الغربية الحديثة. تتيح تلك المباريات استقبال الطلاب الأفضل. وحين يكون هؤلاء الطلاب قد درسوا في معاهد التعليم ما قبل الجامعي الخاص، تضمن لنفسها أفضل المخرَجات. ثمة شرط إضافي للحصول على تلك النتيجة يتعلّق بإدارات الكليات ونوعية الجهاز التعليمي الموجود. حين تقتدي بعض الكليات بالمؤسسات الجامعية العريقة في الداخل والخارج، في اعتماد المراجع ذات الانتشار العالمي (manuals) وتنفيذ مضمونها على نحو جدي، تكون النتائج الجيدة مضمونة. نقع على أفضل المخرَجات، في الكليات التي تطبّق المناهج الغربية، وتدرّس باللغات الأجنبية.
ثمة قاعدة إضافيّة لا بد من الالتزام بها لتحقيق تلك النتيجة، هي عدم اللعب بعلامات الطلاب. في تلك النقطة بالذات، لا تزال الجامعة اللبنانية تتفوّق على مؤسسات التعليم الجامعي الخاص التي فرّخت بعد 1990. لا تركض الجامعة وراء الطلاب، لأنّها لا تتوخّى الربح، ولا تعمد إلى رفع علاماتهم لتشجيعهم على الانتساب إليها، على نقيض ما يفعل العديد من مؤسسات التعليم الجامعي الخاص. في عدد من تلك المؤسسات، ينجح الكل من دون مضمون. هكذا أساءت تلك المؤسسات أكبر إساءة لمستوى التعليم العالي في لبنان. بل يمكن القول إنّ خصخصة التعليم الجامعي على النحو الذي تم، من دون رقابة حكومية جدية، كانت خطوة إلى الوراء. كيف يمكن توقّع رقابة جدية حين تكون الإدارة العامة شاغرة في مراتبها العليا، وتلقى مسؤوليات الإشراف والرقابة على مجالس مكوّنة من بضعة كهول؟
وقد أثيرت أخيراً، في وسائل الإعلام، مسألة امتلاك اللغات الأجنبية معياراً للكفاية. نقع في لبنان «المتنوّع» على المواقف الأكثر إقصائية في رفضها للغات الأجنبية، أو في حصرها المعرفة والكفاية بمن يمتلكون تلك اللغات. عادت بلدان عربية عدّة من تجربتها القائمة على تعريب المناهج، مع اعتراف بالفشل الذريع للتجربة، وإقرار بأنّ التعريب على النحو الذي حصل، جسّد إخراجاً لتلك البلدان من الفعل والحداثة. أما في لبنان، فالهجوم على اللغات كما الدفاع عنها، هما مادة سجال بين المدافعين عن الهويات المختلفة، يسهم في خراب لبنان.
ولو دقّق المهتمون أكثر، لوجدوا أنّ الهواجس بشأن اللغات تتجاوز موضوع العربية كلغة تدريس. وعلى سبيل المثال، لم يكن ممكناً أن يتصالح الكثيرون من الأساتذة مع أنفسهم ومع فرنكوفونيتهم، لو لم يعمدوا، باكراً أو متأخّرين، إلى امتلاك اللغة الإنكليزية.
في الاستقصاء المشار إليه أعلاه، تبيّن أنّ تخصّصات إدارة الأعمال هي التي تحظى بأكبر نسبة من الطلاب، إذ تبلغ حصتها نحو 25% من المتخرجين. لا تقول بعض الجامعات الخاصة الحقيقة حين تعلن أنّ لديها أقساماً لتدريس الاقتصاد. وهي تكتفي بأقسام إدارة أعمال لا يدرس الطلاب فيها الاقتصاد، ويتخرّجون غير قادرين على قراءة مقالة اقتصادية في جريدة. وثمة تراجع قي قدرة كليات العلوم الإنسانية على استقطاب الطلاب، قد تكون إداراتها وأساتذتها هم المسؤولين عنها. يشي ذلك التراجع بانخفاض المستوى الثقافي العام، ولا ينبئ بخير لنهوض مجتمع مدني فاعل في يوم من الأيام.
وقد أعدّت باحثة فرنسية أطروحة حول الجامعة اللبنانية منذ سنوات، رأت فيها استحالة إصلاح الجامعة. وفي العديد من بلدان أفريقيا السوداء، هيّأ زعماء تلك البلدان تحوّلها إلى دول منهارة (collapsed states)، من خلال ضربهم للمؤسسات الرسمية على نحو متعمّد، خوفاً منها ومن أن تنقلب عليهم، ولتأمين استمرارهم في الحكم في المدى القصير. واستعاضوا عن المؤسسات الرسمية بمؤسسات غير رسمية، وشبكات موالين خاصة مغفَلة. وأظهرت وثائق ويكيليكس تعمّد أفراد من الطبقة السياسية ومن داخل الإدارة العامة، ضرب مؤسسات الدولة من الداخل. تلك هي البيئة العامة التي توجد ضمنها مؤسسات القطاع العام، ومنها الجامعة اللبنانية.
ويتساءل الكثيرون من الجامعيين من جهة أخرى، لماذا لم تؤدِّ الموجة الفكرية الكاسحة المعادية للدولة، التي نشأت في الغرب وأسّست للسياسات النيوليبرالية منذ الثمانينيات، ويمكن وضعها تحت اسم الرؤية النفعية الجديدة (neoutilitarian vision)، إلى ضرب الإدارة الحكومية الكلاسيكية في البلدان الغربية. وهي نجحت في تدمير العديد من إدارات الدول النامية وقطاعاتها العامة، وصولاً إلى تدمير الدولة الوطنية نفسها. وقد حلّت دول منهارة محل الدولة الوطنية في جميع تلك الحالات.
لكن بعض المعطيات المشار إليها أعلاه، تُظهِر قدرة تلك المؤسسة الحكومية التي هي الجامعة اللبنانية على المقاومة وتطوير نفسها.
* انظر، Choghig Kasparian‚ L'émigration des jeunes libanais et leurs projets d'avenir:
enquête réalisée par l'Observatoire
Universitaire de la Réalité Socio-Economique (OURSE) de l'Université Saint-Joseph de Beyrouth‚ Oct.-Nov. 2007‚ Presses
de l'U. S. J.‚ 2009‚ Tome 2. P. 73-74.
* أستاذ جامعي لبناني