الخرائط لها قيمة لأنها تعكس سلطةً قائمة، انتزعت هذه البقعة من الأرض وبنت عليها نظاماً قانونياً واقتصاداً وطنياً واحتكاراً لأدوات العنف. أما الروايات الوطنية عن تاريخية هذه الحدود ووجودها «المعنوي» منذ الأزل، وحتميتها ونهائيتها، فهي تأتي لاحقاً لتلَقَّن للأجيال الطالعة وجنود الجيش. في بلادنا، حين تهتزّ دعائم السلطة، والهوية، بعد سنوات من «الحرب الشاملة»، تصير اعادة النظر بالخرائط احتمالاً واقعياً، تقسيماً وجمعاً، حتى يصبح الدفاع عن الوضع القائم منذ مئة عامٍ أشبه بمجرد «مشروعٍ»، يتنافس مع احتمالاتٍ أخرى تراهن على مسار الحرب.
مراقبة هذه الخرائط لا تكشف فقط عن طموحات الناس ونظرتهم الى أنفسهم، بل هي ايضاً انعكاسٌ جليّ لمخاوفهم وتحزّباتهم وعنصرياتهم التي تتحكم فيهم.
هناك ثغرتان يمكن، من خلالهما، نقد كلّ حركة تنادي بنسخةٍ عن الهوية القومية (دينية أم اثنية أم جغرافية). أوّلاً، انّ كلّ حركة قومية، مهما ادّعت العكس، تقوم على مقدارٍ ما من العنصرية، ولو عنصرية لغوية أو ثقافية، تدّعي تفوقاً وتميّزاً يبرّر فصل الذات عن «الآخر» (أي كلّ من هو خارج سردية الهوية). ثانياً، أنّ الرواية التاريخية لأي حركة قومية، أي الذاكرة التي تبرر وجودها، يمكن دحضها وتفكيكها والتشكيك فيها حالما تُوضع تحت مجهر التاريخ والعلوم الاجتماعية الحديثة؛ ويصير من الصّعب ــ من دون تسليم ايمانيّ ــ الدفاع عن فكرة أنّ هذه الخارطة بالذات، أو هذه «الأمة» بالذات، هي القدر «الطبيعي» والمرسوم والمحتوم لهذه البقعة من الأرض أو تلك. حتى وان لم يكن هذا المثال قد تحقق في كيانٍ سياسي منذ أيام أسرحدّون.
المشكلة هي أنّ التطهّر من «الخرافات» القومية والهروب منها الى فكرة «كونية» هو سلوك لا معنى سياسياً له منذ نهاية الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشيوعي الذي مثّل بنياناً ايديولوجياً يسمح للفرد بالتفكير والتخطيط على مستوى العالم والبشرية، تحت لواء عقيدة تؤمن بوحدة الانسانية. اما اليوم، فإنّ ادعاء «الكونية» غالباً ما يحيل الى اخلاقوية ليبرالية، انسانوية بلا مغزى سياسي، تنفع أداة لأجندات مختلفة أو سلوكاً طهرانياً فردياً، يرى أن المثل الانسانية تبرر ذاتها بذاتها، ويقدّم السياسة بأكملها، ومفاهيم الوطن والشعب والعدو، أضحيةً على مذبح إلهٍ اسمه «الانسانية».
كما تقول النكتة، فانّك تحتاج أولاً الى بنيانٍ قوميّ ناجح، وهوية راسخة في الأذهان، قبل أن تنقد هذه الثقافة وتفككها و»تقاومها». أمّا في بلادٍ لم تحدد حتى اسمها بعد وتتفق عليه، فإن العداء المطلق لفكرة «القومية» لا يعني غير افساح المجال امام مختلف أشكال الهوية البديلة، طائفية وعنصرية ودولتية، للتنافس على استقطاب جماهيرٍ لم تخترقها - كالنخب الغرباوية - الليبرالية ومثلها «الكونية».
هكذا نجد مثقفين قضوا سنوات وهم يسخرون من العروبة وفكرة «القومية» وهم يروّجون، اليوم، لقوميّات «وطنية» مبتذلة في العراق ومصر وغيرها. ونجد نسخة جديدة عن «العروبة»، لا تخشاها السعودية والامارات، بل توظّفها شعاراً لحملاتها وغزواتها. هذا حتى لا ننسى الاسلاميين الذين حقّروا القوميين طويلاً، متباهين بـ»أمة اسلامية» أرحب، ليتحولوا مقاتلين طائفيين في خنادق حروبٍ أهلية، ضد مسلمين آخرين (من هنا، فإنّ رفع شعار «الوحدة الاسلامية» هو ليس مجرد كلامٍ انشائي أو مسألة شكلية، بل اختبار حقيقي لشرعية أي حركة اسلامية؛ فمن لا يرى المسلمين ــ على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم ــ أمة واحدة وينظر الى الاسلام من هذا المنظار، يستحيل تلقائياً حركةً تمثل طائفة من بين طوائف، ويصير من الأدقّ أن يتسمى باسم فرقته بدلاً من ادّعاء الاسلاموية).
في عالمنا «ما بعد الحداثي»، حيث لا يمكن الدفاع عن هويات سياسية على أنها «أزلية» ومقدّرة، ولا يوجد بديل كونيّ يمكن الركون اليه، لا تُقاس الهوية بمقدار «صحتها» بل بنفعيّتها وتقدميتها، واحتضانها لكل من يقع تحت نطاقها، وعلاقتها بـ»الآخر». بمعنى آخر، هناك فرقٌ بين الدعوة الى خريطة عروبية أو «مشرقية» أو غير ذلك، كإمكانية تاريخية لها حاجة وخلفها رؤيا، وبين الايمان بأنّ هناك «عرقاً» عربياً يختلف نوعياً عن جيرانه، أو كياناً عضوياً اسمه «الهلال الخصيب» (لا امكانية، تاريخياً، لرؤية العراق معزولاً عن ايران، أو سوريا عن تركيا).
المشكلة ليست في أن سرديات الهوية في بلادنا أكثر أسطورية من غيرها، أو أكثر تعدداً وعنفاً، بل هي أن جلّ «الخرائط» التي يجري اقتراحها اليوم تقوم على الخوف والأسطورة ــ المحظورين اللذين يعتريان كل نظرية قومية ــ بدلاً من أن تتجاوزهما وتستوعبهما. أقليّون يكرهون، ببساطة، الاسلام والمسلمين؛ طائفيون يحلمون بالانعزال والصفاء؛ وعلمانيون مذعورون، يفضلون أن يبيعوا أنفسهم للغرب وللأعداء قبل أن يقبلوا التعايش مع الاسلاميين. هؤلاء هم بعض من يرسم خرائطنا اليوم انطلاقاً من أسوأ ما في الهوية وغرائزها، فلْنَحْذَرهم.