ربما تمنى محمد البوعزيزي عندما أشعل النار في جسده احتجاجاً على صفعة موظفة، أن ينزل أي عقاب بتلك الموظفة التي أهانته. ولكن هل جال بخاطره للحظة أنّ العقاب الذي لم يتوقع نزوله بمن اهانه، سوف تنزل الشعوب أشد منه فوق رؤوس الحكام، وأنّ النار التي أشعلها يائساً، سوف تمتد ألسنتها لعروش استقرت لعقود في المنطقة العربية؟ هكذا لا يمكن فهم أياً من الثورات العربية المشتعلة بمعزل عن بعضها، وهكذا ينبغي فهم الثورة السورية التي لم تكن استثناءاً في منطقة اشتعلت فيها الثورات. فالثورة السورية التي اندلعت حاملة طموحات وآمال السوريين في الحرية وتحسين أوضاعهم، لم تنطلق في محيط هادئ ومستقر، بل كان هناك رئيسان عتيقان قد أطاحت بهما الثورة في تونس ومصر. وكانت ألسنة الثورة قد امتدت بالفعل لليبيا واليمن والبحرين، وباقي الأنظمة في المنطقة تكتم أنفاسها. إنتفاضة الشعب السوري جاءت في سياقها الطبيعي تماماً، وربما كان عدم انطلاقها هو الغير طبيعي. فرغم أنّ هناك اختلافات واضحة بين الأنظمة في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وسوريا، خاصة فيما يتعلق بالموقف من القضايا العربية والصراع العربي الصهيوني وإن حتى على مستوى الخطاب، إلا أنّ هناك عامل يجمع بين تلك الأنظمة، وهو استبعاد الشعوب من المعادلة. فالشعوب العربية لم تكن في ظل تلك الأنظمة، على اختلافاتها الشكلية، جزءاً من عملية اتخاذ القرار مهما كان مضمونه. وكان استقرار النظام واستمراره هو العامل الحاسم في اتخاذ أي قرار. النظام المصري في ظل السادات ثم مبارك اختار التسوية مع إسرائيل، والتحالف مع أميركا، كطريقة للبقاء في السلطة. والنظام السوري اختار البقاء في السلطة ضمن حلف آخر وخيار آخر، ولكن لا الشعب المصري ولا السوري كان هو من يقرر وينفذ. والغريب أنّ النظامين المصري والسوري التقيا في طريقة مواجهة الثورة. مؤامرات وعملاء وأجندات وأصابع خارجية. هكذا فسرت أنظمة الاستبداد في مصر وسوريا خروج مئات الألاف، بل والملايين للمطالبة بتغيير النظام. ربما تكون هي المرة الأولى في التاريخ التي يواجه فيها «العملاء» الرصاص الحي وقوات القمع بصدور عارية، لينفذوا أجندات خارجية ويسقط منهم آلاف الشهداء كخدمة لقوى خارجية. إنّ مجرد مناقشة تلك الأقاويل تعد إهانة لثورة الشعب السوري وبطولات أبنائه والتضحيات الضخمة التي قدمها حتى الآن.ليس التشهير بالثورة ومحاولة تشويه بطولاتها فقط ما واجهت به أنظمة الاستبداد في مصر وسوريا الثورات، فشبيحة سوريا وبلطجية مصر جاءا من حظيرة الاستبداد نفسها. فالأنظمة المستبدة لم تكتف بالقوات النظامية في قمع الشعوب، بل حرصت دائماً على وجود عصابات من المجرمين يحركها رجال النظام دون أن يتحمل مسؤولية مباشرة عن جرائمها. تشابهت في ذلك مليشيات السرياطي في تونس، مع البلطجية والشبيحة في مصر وسوريا. ولكن التشابه بين الشعوب الثائرة كان أكثر قوة ووضوحاً من تشابه الأنظمة المستبدة. ليس في استخدام وسائط الاتصال الحديثة مثل فايسبوك وتويتر، وليس حتى في الشعارات التي رددتها الشعوب الثائرة بلهجة واحدة «الشعب يريد إسقاط النظام»، ولكن وجه الشبه الأعظم والأكثر عمقاً هو ذلك الإصرار والصمود والقدرة على التضحية التي اتسمت بها الثورات العربية وتفوقت فيها الثورة السورية نتيجة امتداد الصراع وتزايد أعداد الشهداء والضحايا. تلك البطولة النادرة التي تحلت بها الشعوب، وبشكل جماعي، هي ما يؤكد أنّ تلك الثورات التي بدأت ولم تتوقف، ذات جذور عميقة في واقعها. فالشعوب التي صبرت لعقود حتى تصورت الأنظمة أنّها غير موجودة، لم يعد لديها ما تخسره، ليس فقط على مستوى الحريات والمستوى الاجتماعي والاقتصادي، ولكن أصلاً على مستوى وجودها كشعوب. فالأنظمة التي استمرت في السلطة كأنّ حكمها بلا نهاية، قد بدأت تتصرف بالفعل منذ فترة ليست بالقليلة كأنّ الشعوب غير موجودة بالمرة. ربما كانت تلك حكمة البوعزيزي الذي أحرق نفسه ليقول إنّ الحياة في ظل القهر تستوي مع الموت. هكذا تلقت الشعوب المقهورة رسالة البوعزيزي وترجمتها قوافل شهداء من أجل الحرية. هي ثورة واحدة، فللمرة الأولى تتوحد الشعوب في مواجهة أنظمة موحدة بالفعل، رغم كل ما يبدو عليها من اختلاف. هل كانت مصادفة أنّ التنسيق الوحيد بين الأنظمة العربية هو الذي كان يجري بين وزراء الإعلام ووزراء الداخلية العرب؟ القمع والتضليل تشاركت فيه الأنظمة ضد الشعوب، مهما كانت الخلافات المعلنة. تنوّعت الخلافات والأصدقاء والأعداء، ولكن الشعوب كانت دائماً عدواً مشتركاً لكل الأنظمة العربية. لا يمكن النظر للثورة السورية إلا كجزء من الثورة العربية. لقد ارتفعت شعارات القومية من قبل على يد الأنظمة، وخططت مشاريع للتحرر والوحدة، ولكنّها فشلت وتساقطت لأنّ الشعوب لم تكن طرفاً فيها. واليوم، عندما تنطلق الثورات العربية ضد أنظمة الاستبداد والقمع، فإنّها تبعث الأمل في قومية جديدة تصنعها الشعوب، وترسي قواعدها وأهدافها، ولا تفرض عليها من أنظمة الحكم. قومية ثورية لصالح الشعوب وليس لصالح «الزعماء».
إنّ اعتبار الثورة التونسية والمصرية إلهاماً للثورة السورية، وباقي الثورات العربية، يجب أن يضع في اعتباره أنّ الثورة السورية هي نفسها استكمالاً للثورات العربية، بل هي أحد أهم حلقاتها، نظراً لطبيعة النظام السوري ومواقفه المعلنة وعنفه. ليس مصادفة أنّ تأخر الحسم في الثورة السورية قد أخر اندلاع ثورات جديدة في المنطقة، ترقباً لما ستؤول له الأوضاع في بلاد الشام. والملاحظ أيضاً أنّ سرعة الحسم في الثورتين التونسية والمصرية قد ساهمتا في تفجير ثورات أخرى في المنطقة.
إنّ أهم الفوارق بين الثورتين التونسية والمصرية من جهة، والثورة السورية من جهة اخرى، هو الدور الذي لعبته الحركة العمالية في كل من تونس ومصر، خلال الثورة. فإعلان الإضراب العام في تونس قد تلاه بأيام هروب بن علي إلى جدة. والإضرابات التي عمت مصر من السادس من شباط/ فبراير قد أنهت أي أمل لدى مبارك في الاستمرار. ذلك هو الدور الذي غاب عن الثورة السورية. وربما كانت هيمنة التنظيم النقابي الرسمي على الحركة العمالية السورية، وانقطاع الاحتجاجات العمالية في سوريا سبباً لغياب الحركة العمالية عن المشهد الثوري فيها. في المقابل، كان إستقلال اتحاد الشغل التونسي نسبياً، والصعود المبكر للحركة العمالية المصرية قبل سنوات من الثورة، عاملان دفع بالحركة العمالية إلى قلب الثورة، مما أدى لحسم سريع. وربما يبدو دور الحركة العمالية السورية اليوم أكبر من أي لحظة سابقة. فالعمال السوريون في القطاعات المختلفة، سواء الصناعة أو التجارة أو الخدمات والمرافق، هم وحدهم القادرون على حسم الثورة السورية والإطاحة بالنظام. إنّ دعوات التدخل الأجنبي عبر فرض مناطق حظر طيران، أو بحماية دولية للثوار، قد تدفع النظام للتماسك في مواجهة الثورة. ولكن الحركة العمالية وحدها هي القادرة على شل كلّ مفاصل النظام ودفعه لليأس والانهيار، كما حدث في تونس ومصر. إنّ الطبقة العاملة السورية التي لم يخل تاريخها من البطولة في أي وقت وكانت دائماً في مقدمة الصفوف في معارك التحرر العربي، لا تتحمل فقط المسؤولية تجاه الثورة السورية، ولكن وبكل تأكيد تتحمل المسؤولية تجاه الثورات التي بدأت في تونس ومصر، ولا تزال تستكمل طريقها، وتحتاج لدفعة ثورية قادمة من الشام. وكذلك لديها مسؤولية تجاه الثورات التي لم تبدأ بعد في المنطقة، وتنتظر تأكيد من الثورة السورية أنّ عصر الثورات لم يتوقف.
* صحافي مصري