يبدو أنّ «فيلسوف الحرية والسلام» برنار هنري ـــــ ليفي هو مَن أسرّ إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بتحديد يوم «الفاتح من سبتمبر» موعداً لاجتماع «أصدقاء ليبيا» في باريس. الفيلسوف مولع باللعب على الرموز، وفي أغلب الظن لا يترك تلك الفرصة الذهبية تفلت من يده. لقد سرت العادة، على مدى أربعين عاماً، أن يتصدّر الأخ قائد الثورة العقيد معمر القذافي احتفالات «الفاتح العظيم» مدجّجاً بـ«نياشين الانتصار والتحدّي». ومن نكد الدنيا على الليبيين أن يتسلّم ساركوزي راية «الفاتح» في عيده الواحد والأربعين، من خير سلف إلى خير خلف. فالرئيس الفرنسي كان سبّاقاً في تنظيم «المجلس الوطني الانتقالي»، وتنظيم «المكتب التنفيذي» بمثابة حكومة إدارة الأعمال. وكان أول من اعترف بالمجلس «ممثلاً شرعياً لكل الليبيين»، وأول مَن أخذه إلى مجلس الأمن وهيئات «الشرعية الدولية» لاحتلال مقاعد حكومة القذافي، فحقق في ذلك الأمر سبقاً غير معهود في «الشرعية الدولية» التي لم تكن تعترف بغير الدول القائمة وبالمنشقين بصفة مراقب، في أحسن الأحوال. وهو أول مَن حاك مع البيت الأبيض خيوط «نجدة» مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية «لحماية المدنيين»، وأول من نفّذ عملية عسكرية في بنغازي عشية اجتماع باريس الذي شهد ولادة «التحالف الدولي»، وكان أولاً، من البداية حتى اليوم. لقد وضع رقبته الرئاسية ورقبة مصالح الشركات الفرنسية في مراهنة مصيرية، على قول صديقه الفيلسوف، ولا مانع أن يتسلّم راية «الفاتح» أولاً، وقد حان وقت الحصاد في «إعادة الإعمار».بعد ولادة «التحالف الدولي» في باريس، اتفقت «الشرعية الدولية» على إنشاء هيئة تضم كلّ المعنيين بالمصالح في ليبيا، والمعنيين بدفع أموال الحرب، أطلقوا عليها اسم «مجموعة الاتصال». وعقدت تلك الهيئة اجتماعاتها في قطر والإمارات ولندن وروما، وكان آخر اجتماع لها في اسطنبول، أثناء دعوة الرئيس الفرنسي لاجتماع «أصدقاء ليبيا» في باريس، يوم الأول من أيلول/ سبتمبر. ولا غرابة أن يقوم قائد «الفاتح» الجديد، بإنشاء هيئة «أصدقاء ليبيا» بموازاة هيئة «مجموعة الاتصال»، فلكل مقام مقال، ومقال قائد «الفاتح» الجديد في مقام الاحتفال في ذكرى الأول من أيلول هو صدارة المنصّة، مدجّجاً بـ«نياشين الانتصار والتحدّي». لقد حان له أن يثبت أنّه القائد الأوحد في حزبه، وفي الائتلاف الحاكم، بعدما صعد إلى الواجهة العديد من الديوك، أبرزهم رئيس الحكومة فرنسوا فيون، إثر انهيار حظوظ تجديد ولاية الرئيس، قبيل فتح ليبيا. وحان له أن يثبت أنّه قائد فرنسا الأوحد، بعد اعتراف المعارضة على لسان زعيمة الحزب الاشتراكي مارتين أوبري بنفاذ بصيرته. وحان له أن يوزّع الغنائم على شركات النفط الفرنسية (توتال وألفا) وشركات التسلّح (داسو) والاتصالات (تليكوم، أورنج) ومنشآت البنية التحتية (بويغ) وغيرها. فتلك الشركات هي التي توجّه سياسة فرنسا في البلدان التابعة في نهاية المطاف، ولا يستطيع أن يحكم فرنسا من لا يحظى بدعمها.
وكان القائد الأوحد في فرنسا يريد أن يستعرض «نياشين الانتصار والتحدي» يوم «الفاتح العظيم»، أمام الحلف الأطلسي أيضاً. فهو لا يطمع بلقب ملك ملوك العالم الذي يتقلّده ساكن البيت الأبيض، لكنّه يأمل بلقب فتى أوروبا الأغرّ ذي البصيرة النافذة. أول ما أخذ ساركوزي به ألباب الأطلسي يوم «الفاتح» هو الحل السياسي في ضمان الأمن. فهو لم يتوانَ منذ الغارة العسكرية الأولى عن الحديث في «الحل السياسي لنهاية الحرب». وقد ظن محللو ظاهر الكلام أنّه يتحدث عن صفقة سياسية مع القذافي وابنه سيف. لكنّه في الحقيقة كان يبحث، منذ ذلك الحين، عن حل سياسي يشمل قادة الفرَق العسكرية الذين لم ينشقوا عن القذافي.
والسبب في ذلك ليس هاجساً سياسياً، بمقدار ما هو هاجس أمني. فقد تبنّى قائد «الفاتح» الجديد نظرية الأكاديمية العسكرية الفرنسية التي اعتبرت أن حلّ الجيش العراقي إثر احتلال بغداد خطيئة استراتيجية في العقيدة العسكرية الأميركية، وكانت تلك الأخيرة قد اعتمدت على تجربة حل الجيش الألماني بعد احتلال برلين. وفي ذلك الشأن، يرى قائد «الفاتح» الجديد أنّ أولى أولويات الحل السياسي في ليبيا هي توحيد الجيش وضمان انخراطه في السلطة الجديدة، لضمان أمنها واستقرارها. ولا يغيب عن باله أنّ الجيش سيكون الزبون الأكثر شراهة في شراء خردة السلاح من مخازن فرنسا والأطلسي. وفي ثاني ما أخذ ساركوزي به ألباب الأطلسي يوم «الفاتح» هو النكهة الساركوزية المعروفة بتبسيط الاستراتيجيات المعقّدة. فهو طالما أطنب فضائل الاستعمار في «إعمار بلدان الشعوب المتخلّفة»، لكنّه يأخذ على الاستعمار القديم أنّه لم يعمل على أن تطلب شعوب تلك البلدان الإعمار من تلقاء نفسها، وأنّه أدار عمليات الإعمار بنفسه، من دون مشاركة «السكان الأصليين» الذين ينتخبون ممثليهم في صناديق الاقتراع. وقد يضع الأخ القائد الجديد «النظرية العالمية» الجديدة موضع التطبيق في المختبر الليبي، وهي نظرية في ثلاثة فصول على غرار نظرية قائد «الفاتح العظيم» في كتابه الأخضر:
أولاً، في فصل «حل المشكل الاقتصادي» على «المجلس الوطني» أن يطلب المساعدة في إعادة الإعمار بكل حرية، من تلقاء نفسه، وبصفته «الممثل الشرعي الوحيد» للشعب الليبي الذي سينتخب ممثليه في صناديق الاقتراع بعد ثمانية أشهر. ومن يطلب من تلقاء نفسه تلبية احتياجات رفاهيته الخاصة يجب عليه أن يستضيف ويدفع كلفة أتعاب جيش من الخبراء والمستشارين، في كل إدارة وقطاع ومؤسسة عامة، حتى يرشدوه إلى الحل الأمثل من أجل تحرير النفط من أعباء إدارة القطاع الحكومي، الخصخصة وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، الانفتاح على السوق الدولية في حرية التجارة، تشجيع السياحة والقطاع الفندقي والخدمات، استثمار عائدات النفط والصناديق السيادية في سندات الخزينة وشراء السلاح والبورصة، الاعتماد على الشراكة الأوروبية ومشاريع الجوار ومنظمة التجارة العالمية في الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي.
ثانياً، في فصل «حل المشكل الأمني»، لا بد أن يطلب المجلس الوطني منحه دوراً فاعلاً في استراتيجية «مكافحة الإرهاب»، وفي القضاء على الهجرة السرية، وأن يطلب إرسال فرَق من المختصين الأمنيين في المتابعة والملاحقة والتدخل السريع، وفي كل ما يحفظ الأمن في منطقة مضطربة، تمتد بين تشاد ومالي والنيجر والسودان ومصر وتونس والجزائر، ومنفذها الحيوي إلى أوروبا. ثالثاً، في فصل «حل المشكل الديموقراطي»، على المجلس الانتقالي أن يطلب مساعدة الأطلسي في تأليف الحكومة الانتقالية وإجراء «المصالحة الوطنية» بين كل الليبيين وإعداد دستور، وأن يطلب العون والمشورة الدائمة في قيام «دولة مدنية ديموقراطية تعددية» تستند إلى صناديق الاقتراع وتحترم حقوق الإنسان وتهتم بشؤونها الداخلية أولاً، وأن تنبذ التطرف والتعصب والكراهية وتنتهج طريق «الشرعية الدولية» في جهود تحقيق «السلام» بين إسرائيل وجيرانها العرب.
لكن على خلاف ما نجح القذافي في إشاعته، وما روّجه أسطول من النُّخب السياسية والثقافية العربية طيلة أربعين عاماً، لم تكن ليبيا خاتماً في إصبع القائد العظيم، ولا هي اليوم خرقة في يد قائد «الفاتح» الجديد. شعب ليبيا من أرقى شعوب المنطقة، وأعظمها تواضعاً وإحساساً بالمسؤولية، ومن أكثرها تضحية في الدفاع عن الحقوق العربية والإسلامية. لقد تطوّع الليبيون بكثافة للمشاركة في «جيش الإنقاذ» في 1948، وساعدوا إخوانهم في الثورة الجزائرية من دون أن ينبسوا ببنت شفة.
وما أسطورة القذافي في حماسته القومية و«تحدي الإمبريالية»، إلا للتلاعب بعواطف الليبيين الملتهبة انتماءً للعروبة والإسلام. وهم، على خلاف ما يُحكى لماماً من أقاويل سطحية، لم يلتجئوا إلى الأطلسي. فقد بدأوا شتى أشكال المقاومة منذ أواسط التسعينيات، حين أرسل القذافي «حجيجه» إلى القدس ورحّل الفلسطينيين إلى الحدود المصرية. وقد قاوموا لعبة الهوية الأفريقية على حساب الهوية العربية ـــــ الإسلامية. كما قاوموا استبداد القذافي على الدوام بأشكال كثيرة من العصيان المدني. وما طغيانه النيروني إلا نتيجة عجزه عن فرض طاعة لم يقدمها له الليبييون منذ الثمانينيات. والمجلس الانتقالي لا يعبّر عن طموح الليبيين، فهو نتيجة ظروف طارئة شبيهة بالظروف التي أتت بـ«المجلس الأعلى» في مصر إلى الحكم. ومع ذلك، يضم المجلس الانتقالي تيارات شديدة التباين والاختلاف: التيار الأطلسي الأول هو في «المكتب التنفيذي»، ويتألف من مجموعة التكنوقراط الذين دفع بهم القذافي إلى الواجهة تعبيراً عن صداقته لدول «المجتمع الدولي». أبرز هؤلاء الرجل الثالث في المجلس الوطني، ووزير النفط علي الترهوني، وممثل المجلس في واشنطن علي الأوجلي، والمتهم باستدعاء عبد الفتاح يونس إلى التحقيق علي العيساوي وآخرون. والتيار الأطلسي الثاني يضم مجموعة من قدامى المعارضين الذين تاهوا في المنافي، مشدوهين بأفكار الديموقراطية الليبرالية على قياس «معجزة دبي»، وأبرزهم وزير الإعلام محمود الشمام. والتيار الثالث هو عبارة عن مجموعة صغيرة من «الجماعة الليبية المقاتلة» التي أجرت مراجعة في السجن، وتقرّب بها سيف القذافي إلى دول الأطلسي، في تقديم المعلومات والاستشارات. لكن تلك التيارات الأطلسية لا تحسم مستقبل ليبيا، فالقوات المقاتلة التي أسسها عبد الفتاح يونس وباقي الضباط الثائرين على القذافي في بنغازي ومصراتة والزاوية والجبل الغربي وجبل نفوسة معادية في عقيدتها للأطلسي. كما أنّ المجالس المحلية المنضوية في إطار المجلس الانتقالي، مناهضة للتبعية الأطلسية. والأهم من ذلك كلّه، أنّ الثوار في مصراتة ونالوت والزاوية دفعوا ثمن تحررهم آلاف الشهداء والجرحى، واستكملوا تحرير طرابلس بمفردهم، ولن يرضخوا للإملاءات الأطلسية، بل لن يقبلوا استمرار تهميشهم في الحكومة الانتقالية المقبلة.
المعركة لم تُحسم نهائياً بعد، فعصب ليبيا الصحراوي بين سبها والجُفرة ومدينة بني وليد، لا يلتحق بسلطة مقبلة ما لم تأخذ ثقله العصبي في مشروع وطني عروبي. ليبيا ليست إمارة نفطية يمكن تحويلها إلى محمية أطلسية. وأهلها لا يستبدلون طغياناً بطغيان، على قول الشيخين الجليلين دوكالي محمد العالم والصادق الغرياني. كما لا يبدّلون عداءهم لإسرائيل بعداء لإيران.
يستطيع قائد «الفاتح» الجديد أن يتباهى بـ«نياشين الانتصار والتحدي» ما طاب له في باريس، لا في ليبيا. وفي أغلب الظن، لا يعتب أهل ليبيا على الرئيس الفرنسي، بل هم يعتبون على الجامعة العربية التي سلّمت مصيرهم للأطلسي وانكفأت. ويعتبون على منظمة المؤتمر الإسلامي التي تتفرج خارج الملعب. وعلى مصر التي تترك الأطلسي يعبث بخاصرتها. لكن حكمة أهل ليبيا كانت دائماً: «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة، وأهلي وإن ظلموا كرام».

* كاتب لبناني