خاص بالموقع- أذكر أنَّ الجميع كان مشغولاً بالنايلون لتغطية النوافذ، كي تكون سداً أمام «الكيماوي». تدور رحى الحرب في مكان بعيد، بغداد. لا أحد يعرف ما هي المساحة بالضبط، لكنّ نشرات الأخبار قالت إنّ صواريخ سكود تقطعها في أربع دقائق فحسب. أسأل والدي أو عمّي «من سينتصر؟»، فيقولان لي «نحن»... عندما فهمت أنّي طرف في حرب الخليج، أمسكت بورقة بيضاء وقلم، وصرت أستمع إلى النشرة الإخبارية الأردنية كلّ ساعة، كلما قالت المذيعة إنّ الجيش العراقي أسقط طائرة أميركية أسجل، ومع نهاية النهار أعدّ الطائرات التي أسقطها العراقيون، وأبتسم، أضع الورقة تحت المخدة وأنام. في اليوم التالي، أبدأ المتابعة من جديد. كان عدد الطائرات الساقطة يرتفع في كلّ يوم.
أهالي الحيّ في الحي، جميعهم لا يعملون، فالدنيا حرب، يلتقون صباحاً على عتبة أحد البيوت، ويتحدثون عن أثمان المعلبات التي يعدّها الجميع للحرب. أسعار المعلبات، قال عمي، صارت أغلى من اللحمة، وجارنا يردد أنّ الحرب ستنتهي «ولن أدخل دكان هذا الكلب»، ويبدأ الحديث عن السياسة بعد حين. إياك أن تخطئ في ذلك المكان، إيّاك أن تقول شيئاً يدين العراق، أو حتى أن تخطئ وتقول إنّ أميركا أقوى من العراق، كلّهم متفقون على الموقف نفسه، لكنّك لا تدري لماذا الصراخ. شتائمهم تعلو. لم أعشق سوريا ولا مصر، كيف لهما أن تحاربان ضدنا؟ وفي أحد الأيام، كان المجلس الصباحي صامتاً، فهمت أنّ الحرب شارفت على الانتهاء، وتذكرت مباشرةً أنّني عائد إلى المدرسة. كم أكره درس الهندسة، فأنا لا أتقن رسم المكعب من أول مرّة. سألت والدي لماذا انتهت الحرب؟ قال لي لأنّ العرب خونة، دون أن ينظرّ إليّ، وعمّي صبّ جل غضبه على مبارك والأسد... سألت «هل انتصر الأميركيون؟»، لم يجبني أحد. أخرجت الورقة من جيبي، وقلت «لكن هناك أكثر من مئة طائرة سقطت»، ولم يعرني أحد اهتماماً. طويت الورقة ووضعتها في جيبي.
والدي لم يشتر المعلبات في ذلك اليوم. وأنا طلبت منه أن أفتح علبة التونا فالحرب انتهت، لم يعارض. أمسكتها بيدي وسألته: «لماذا سوريا لم تكن معنا؟» ولم يجبني...
***
تعود سوريا هذه المرة وحدها بعد عقدين. لم أثق يوماً بأنّ الموت ثمن للحريّة، فإذا «ولدتنا أمهاتنا» أحراراً، فكيف لي أن أدفع ثمناً لما يحضرني منذ الولادة. أستفيق كل اليوم، أفكر في برنامجي الصباحي أكثر من الحاصل في اللاذقية. أسمع فجأة، من إحدى الإذاعات الأجنبية أنّ البوارج تقصف المباني. بوارج؟ أسال نفسي، قبل أن أفكر في من قتلتهم النار. وهل يوجد سلاح بحري في سوريا؟ وبعدها أفتش، دون شغف الغاضبين، عن رقم الموتى، لا أسمائهم. فمنذ تحوّل الموت إلى أرقام في بلادي، صرت أنا أيضاً شريكاً في هذه المؤامرة، أعدّ أرقاماً ولا أرى وجوهاً. أقرأ الخبر تارةً، وأبتسم لشباك الدردشة تارة أخرى. أسأل نفسي، ما الذي يفعله المرء إذاً في يوم أثقله الموت؟ فيمَ عليّ أنّ أفكر حين ينهمر القصف على حماه، هل ممنوع أن أشتاق إليها مثلاً؟ هل علي أن أتصل لإلغاء حضوري في سهرة نهاية الأسبوع؟ لا أقرّر شيئاً سوى وقوفي مصادفةً قبالة المرآة في غرفتي، لأرى غياب الملامح في وجهي، أترك مكاني، كما قضيت هذا العمر أترك مكاني، وأنتقل إلى سيرة أخرى، وظيفة أخرى، فالنهار لا تنقصه التفاصيل الصغيرة. فجأةً، في لحظة غير متوقعة، وغير مبرّرة، على قهوة أو في الطريق إلى مكان ما، أذكر صورة الموتى، لا أحلل السياسة ولا أرصد المؤامرات. لا أعرف كيف يكشفون المؤامرات أصلاً... كل ما في الأمر أنّي أتخيل صرخة أمّ من نشرة الأمس، أتخيلها لحظة أنّها أمي. ماذا لو رأتني كما الأمهات يشاهدن أبناءهن بعد التعذيب؟ من سيقنعها بأنّ خروجي إلى الشارع كان مؤامرة، وأنّ موتي كان ضرورة لـ«حماية الوطن»؟!
***
لا أُتقن الغزل بسوريا، ولا أعرف كيف لي أن أتغزّل برقعة لم أزرها، رغم أنّنا جميعاً «شاميّون». لا وجود لنهر النيل في سوريا لالتقاط الصور بجانبه، ولا أهرام في دير الزور، لا ميدان تحرير هناك ولا أغنيات. لا غيتار في اللاذقية ولا اكتشاف مواهب عند «الكوبري». لا شيخ إمام ولا عبد الناصر. لا شيء في سوريا يستدعي الغزل، حتى إنّ فريقها لكرة القدم لم يلعب مع الجزائر. لا عمر سليمان في دمشق ولا «الراجل» الذي خلفه: «هنا حماه» لا تحمل رومانسيات، كما «هنا القاهرة»! هل لذلك السبب لم يوقظ الموت مشاعرنا وأيقظ قدراتنا على التحليل مثلاً؟ هل لذلك السبب لا نهتف باسم سوريا وصرنا نحلل من «أين المؤامرات» ونتقن نظريات «الممانعة»؟ وهل الهبّة في سوريا أيقظت العورات وقطعت وتراً من صوت الهتاف؟
أدرك أنّنا تربينا على «نقاوة القضية» فيما القضية ليست نقية. نحن الذين لم نخرج في مسيرة ضد هجوم صدام حسين على الأكراد، ولا الأسد الأب على حماه، وإن شئتم، لا أذكر تحليلاً واحداً عن حرب السوفيات على الأفغان. لأنّ «القضية»كان مرتبطة بزعامات ودول، صمتنا كثيراً. كم من الجرائم ارتبطت باسم «القضية»، ووقفنا على السياج متفرجين؟ السلطة الفلسطينية قمعت مسيرة مؤيدة لثورة مصر، وحماس تقمع مسيرة مؤيدة لثورة سوريا، انقسامات كثيرة وشعب واحد.
إنّ القضية في سوريا معقدة، لكنّ التعقيد في داخلنا أكبر، ونحن أيضاً مفبركون. كيف لي أن ألوم شاباً في الثامنة عشرة من عمره يشرح لنا نظريات المؤامرة على سوريا، ويشكك في صورة شاب مضرج بالدماء بأنّها «مفبركة»، فهو ضحية لآخرين هتفوا من قبله «عاش الزعيم»، وعندما مات الزعيم هتفوا فرحاً «مات الزعيم»...



* من أسرة «الأخبار»