يبدو أنّ مركزية الانتفاضة في وعينا اليوم باتت ذريعة جاهزة لطمس مشكلات، لا تقل مركزية عنها. مشكلات ترتدي شكلاً طرفياً، وتظهر أحياناً كما لو كانت «عبئاً» علينا، في هذه الأيام العصيبة. غير أنّ الحقيقة تكمن في مكان آخر، فانشغالنا الكامل بالانتفاضة اليوم هو الذي بات «عبئاً» على «أطراف» ليست تماماً كذلك، أو لا يجوز أن تكون كذلك. «أطراف» انحسر الاهتمام بقضاياها إلى الحدود الدنيا. لا يتحمل النظام وحده المسؤولية عن ذلك، فالمعارضة أيضاً لم تبذل جهداً كافياً لتظهر لأهلنا في الجولان أنّهم ليسوا فقط مادة للتنازع مع السلطة. لندع الرّطانة اللفظية «المتضامنة» مع الجولان (نظاماً ومعارضة) جانباً ولنفكر قليلاً في ما يأتي: أبسط شيء تقوله المعارضة اليوم للنظام في معرض تبخيسها «لممانعته» أنّه «باع الجولان». هو فعل ذلك حقاً، لكن في سياق تاريخي لا يبدو قابلاً للتكرار. وحين تنتزع المعارضة الفعل ذاك من سياقه، وترمي به في وجه النظام، لا تفعل عملياً سوى إعادة إنتاج ذرائعية النظام، على نحو مقلوب. في الحالتين، نحن أمام استخدام فظّ لقضية الجولان المحتل. استخدام يفصل الاسم عن المسمى، ويحاول تجريد الاثنين من بُعدهما الرمزي (ولا يفلح كالعادة). لا يعود الجولان هنا قضية، بل يصبح أداة فحسب. أداة يستخدمها النظام وتستخدمها المعارضة أيضاً. وفي تلك الأثناء، تواصل إسرائيل استخدام الجميع، مستفيدة من انصراف هؤلاء عن استخدامها لهم و«لقضيتهم» الموظّفة أصلاً في سياق رديء، هو سياق «الممانعة»، والردود عليها نفطياً وكولونيالياً.لكن ما مناسبة هذا الكلام اليوم؟ مناسبته أنّ الاستخدام الإسرائيلي للجميع، لم يعد شعاراً فحسب. لقد باشرت دولة الاستيطان الكولونيالي، منذ أيام، إكساءه لحماً وعظماً، كفيلين «بتحرير» الجولان من حيّز الاستخدام السوري الرديء له (باشرت إسرائيل قبل أيام بناء جدار يفصل بين مجدل شمس المحتلة وتجمع ضاحية العودة وموقع عين التينة المحرّر). هكذا لا يعود بمقدور أحد في سوريا أن يمارس هوايته القذرة في ادعاء العفّة وممارسة فعل التطهر من الذنب (ذنب استخدام الجولان عند الحاجة، والتخلّي عنه لدى إشباعها مرضياً). إذاً فعلتها إسرائيل كالعادة، وهتكت بكارتنا الزائفة في الموالاة والمعارضة. واللافت أنّه في كلّ مرة يقدم فيها العدو على ذلك، لا يجد في مواجهته إلا فعلاً واحداً: الإنكار. أصلاً ماذا يملك النظام اليوم غير ذلك. هو ينكر استخدامه المبتذل لقضية الجولان، تماماً كما ينكر تآكل «شرعيته»، منذ آذار الماضي، لكن القصة ليست هنا، بل في مكان آخر يفترض أنّه «مفارق» لدجل الدكتاتوريات ومتاجرتها بالقضايا. هل عرفتم أين؟ طبعاً القصة هي لدى المعارضة، بجناحها الوطني تحديداً. يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها من الآن فصاعداً، ونتحدث عن معارضتين: واحدة وطنية وغير خاضعة لهيمنة رأس المال الدولي والخليجي، وأخرى غير وطنية وعميلة لرأس المال ذاك. معارضة باتت تستمرئ ألاعيب النظام، وتعيد إنتاجها كلّ مرة، على نحو جديد. وجديدها اليوم هو تجذير حالة الفصل المنهجي بين المسألتين الديموقراطية والوطنية، وتحويلها إلى سياسة عامة.
لقد سكت المرء طويلاً عن سكوت هؤلاء الوطنيين عن مؤتمرات المعارضات الكولونيالية المنعقدة برعاية دوائر الاستخبارات الغربية والأطلسية، في تركيا وبروكسل وباريس، لكن عندما تمتنع المعارضة عن التعليق على انتزاع مجدل شمس من أحشائنا مرة ثانية، بعدما انتزعتها إسرائيل أول مرة، لا يعود السكوت ممكناً. نعرف جميعاً أنّ المعارضة سجّلت سابقاً اعتراضاً أخلاقياً على استخدام النظام ذكرى النكسة والنكبة، ذريعة لطمس ما يحدث في البلد، وهذا موقف متقدم بالقياس إلى آخرين لم ينبسوا ببنت شفة. وظننا حينها أنّ الموقف ذاك نابع من حرص على عدم الزج بأهلنا في الجولان في صراع النظام من أجل البقاء، لكننا نكتشف اليوم، وللأسف الشديد، أنّه ما من أحد أحرص من أهل الجولان على قضيتهم وديمومة وجودهم. هذه هي اللحمة الوطنية في سوريا اليوم!. حتى أكثر الأصوات أخلاقية في المعارضة (هيثم مناع وسمير العيطة مثلاً) لم نسمع منهما كلمة واحدة تنفي استخدام قضية الجولان غبّ الطلب من جانب «زملاء» لهما. بإمكان المرء أن يفهم الآن حجم المرارة التي يشعر بها أهلنا في مجدل شمس، تجاه من يفترض أنّهم شركاء الغد في صناعة المستقبل. لقد دأبت المعارضة على القول، في كل مناسبة، إنّ استعادة الجولان رهن بتحريرنا من نظام يقيّد إنفاذ تلك الاستعادة. وعندما أقدمت إسرائيل (لا النظام) على تقييد ذاك الإنفاذ مجدداً، لم تجد أحداً في المعارضة يدينها أو يشتمها أو يرفع إصبعاً في وجهها حتى. لا نريد من النظام أن يفعل ذلك، نريد أن نسمع ذلك من المعارضة الوطنية الديموقراطية حصراً. واستطراداً نقول: كيف يريد الرفاق في المعارضة أن يؤسسوا لفعل سياسي يعيد إنتاج الحياة الديموقراطية التي انقطعت في البلد، من دون أن يربطوه بالمسألة الوطنية؟ لا يكفي أن تتذرع المعارضة اليوم بالانتفاضة وشجونها، كي تنفي عن نفسها تهمة الانصراف الكامل عن المسألة تلك. لقد سبق لأقطاب مركزيين في المعارضة أن قالوا لأصدقاء لهم، لبنانيين وعرباً، إنّ فلسطين لن تشغلنا في «سوريا الجديدة» بالقدر ذاته الذي كانت تشغله سابقاً. وسابقاً هنا تحيل على «سوريا البعثية» طبعاً. أي انحطاط أخلاقي هذا؟ أنت تعترف بوقاحة أنّ ديموقراطيتك الموعودة ستكون أقل احتضاناً للفلسطينيين من دكتاتورية البعث. ما هذه النيوليبرالية السياسية المفرطة في شوفينيتها؟ لقد سبق لي أن اتهمت النظام في مقالة سابقة («عندما تتحول شوفينيتنا إلى أهزوجة وطنية»، عدد ١٤٠٩، الخميس ١٢ أيار ٢٠١١) بممارسة تعبئة شوفينية كريهة ضد الفلسطينيين الذين شاركوا في الاحتجاجات، لكنّي أجد نفسي اليوم مضطراً إلى لوم المعارضة «أكثر من النظام»، لأنّها بالضبط أكثر أخلاقية منه، ولأنّها تضم بين صفوفها أجنحة نيوليبرالية «تحتقر» الإخوة الفلسطينيين، وتمارس بحقهم أعتى أنواع التمييز والعنف اللفظي. لدي سؤال محدد للمعارضة بهذا الخصوص: ما الفرق بين الانصراف عن فلسطين بحجة أنّنا «سوريون أولاً» (هذا هو شعار المرحلة على ما يبدو!) والانصراف بالقدر ذاته، إن لم يكن أكثر، عن الجولان بحجة أنّ الانتفاضة تشغلنا أكثر من أي شي آخر؟ طبعاً هذا هراء كامل، ولا مكان له أساساً في حيّز الفعل السياسي الجذري. لاحظوا هنا أنّنا نتحدث عن تغيير راديكالي، لا عن نسق ملفّق، تشتغل عليه اليوم دوائر خليجية (قطر تحديداً)، تابعة للغرب، لإحلال ديموقراطية صورية مهيمن عليها أطلسياً، بدل الدكتاتورية القائمة. والتغيير الراديكالي، لمن لا يعرف، يفترض بناء ديموقراطية على شاكلته، أي ديموقراطية جذرية لا تقوم على التعارض بين المسألتين الديموقراطية والوطنية. وأي ذهاب في اتجاه مخالف هو خيانة منهجية للجدلية النضالية التي تدرج المخاض الديموقراطي الحالي في سياق أعم، هو سياق بناء نهضة عربية جديدة فعلاً. نهضة متحررة من الدكتاتوريات السلالية (وعلى رأسها سلالات النفط في الخليج) ومن المثابرة النفطية على استدراج أنماط جديدة ومعدّلة من الاستعمار إلى منطقتنا (ليبيا نموذجاً). كلّ ذلك يجعل من الدور الذي يفترض بالمعارضة الوطنية أن تنهض به، دوراً سيزيفياً بامتياز، لكن هل المعارضة مستعدة فعلاً لدور بهذا الحجم؟ هذا السؤال تحديداً يجب أن يوجه إلى الطرف الذي يعطّل دورها، ويمنع كوادرها الأكثر راديكاليةً من ممارسة توقها إلى الربط بين الديموقراطية الجذرية والتحرر الوطني. يبدو عبثياً طبعاً أن يتوجه المرء بسؤال مماثل إلى نظام لا يكفّ لحظة عن ممارسة العسف الأمني بحق معارضيه التقليديين، فكيف إذا تحدثنا عن شباب راديكاليين يمكنهم نقل الحراك من ضفّة إلى أخرى! من ضفّة الهشاشة والمراوحة في المكان، وعدم القدرة على النفاذ الى الطبقات والطوائف المنكفئة والمترددة، الى ضفة التسييس الكامل وعلمنة الشعارات من دون إفقادها بُعدها الديني الفطري (الذي أفسدته الوهابية في مصر، ونخشى عليه منها هنا). فمشكلتنا ليست مع الدين، بل مع مذهبته وجعلها طرفاً في صراع مع آخرين لا يشاطروننا المعتقد ذاته. هم لا يشاطروننا المعتقد، لكنّهم يشاطروننا حتماً الرغبة في نقل الصراع مع السلطة الى مرتبة لا يعود فيها الانقسام هو القاعدة، والإجماع هو الاستثناء (كما هو حاصل اليوم). وفي هذا السياق، يمكن الجناح الأكثر أخلاقية في المعارضة أن يفعل الشيء الكثير. مثلاً، نحن الآن بأمسّ الحاجة إلى إعادة إنتاج هويتنا الوطنية المتصدعة (ليس من مصلحة المعارضة إنكار هذا التصدّع بعد اليوم) على قاعدة مغايرة للاشتغالات البعثية والإسلاموية المهيمنة كلياً اليوم. ما رأيكم في ما طرحناه سابقاً عن تجذير الربط بين المسألتين الوطنية والديموقراطية؟ هذا التجذير هو وحده القادر على تفكيك الهويات الجزئية والمتنازع عليها بين السوريين. وأفضل ما يمكن أن يعبّد الطريق أمام ذلك هو قضية تحظى بإجماع وطني، وتستقطب شرائح لم تنخرط حتى اليوم في الحراك: الجولان المحتل. إذاً، فلتتفضل المعارضة الوطنية بإصدار بيان يدين جدار الفصل الاستيطاني حول مجدل شمس، وعندها قد يتلقفه الشارع (وقد لا يفعل كذلك)، ويبني عليه برنامجاً سياسياً جديّاً (لا صورياً فحسب) يدمج الديموقراطي بالوطني، ويعبر بنا فوق فوالق الطوائف القاتلة.

* كاتب سوري