لم يكن الاحتقان الاجتماعي في سوريا ناضجاً تماماً (كما أشرنا في الحلقة الأولى)، كما كان متفاوت النضج بين منطقة وأخرى. ولذلك لم يكن حاجز الخوف قد انكسر، وظل المفقرون يحصرون دون مقدرة على الانفجار. وربما كان وضع النظام «الممانع» يلعب دوراً في الخشية من الانفجار، فالمسألة هنا تتعلق بالوطن، رغم أنّ «الوعي العام» يعي أنّ المسألة لا تتعلق بالنظام الذي أهلك الداخل تحت شعار مواجهة الدولة الصهيونية، دون أن يحقق شيئاً، وأكْثَرَ من السعي إلى التفاوض والتنازل. كذلك وضع العراق، والخشية من التدخل الخارجي، قد يكونان أديا دوراً في ارتباك تلك الفئات، نتيجة الخشية من الفوضى والحرب الطائفية.كل ذلك الوضع كان يجعل الاحتقان لا يصل حد الانفجار، كما حدث في تونس أو مصر. فمن جهة، الأزمة الاقتصادية هي أزمة حديثة، ومن جهة أخرى، لم تتعمق لتصل إلى كل المجتمع. وثالثاً كان الوضع المحيط يجعل الصراع ضد السلطة محفوفاً بتخوفات تؤثر في قرار التمرد، وكسر حاجز الخوف.
وهذا ما جعل الحراك يبدأ نتيجة عنف السلطة في التعامل مع قضية محلية، سرعان ما بدأت «تفقأ جراح» المفقرين شيئاً فشيئاً، وتحت شعار التضامن مع درعا، ثم مع دوما، ثم مع بانياس، وحمص وحماه وجسر الشغور و... إلخ. لكن كان ذلك يؤسس لنشوء «مبررات» لتأخر قطاعات اجتماعية في الانخراط في الحراك، ولقد كان «الخروج من المساجد» مؤشراً إلى أنّ الحراك هو حراك أصولي، خصوصاً حينما ترافق مع بعض الشعارات الدينية، وبالأخص أنّ الحراك تسرّب إلى «مناطق سنية»، في الريف (رغم أنّ أهم مدينتين «سنيتين» لم تكونا قد تحركتا بعد جدياً، أي دمشق وحلب). فبدا أنّ «الأقليات» قد أصابها الخوف، وبدأت تصدّق روايات السلطة. لقد انكمشت، وأصابها التوجس، وهذا ما أثر في صيرورة الحراك، وفرض تأخر وصوله إلى نهايته.
وساعد على ذلك الخوف خطاب معارضة الخارج، وبعض المواقع التي ادعت أنّها تعبّر عن الثورة، وبعض القنوات الطائفية (الوصال)، وبعض المعارضين الذين تلقفتهم القنوات الفضائية. فقد كانت الطائفية واضحة في هذا الخطاب، وبدا أنّها تعتقد بأنّ الثورة هي ثورة «السنّة» ضد السلطة «العلوية»، فاشتغلت على تلك النغمة. وهو الأمر الذي كان يفيد السلطة في تعزيز الخوف لدى قطاعات اجتماعية من الضروري أن تكون في صلب الصراع، فهي الأفقر، والأكثر تهميشاً، والمستغَلة إلى الحد الأقصى. ولقد نشأ خوفها أصلاً من حسابها على السلطة، رغم كل هذا الوضع الذي تعيشه بفعل الخطاب الضيق لدى بعض أطراف المعارضة، طيلة السنوات الماضية، والانطلاق من أنّ النظام يمثّل الطائفة.
لا شك في أنّ ذلك ليس كافياً لكي يحدث الخوف، لكن كان له دور في تأخير كسر حالة الخشية من مواجهة السلطة، خصوصاً أنّ الثورة عانت من تجاهل طرح المشكلات الحقيقية لهؤلاء، ولكلّ المفقرين، الذين تحركوا بشعارات لم تعبّر عنهم بدقة، بعدما أفضى الصدام مع السلطة إلى تحوّل المسألة إلى مسألة إسقاط السلطة، فلم تشر أي من الشعارات إلى المطالب المباشرة لهؤلاء، التي على النظام الجديد تحقيقها. ولم يكن شعار الحرية يكفي لتحديد البديل الذي يؤسس لمجتمع مختلف عما أسسته الديكتاتورية. فقد غاب هدف الدولة المدنية، وغابت المطالب المعيشية، ولم يجرِ التطرق إلى النهب والفساد إلا لماماً. فبدت الثورة وكأنّها بلا أهداف، ودعوة إلى الفوضى، وانتقام من السلطة وما تمثله «طائفياً».
هنا، ربما استعيدت في الوعي صورة تطايرت في السنوات الأخيرة من خلال التصورات والأفكار «التخيلية» للوضع السوري، كما من خلال الممارسات العملية للسلطة. لقد استعيدت صورة الصراع الذي حدث سنوات 1979 ــ 1982، بين الإخوان المسلمين والسلطة. صراع انطلقت فيه جماعة الإخوان من منظور طائفي، ليبدو كأنّه صراع بين «السنّة» و«العلويين»، وليس بين حزب سياسي وسلطة. ولقد ردت السلطة بتحكم «طائفي» في المواقع الأساسية في السلطة، الأمر الذي جعل قطاعات من المعارضة تركز على الطابع «الطائفي» للسلطة، من خلال ربط أقلية دينية (العلويين) بالسلطة، وحتى التشكيك في كلّ معارضة من تلك الطائفة. لقد جرى الربط القسري بين السلطة والطائفة نتيجة سوء تفسير الاعتماد السلطوي على فئة معينة من طائفة محدَّدة، ففُهمت من منظور طائفي بينما لم تكن سوى نتيجة للعلاقات المناطقية التي كانت تضفي ثقة ضرورية لسلطة مسيطر على أجهزتها. في هذا الوضع، وحينما انفجر الصراع بشعارات عمومية (الحرية)، وصلت سريعاً إلى شعار إسقاط السلطة، وبفعل التوسع الأولي في المناطق «السنّية»، وكل ما رافق ذلك من شعارات وتعبيرات، كان طبيعياً أن ترتسم صورة الصراع «الطائفي»، وأن تصدّق بعض روايات السلطة. إذ استثير مباشرة الشعور بأنّ هؤلاء المنتفضين ينطلقون من أنّ السلطة «علوية»، وأنّهم يريدون سلطة «سنّية». ساعد على ذلك ما أشرت إليه من خطاب طائفي لدى قنوات فضائية وأفراد، ومن تعبيرات دينية جرى استخدامها في التظاهرات.
طاول ذلك الوضع المسيحيين الذين شعروا بأنّهم إزاء تغيير سيقود «حتماً» إلى نشوء دولة دينية أصولية. وهو الأمر الذي فرض الاستنكاف، أو حتى دعم السلطة من بعضهم، خصوصاً أنّ وضع مسيحيي العراق ماثل هنا. لهذا بدا أنّ الاستقرار على ما هو قائم، أفضل من التغيير الذي سيأتي بسلطة أصولية.
ولعبت بعض النخب دوراً تخويفياً، إذ بني تحليلها على أنّ الوضع يندفع نحو الصراع الطائفي، نتيجة اقتناعها بوجود احتقان قديم من جهة، ومن خشيتها من أنّ السلطة ستتدخل في هذه المسألة، للحفاظ على سلطتها. وإضافة إلى عجزها عن فهم الواقع (ولهذا لم تكن تتلمس إمكانية الانفجار الاجتماعي)، يبدو أنّها تتخوف من انتصار الحراك الذي يظهر أنّه يحمل، في العمق، بديلاً «شبابياً»، سيحلّ محلها. ولذلك، مالت إلى «المهادنة»، وحبّذت الإصلاح على التغيير، ونادت بحلّ «وسط»، وبتنازل من «الطرفين». وهو أيضاً ما كان يحبط قطاعات ربما كانت تتحفز للمشاركة، نتيجة شعورها بإمكانية «الحل السلمي»، فلماذا كلّ ذاك الدم، إذا كان من الممكن التفاوض على حل؟
وإذا كان تطوّر الثورة لم يشر إلى وجود احتقان طائفي، ولا تحرشات طائفية، ظهر، على العكس، أنّ الشباب يتجاوزون ذلك، وحاولوا تأكيد ذلك من خلال بعض الشعارات التي أتت ردّاً على خطاب السلطة الاتهامي، لكنّ الخوف لا يزال قائماً، ويحتاج إلى حل، رغم أنّ الزمن يلعب دوراً في توضيح المطالب أكثر، كما في توضيح عدم طائفية الصراع، وكونه يتركز على السلطة كسلطة تمارس العنف والنهب. وهو الأمر الذي لا بد من أن يفكك التشنجات، ويقود إلى كشف الأسباب التي تدفع السلطة إلى التخويف الطائفي، والدفع نحو فرض خوف «أقلوي» من الانتفاضة، ومن فرض «تعصب طائفي» مضاد لها. فالوقائع ستشير إلى الجهة المعنية بالاستثارة الطائفية، التي يقوم إعلامها بتعميم الطائفية، ليطرح السؤال عن هدفها من كل ذلك.
الثورة وقوى المعارضة
في وضع التوسع البطيء للحراك، كان يظهر دور بعض القوى في بعض المناطق. فمثلاً في درعا، كان للناصريين دور، وفي دوما كان دورهم واضحاً، وربما في ريف دمشق على العموم لهم دور ما. ولقد كان لشيوعيين دور فردي في العديد من المناطق. غير ذلك، ليس هناك سوى الشباب الذي يخوض الصراع دون خوف من الرصاص. ولقد بدت أحزاب المعارضة بعيدة عما يجري، سوى من خلال الإعلام، وفوجئت بالحراك، أكثر مما فوجئ النظام. ومالت تلك المعارضة إلى تلبيس الحراك سمة واحدة، هي أنّه يهدف إلى الحرية (ولم تستطع قول إنّه يهدف إلى الديموقراطية، لأن ليس من شعار واحد طرح حول ذلك)، والكرامة (بسبب أطفال درعا الذين اعتقلوا وعذبوا وأهينوا، فاستثار ذلك الإهانات التاريخية لدى الشعب). وبالتالي، تكرر خطابها حصراً حول هذا الموضوع. وهي هنا تقصر الصراع حول هدف وحيد عام، وتتجاهل أنّ أساس الحراك هو البطالة والفقر. كما تهرب من تناول ذلك الموضوع، على أساس أنّ الهدف هو التغيير، ثم يجري البحث في المسائل الأخرى. لكن الأساس هنا يتمثل في أنّها تطرح ما لا يتوافق مع المطالب الشعبية، لأنّها تدعم اللبرلة والاقتصاد الحر، والبقاء ضمن النمط الإمبريالي العالمي.
وإذا كانت القوى الخارجية تعدّ لتشكيل «بديل» سلطوي، عماده الإخوان المسلمون، وفي ترابط مع الدول الإمبريالية، فإنّ المعارضة في الداخل تتحرك بين الدفع نحو التغيير والترابط مع المعارضة الخارجية من جهة، ومن جهة أخرى العمل تحت سقف الإصلاحات التي يمكن أن يقدّمها النظام. وهي تعتقد بأنّ الوضع سيفرض على النظام حتماً قبول الإصلاح، لأنْ ليس من خيار أمامه غير ذلك. ولقد تبلورت في تحالف سياسي لا يقطع مع الإصلاح، أو لا يرى غيره. ولا شك في أنّ الطرفين مرتبكان في بلورة تحالف يقوم على برنامج، لأنّ كلا البرنامجين (التغيير، والإصلاح) لا يتوافقان مع «مزاج» الشارع. فالأولون سوف يركزون على الديموقراطية والحريات والتعددية ودولة الحق والقانون، وفصل السلطات (دون العلمنة)، وهذا لا يلاقي قبولاً من الطبقات الشعبية التي تقاتل في الشارع، وتقول بأنّ مطالبها هي العمل والأجور، والتعليم والصحة... ثم الحرية والديموقراطية، وبالتالي تطالب بنمط اقتصادي بديل لا تمتلكه قوى المعارضة هذه. والآخرون يطرحون ما هو دون سقف المطلب الشعبي الآن، أي إسقاط النظام، وبالتالي يخشون من رفض شعبي واضح.
وبهذا، فمن مصلحة الطرفين عدم التقدم لبلورة تحالف سياسي بينهما. وهنا لم أتطرق إلى الخلافات والمشاحنات القديمة التي تجعل الحوار أصلاً صعباً.
لذلك، يبدو دور المعارضة الخارجية خطراً، لأنّها مدعومة «بالسر» من قوى داخلية، ولأنّها مفتوحة الأفق للتعاون مع الدولة الإمبريالية، ويمكن أن تحصل على شرعية ما منها، خصوصاً إذا اندفعت الأمور إلى التدخل الإمبريالي. ولا ننسى أنّ جماعة الإخوان المسلمين، في طبعتها الدولية، وفي تمظهرها التونسي والمصري، باتت في تفاهم مع الولايات المتحدة، وجرى التوافق على أن تكون جزءاً أساسياً في «النظم الجديدة». ولن أدخل هنا في المآلات التي يمكن أن يوصل إليها ذلك، لكن أظن بأنّ هذه القوى لا تمتلك برنامجاً يحل مشكلات الطبقات الشعبية، ورؤيتها تعقد الوضع أكثر مما تحله، وبالتالي ستكون في مواجهة مع الطبقات الشعبية لن تسمح لها بالحكم، أو بالاستقرار في الحكم.
في المستوى الآخر، هناك الطبقات الشعبية والشباب منها، التي تخوض الصراع لكسر الأفق المسدود، وفتح طاقة للأمل في حياة أفضل، وهي القوة الفعلية على الأرض، والجذرية في موقفها، وتعمل على كسر «جبروت» السلطة، مما يقود إلى التغيير. وإذا كانت لا تمتلك وعياً سياسياً، بل تعرف أنّ عليها إسقاط السلطة، وتبدو ثقافتها «البسيطة» (والتقليدية) في مجمل الشعارات التي تبادر إلى طرحها، لكن هناك من الشباب من لديهم دراية سياسية تسهم في الحراك. ولذلك، نجد شباباً يسارياً وقومياً، والى حد ما ليبرالياً، يحاول لعب دور في الحراك، خصوصاً في الإعلام والتنسيق والتنظيم. لكن تلك القوى لم تستطع إلى الآن ضبط إيقاع الشعارات والرؤية. ولذلك يظل الحراك عفوياً، وما ينظمه هو موعد النشاط واسم الجمعة، وبعض النشاطات خلال الأسبوع، مما يسبّب إرباكاً في الحراك، ويجعل التأثير الخارجي كبيراً، ويصبح من يتحكم في الإعلام يستطيع تحميل الحراك ما يريد. وهذا ما بات يظهر في تسمية أيام الجمعة (جمعة الحرائر، وجمعة العشائر)، وفي إبراز الشعارات التي يريد.
وبالتالي نلمس الفوضى في الشعارات، وفي التنسيق، وفي «المعبّرين» عن الثورة، وفي الخطاب الذي يطرح. وما يجعل الثورة مستمرة هو بساطة الطبقات الشعبية التي قررت الاستمرار، رغم كلّ القتل والاعتقال، وحسمها بأنّ الوضع يجب أن يتغيّر لأنّها لم تعد تستطيع الاستمرار في العيش في هذا الوضع الميت. وهي تريد التغيير حتماً، وربما لن تتراجع عن ذلك، ولن تتوقف قبل تحقيقه. إنّها تعي أنّ سبب وضعها المزري هو السلطة التي تحمي المافيات التي نهبت، حتى «شفطت» كل المال المتوفر، وبالتالي لم تبقِ لأحد شيئاً، فتركت البلد «على الحديدة»، وتركت الطبقات الشعبية في وضع مأساوي، دون عمل ودون مقدرة على العيش. السلطة إذن هي هدف هؤلاء، من أجل فتح أفق للعيش. هذا ما يعرفونه بوضوح وبالتأكيد، وما اندفعوا لتحقيقه من خلال إسقاطها.
العفوي والسياسي
إذاً أصبحت بعض قوى المعارضة بعيدة عن الطبقات الشعبية منذ زمن بعيد، وغرق بعضها في الليبرالية إلى الحد الذي جعله ينسى أنّ هناك طبقات شعبية، وبات همه يتركز على شكل النظام الذي يسمح له كقوى أن يمارس دوره السياسي، ويندمج في بنية الدولة (وليس بالضرورة السلطة). وقاد ذلك قوى المعارضة إلى عدم توقّع حراك جماهيري بل استخفت بالطبقات الشعبية وبإمكانية نهوضها. إذا كانت قوى المعارضة قد أصبحت كذلك، فقد أوضح انفجار الانتفاضة أنّها خارج الزمن، ربما مع تلمسات محدودة هنا أو هناك.
انفجرت الانتفاضة بقوى شعبية في الغالب، أو بمشاركة شباب مثقف لم يكن قد انتمى إلى أحزاب، خلال عمره السابق، وأصبحت المسألة بالنسبة إليه تتعلق بإسقاط السلطة التي وجد أنّها تشكل حاجزاً إزاء طموحاته، وبالتالي فقد دخل السياسة من «الباب العريض»، لكن دون تجربة سياسية وبوعي سياسي محدود. ولا شك في أنّ المهمة الآن تتمثل في التغيير، أي إسقاط السلطة، وهذا ما يحتاج إلى إرادة وتصميم، وهو ما يتوضّح كل يوم في الصراع الحقيقي، في صراع الشباب في الشارع من أجل التغيير.
لكن طبيعة الصراع الذي بدأ منذ 15 آذار/ مارس تفرض «وعياً سياسياً» من أجل أن تتطور الانتفاضة، وأن تحدد إلى ماذا تهدف، وتبلور صيغة لمرحلة انتقالية ربما تكون قد اقتربت. وإذا كان فاصلاً يقام بين قوى المعارضة والقوى الطبقية التي تخوض الصراع، فإنّ الضرورة تفرض البحث عن أفق سياسي لتلك القوى الطبقية. فالشباب الذي دخل السياسة لا بد له من أن يتبلور في بنية تسمح له بفرض البديل الذي يطمح إليه، بدل أن يترك الوضع لقوى أخرى، في حال غياب هذا الدور، كما حدث في تونس ومصر، وما يحاول شباب اليمن منع حدوثه من خلال سعيهم إلى فرض مجلس رئاسي يختارونه هم.
إنّ عفوية الانطلاق من أجل التغيير الذي يتضمن تحقيق مطالب هذه الطبقات الشعبية الاقتصادية والمطلبية والسياسية، تفرض أن يجري العمل على بلورة أفق سياسي يتضمن تلك المطالب، ويحدد صيغة الانتقال التي تقود إلى تحقيقها. وهذا ما بات ملحاً مناقشته الآن، من أجل ألا يقفز إلى السلطة من لم يكن له دور في الثورة، ويحمل أهدافاً ومطامح تتناقض مع ما أراد الشباب الذي خاضها. لكن دون أن يربك ذلك النشاط العملي من أجل تطوير الثورة، على العكس يجب أن يصبّ في تطويرها.
في كلّ الأحوال، تتوسع الثورة كثيراً، لكنّها تقف عند حدود «الأقليات» (رغم بدء مشاركة بعض منها) وحدود المدينتين الأساسيتين (دمشق وحلب)، وتقف عند تشوش الشعارات، وعدم وضوح الأهداف التي تلي إسقاط النظام، وعدم التوصل إلى لجنة تنسيق عامة (وحتى اللجان المحلية ليست مكتملة بعد). وهي تعيش «تناحراً» بين أطراف وقوى على «ركوبها»، وتغرق في لغو بعض النخب وهواجسهم وتخوفاتهم. يفرض كل ذلك التوقف لتحديد المطلوب الآن. المطلوب في الثورة تطويرها، فنحن لم نصل بعد إلى لحظة الحسم، ولم يصبح الوضع مؤاتياً لتقديم صيغ حول الحلول. ولهذا لا بد من التفكير في تطوير الثورة.
في كل الأحوال الأمور تندفع نحو التغيير، لكن إلى أي أفق؟ إلى ماذا تهدف الانتفاضة؟ وكيف يمكن التعبير عن هذه الأهداف؟ وبالتالي كيف يمكن الوصول إلى تحقيقها؟
تعاني الانتفاضة من العفوية، وليس هناك سوى جرأة الطبقات الشعبية المذهلة، والإصرار على تحقيق التغيير. وبالتالي فهي تعاني من «وحدة الحراك» ومن الانتقال إلى فرض حراك مستمر. ثم هناك الشعارات التي تبدو مشتتة دون شعار ناظم، رغم أنّ شعار الشعب يريد إسقاط النظام هو الذي يتحوّل إلى شعار مركزي. لكن دون ذلك تدور كل الشعارات في فلكه، دون تعبير عن المطالب والأهداف. وثالثاً ليس من دراسة لوضع السلطة ومقدرتها وحدود «مقاومتها»، أو استمرار قمعها. وبالتالي هل يجب الدفع لتطوير الانتفاضة أم يمكن الوصول إلى حل وسط يمكن أن «يُفرض» على السلطة كما يعتقد البعض في المعارضة؟
إذا كانت أطياف المعارضة تحاول التركيز على الحرية مطلباً مركزياً تعتقد بأنّ الانتفاضة قامت من أجل تحقيقه، فإنّ ما يجب أن يكون واضحاً هو أنّ الطبقات الشعبية وصلت إلى وضع مزرٍ، وأنّ تلمسها للحرية نبع من ميلها إلى التمرد، نتيجة وضعها الاقتصادي المزري. وبالتالي، فهي تسعى إلى فتح أفق لوضع اقتصادي يسمح لها بالعيش الكريم أولاً، ولا شك في أنّها كذلك تريد دولة تقوم على الحق في التعبير عن المطالب، والنضال من أجلها، دولة تحترم المواطن وتسهّل تعاطيه مع مؤسساتها، وتقدّم الخدمات الضرورية له حقاً «طبيعياً». لكن يبقى حل مسألة العيش هو الأولوية هنا، والأساس الذي يجعل الطبقات الشعبية تستقر. ولا ننسى أنّ الطبقات الشعبية دعمت النظم التي حققت الإصلاح الزراعي وتوسيع دور الدولة، لأنّها حققت لها وضعاً جديداً مستقراً، رغم كونها نظماً استبدادية. بمعنى أنّ الأولوية هنا، وليست في أي مكان آخر، رغم ضرورة الربط الآن بين الوضع الاقتصادي والدولة المدنية، فهناك فئات متسعة باتت تحس بضرورة الدمقرطة والحداثة، ولأنّ بديل الطبقات الشعبية في المستوى السياسي هو الدولة المدنية، التي هي أساس أي سعي لتحقيق الاشتراكية.
يفرض ذلك الوضع التركيز على المطالب الاقتصادية المعيشية، كما على طبيعة الدولة الجديدة، إذ لا بد من أن يكون جوهر المطالب التي يطرحها الحراك واضحاً، من أجل تجاوز كل ميل للتأويل، يمكن أن يستشفّ من بعض وسائل الإعلام والتصريحات ومواقع الإنترنت التي تتّبع قوى طائفية، أو يمكن أن تستغلّ المنطق الطائفي. كذلك من الضروري أن يظهر هذا الخطاب الطائفي خطاباً «خارجياً»، ليس من صلب الشباب الذي قرّر التغيير، وأنّ الصراع هو صراع بين الطبقات الشعبية والسلطة بما هي حام لـ«رجال الأعمال الجدد» الذين نهبوا المجتمع حتى أفقروه.
لا بد إذن من التعبير عن «روح» الطبقات الشعبية، التي تعني النظام البديل الذي يتضمن حل مجمل مشكلات هذه الطبقات. هذا ما يجب أن يكون واضحاً، وأن لا يغطى بالميول الأصولية لدى بعض القوى، أو الليبرالية لدى البعض الآخر. فليس في أهداف تلك الطبقات ما يشير إلى تأسيس دولة دينية، رغم الثقافة الإسلامية التي تسكن قطاعات منهم، والتديّن الطبيعي الذي يسكن آخرين. ولذلك، لا بد من التشديد على الدولة المدنية، الدولة الديموقراطية العلمانية، التي تستند إلى إرادة الشعب، يكون الشعب هو مصدر التشريع فيها. هنا لم يعد الخلط مفيداً ولا ممكناً، فلا بد من تجاوز سلطة الحزب الواحد والزعيم الأوحد، كما لا يجوز الوقوع في تأسيس سلطة لا تنحاز إلى الإرادة الشعبية. في المقابل لا ينبغي حصر الثورة بمطلب الحرية، لأنّ الحرية هي اللحظة التي يجب أن يعاد خلالها توزيع الثروة بما يحقق المطالب الشعبية. وإذا كانت بعض النخب لا تحمل سوى حلم الدمقرطة واللبرلة، فإنّ المطالب الشعبية لا تتوافق مع ذلك، بل هي ضد اللبرلة على الصعيد الاقتصادي، ما دامت تطالب بحق العمل والأجر المناسب لعيش كريم، والتعليم المجاني والطبابة الفعلية، والضمان الاجتماعي، ولأنّ اللبرلة هي التي أوصلتها إلى الوضع المزري الذي تعيش فيه، ودفعتها إلى الثورة، مما أعاد صياغة جذرية للوضع الاقتصادي. تلك الطبقات مع الحرية والديموقراطية على أساس ذلك، وانطلاقاً منه فقط.
* كاتب عربي