حين شاركتُ في الاعتصام أمام السفارة السورية، ليل الثلاثاء الماضي، تضامناً مع أهلنا في سوريا الذين يتعرضون، منذ أواسط آذار/مارس الماضي، للقمع الدموي الشرس من جانب نظام بلدهم، كنت أتوقع أن يحصل، بالضبط، ما حصل على أيدي شبِّيحة السفارة بحق المعتصمين. فعند هذه الدرجة من شعور النظام المذكور بأنّه يحشر في الزاوية، وبعدما بدا واضحاً أنّه يخوض آخر معارك وجوده الطويل، والعَصيِّ على الاحتمال، من المفترض أنّه بات يصعب عليه أن يرى مدى الرفض الذي يُقابل به، ليس فقط من جانب الشعب، بل أيضاً من جانب كلّ المتضامنين مع هذا الأخير، ولا سيما حين يكون موقف كهذا، صادراً عن قوى تقدمية وديموقراطية، تنتمي لشعب سبق أن ذاق الأمرَّين، هو الآخر، خلال عقود من هيمنة النظام المذكور المخابراتية، الكريهة، على الدولة والمجتمع اللبنانيين.لم تمر دقائق قليلة على وجودنا الصامت بالمناسبة، مؤقتاً على الأقل، حتى شاهدنا مجموعتين من حَمَلَة صور الرئيس السوري تتقدمان من جهتين مختلفتين، واحدة من زقاق فرعي من شارع جاندارك، حيث مركز الحزب القومي السوري، والأخرى من زقاق آخر، متفرع من شارع الحمرا الرئيسي. وفقط حين وصلوا، وهم يُفَدُّون الأسد الابن «بالروح والدم»، على جاري عادتهم، بدأ المعتصمون، المتضامنون مع ضحايا نظام الاسد، يهتفون لأجل حرية الشعب السوري وتضامناً معه. ولم تنقضِ أكثر من دقائق معدودة، ربما ثمانٍ أو عشر، قبل أن يزداد سعار شبّيحة السفارة، بنحو ملحوظ، ويندفعوا نحونا بعدوانيةٍ قلَّ نظيرها، وقد ظهرت فجأةً معهم أدوات حادة متنوعة، ليس أقلَّها العِصِيُّ والسكاكين والكراسي التي استخدموها بأقصى العنف، ضد الجمهور المسالم الذي شكلت الفتيات نسبة هامة منه.
ومن الواضح أنّه لم يكن ثمة مجال لدى هؤلاء للصمود طويلاً، في مواجهة ما بدا أنّه قرار حاسم يتسلح به المهاجمون، سلفاً، يقضي بسحق المعتصمين، لثنيهم، وثني غيرهم ـــــ في ظن أصحاب القرار المشار إليه ـــــ عن تكرار هذا الشكل من التعبير عن الرأي، أمام السفارة السورية في بيروت. وبالتأكيد، فإنّه لم يكن ليتجرأ السفير السوري على اتخاذ قرار من هذا النوع، لو لم يكن يستقوي بحلفائه المحليين الذين حسموا أمرهم الى جانب النظام، ضد الشعب السوري. وبالطبع، إنّ ما حصل مساء الثاني من آب الجاري، في شوارع الحمرا، هو نذير شر مستطير، إذا لم يتمكن الحريصون على بقاء هذا البلد موطناً للحريات، من أن يتحوّلوا إلى جسم متراص، ومعادلة صعبة، في مواجهة الإنذار الذي مثَّلته هجمةُ مجموعاتٍ مسعورة. مجموعات شبيهة تماماً بتلك التي أطلقها النازيون في ألمانيا، في الثلاثينيات من القرن الماضي، والفاشيون في إيطاليا وإسبانيا، في الفترة نفسها تقريباً، ضد كل أحرار بلادهم، مع النتائج الكارثية، التي قد تترتب على ذلك، في غياب قوى منظَّمة، أو جاهزة للتنيظم وتمتلك الشجاعة الكافية لقطع الطريق أمام تطوُّرٍ بهذه الخطورة.
وهو أمر يستدعي، بالتأكيد، استنهاض كلّ القوى الديموقراطية الحيّة في المجتمع، ومعها جمهور واسع من المجموعات اليسارية، التي آثرت، إزاء بؤس أحزابها الأصلية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي اللبناني ـــــ وقد جبُنت قيادته حتى عن مجرد إصدار استنكار بسيط للجريمة المخزية التي ارتُكبت في الحمرا ـــــ أن تقف على الحياد، وتتفرج على ما يجري من بعيد، عاجزةً عن تقديم إسهام، مهما يكن متواضعاً، لأجل درء مخاطر زاحفة أطلقت نُذُرَها بصَخَبٍ، قبل أيام قلائل.
ونحن ننظر بالكثير من الجديّة إلى ما رأيناه نذير شر مستطير، ولا سيما حين نعلم أنّ بين الأوراق التي لم تستعملها السلطة في دمشق، إلى الآن، تفجير الوضع لدينا، بما قد تكون تظن أنّه يخدم مسعاها اليائس لإطالة حياة الدكتاتورية البشعة القائمة هناك، منذ عشرات السنين.
في غضون ذلك، لا ريب أنّه ستكون ثمة حاجة قصوى لاستخدام منبر القضاء ـــــ مهما يكن يأسنا من نزاهة هذا الأخير وشجاعته ـــــ في وجه مجرمي الحق العام الذين مارسوا بطشهم وفاشيَّتهم، ضدَّ معتصمي السفارة. ذلك، في الوقت نفسه الذي تحصل فيه أقصى درجات الفضح والتعبئة ضد المسؤول الأعلى للسفارة، كما ضد القوى الحزبية المحلية، الموجودة أصلاً في السلطة السياسية القائمة. قوى تقبل بأن تدفع بمحازبيها إلى ممارسة دور بالغ البشاعة، ضد مواطنين مسالمين، يؤمنون، على عكسهم، بأنّ إطلاق مقاومة حقيقية ضد إسرائيل وأميركا، وإعادة الاعتبار لمطلب تحرير فلسطين، يمر بتحرر الشعب السوري من سلطة امتنعت منذ 39 عاماً عن إطلاق رصاصة واحدة ضد الاحتلال في الجولان المغتَصَب.
أبعد من ذلك، إنّ الرد الأنجع على مسعى قوى مشابهة لإشاعة الذعر لدى مواطنين ومواطنات يصرون على تقديم دعمهم لإخوةٍ وأخوات لهم في سوريا، يكمن في الإعداد منذ هذه اللحظة، ومن دون توقف، لاعتصامات ومسيرات، تعطي صورة مضيئة عما تختزنه أفئدة شعبنا من مشاعر نبيلة، وتطلعات أصيلة إلى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية لكل الشعوب، وفي مقدمتها الشعب السوري العظيم.

* كاتب لبناني