على عكس ما يورده قول إنكليزي مأثور شهير، إنّ كلّ حياة سياسية لا تنتهي بالفشل، هي منيعة إن كانت تبرئ النفس من كلّ تهمة. ففي أوروبا ما بعد الحرب، يكفي التفكير في أول مستشار لجمهورية ألمانيا الاتحادية، أديناور، أو في رئيس الوزراء الإيطالي، دي غاسبيري، أو ربما على نحو أبلغ تعبيراً، في الجنرال الإسباني فرانكو. لكن صحيح أنّه في الظروف الديموقراطية، من النادر أن تفوق شعبية أحد الحكام في نهاية عهد طويل ما كانت عليه في بدايتها. ومن النادر أكثر ـــــ لا بل من شبه المستحيل ـــــ أن تعكس شعبية مماثلة تطرفاً في الحكم، لا استرضاءً أو اعتدالاً. يمكن حاكماً واحداً أوحد في العالم اليوم الادعاء أنّه حقق هذا الإنجاز، وهو العامل السابق الذي تنحى عن رئاسة البرازيل في كانون الثاني/ يناير الماضي حائزاً رضى ثمانين في المئة من مواطنيه. إنّ لويس إيناسيو لولا دا سيلفا هو أنجح سياسيي عصره، بكافة المعايير.يعود هذا النجاح إلى حدّ كبير إلى مجموعة استثنائية من المواهب الخاصة، هي مزيج من حسّ اجتماعي مرهف وحسابات سياسية دقيقة، أو كما تقول خليفته ديلما روسيف، مزيج من تقويم عقلاني وذكاء عاطفي، هذا من دون الكلام على مزاج مرح مفعم بالحياة وسحر خاص بالرجل. لكن هذا النجاح أتّى أيضاً، في الأصل، من حركة اجتماعية كبرى. فلم يكن ارتقاء لولا سلم السلطة ليتحول من عامل مصنع إلى حاكم لبلاده، مجرد نصر شخصي لا أكثر؛ فما مهّد له الطريق كان أبرز ثورة قامت بها نقابة عمال في السنوات الثلاثين الماضية. ثورة أدت إلى نشوء الحزب السياسي الحديث الأول في البرازيل، والوحيد لغاية الآن، الذي أصبح أداة هذا الارتقاء. فقد شكّل تزاوج الشخصية التي تتمتع بالكاريزما بتنظيم جماهيري يمتد على رقعة الوطن، مصدر قوة كبيراً.
ومع ذلك، لم يكن نجاح لولا محتماً. فبعد أن انتُخب في 2002، شهد نظامه بداية متعثرة، وكاد الوضع يصبح كارثياً، فنقضت السنة الأولى من ولايته، التي طغى عليها إرث سلفه الاقتصادي، كلَّ أمل أُنشئ على أساسه حزب العمال. ففي عهد سلفه فيرناندو أنريك كاردوسو، تضاعفت قيمة الدين العام ـــــ ونصفه تقريباً بالدولار ـــــ وبلغ عجز الحساب الجاري ضعف المعدل الذي تسجله دول أميركا اللاتينية، وتجاوزت معدلات الفائدة الاسمية العشرين في المئة، وفقدت العملة نصف قيمتها في الفترة التي سبقت الانتخابات. وفي ذلك الزمن، كانت الأرجنتين قد أعلنت حدوث أكبر عجز عن إيفاء الدين العام في التاريخ، فاعتبرت الأسواق المالية أنّ البرازيل تقف على شفير الهاوية نفسها. وإذ أراد لولا استعادة ثقة المستثمرين، عيّن فريقاً اقتصادياً يعتمد التوجه الاقتصادي التقليدي المتطرف في كلّ من المصرف المركزي ووزارة المال، فزاد من ارتفاع معدلات الفائدة وحدّ من الاستثمار العام لتحقيق فائض مالي أوّلي، تخطت قيمته تلك التي طلبها صندوق النقد الدولي. أما بالنسبة إلى المواطنين، فقد ارتفعت الأسعار ومعدلات البطالة مع تراجع النمو بنسبة خمسين في المئة. لكن ما بدا دواءً مرّاً للمناضلين كان عسلاً بالنسبة إلى حاملي السندات؛ إذ تبدّد شبح العجز عن السداد. وعاد النمو في 2004 مع انتعاش حركة التصدير، رغم من استمرار تزايد الدين العام وارتفاع معدلات الفائدة مرة أخرى. فأشار مؤيدو النظام السابق، الذين آلمتهم الانتقادات التي وجهها لولا إلى كاردوسو، بشماتة إلى أنّ الوضع يستمر على ما كان عليه في النظام السابق على أكثر من صعيد. وبالتالي، قليلة هي الأمور التي يستطيع حزب العمال البرازيلي التباهي بها.
لم يكُن هذا الوضع مشجعاً البتة، لكن تبيّن أنّ الآتي أعظم. ففي ربيع 2005، وفيما كان المجلس النّيابيّ يضمّ أكثر من اثني عشر حزباً صغيراً، تعرّض زعيم أحدها للضغط إثر تصوير مناصر من مناصريه مرتشياً، فردّ كاشفاً أنّ الحكومة تشتري أصوات النوّاب بطريقة منهجيّة مقابل مبالغ تصل إلى سبعة آلاف دولار شهرياً، لكلّ واحد منهم، بغية ضمان الأكثريّة في الهيئة التّشريعيّة. وكان جوزيه ديرسو، المكلّف شؤون الرئاسة في القصر الرئاسي، مسؤولاً عن هذه العمليّة، علماً بأنّ مصدر المال كان موارد ماليّة غير شرعيّة، يتولى حزب العمّال الإشراف عليها، فيما يهتمّ أمين صندوقه، ديلوبيو سواريز، بتوزيعها. وفي غضون أسابيع من تلك المفاجأة المذهلة، اعتُقل معاون شقيق رئيس مجلس حزب العمّال، جوزيه جينوينو وهو يركب متن طائرة وبحوزته مئتا ألف ريالٍ برازيلي في حقيبة سفر، ومئة ألف دولار في سرواله الداخلي. بعد شهر، اعترف دودا مندونسا، وهو رئيس حملة لولا الرئاسيّة، ورجل سيّئ السمعة في عالم العلاقات العامة، بأنّ الحملة موّلتها الرشى المستخلصة من مصارف ومؤسّسات ذات منفعة ذاتية، ما يُعَدّ انتهاكاً للقانون الانتخابيّ. وأضاف أنّه حصل هو نفسه على مكافأة مقابل خدماته، ألا وهي ودائع سريّة في حساب في الباهاماس. وتلا تلك الحادثة اضطرار لويس غوشيكن إلى التنحّي عن منصبه وزيراً للاتصالات، بعدما تعرّض لنقد لاذع جرّاء تبديده أموال صندوق التقاعد لغايات سياسية. ويُذكر أنّ غوشيكن كان أحد المؤتمنين على أسرار لولا السياسية، ورئيس الاتحاد العمّالي السّابق. وعلى خلفيّة أكثر سواداً رقدت جريمة القتل غير المحلولة التي اقتُرفت في مطلع 2002 وأودت بحياة سيلسو دانييل، وهو عمدة سانتو أندريه، معقل حزب العمّال، فيما سادت شكوك كبيرة في أنّه وقع ضحيّة قاتل مأجور، وأنّ للجريمة علاقة برشى، جُمعت من شركات باصات محليّة.
بينما مثّل الكشف عن نطاق الفساد الواسع وراء استيلاء لولا على السلطة صدمةً محبطة بالنسبة إلى معظم قاعدة حزب العمّال، يمكن وضعه ضمن منظور تاريخيّ، وهو ما سارع إلى فعله الموالون للولا. فقد شاع في الحياة السياسية في البرازيل أن يموِّل مانحون سرّيون الحملات الرئاسية على نحو غير شرعيّ، مقابل خدمات معيّنة. وقد وُجهت إلى رئيس حزب المعارضة الأساسي، وهو الحزب الديموقراطي الاشتراكي البرازيلي الذي ترأسه كاردوسو، التّهمة نفسها، فاضُطرّ إلى الاستقالة. هذا ولم يكن شراء الأصوات في المجلس النّيابيّ أمراً جديداً، فلم يُخفَ على أحد بتاتاً أنّ كاردوسو كان يرشو نوّاب ولاية الأمازون لكي يكفل التغيير الدّستوري الذي سمح له بأن يترشّح لولاية ثانية. ولطالما شكلت الهيئة التشريعيّة البرازيليّة مرتعاً للفساد وللانتهازيّة. ومع حلول نهاية ولاية لولا الأولى، بدّل بين ثلث نواب المجلس النيابي وأربعين في المئة منهم أحزابهم، أما مع اقتراب نهاية ولايته الثانية، فقد كان أكثر من ربع أعضاء مجلسَي النواب والشيوخ قد طالته لائحة اتهام، أو يواجه تهماً معيّنة. وفي شهر كانون الأوّل/ ديسمبر، زاد المشرّعون رواتبهم بنسبة اثنين وستين في المئة. وفي 2002، فاز لولا بالانتخابات بنسبة واحد وستين في المئة من التصويت الشعبيّ، فيما نال حزب العمّال أقلّ من خُمس المقاعد في المجلس النيابيّ؛ إذ كان من الضروري للحكومة أن تجد حلفاء لها، لكي تقود أكثريّةً نيابيّةً. أراد ديرسو عقد صفقة مع حزب الحركة الديموقراطيّة البرازيليّ، وهو الحزب الأكبر في الوسط، لكن عنى ذلك التّنازل عن وزارات مهمّة. ففضّل لولا أن يؤلف مع ديريسو تحالفاً مؤلّفاً من أحزاب أصغر، تملك قدرة أضعف على المساومة. إلاّ أنّها بالطبع توقّعت حصةً من الغنائم أيضاً، حتّى لو كانت بمستوى أدنى، وهكذا وُزّعت عليها «المنسالاو» أو الرشوة الشهريّة.
على المستوى النقدي، كان الفساد الذي أفاد منه حزب العمال، وأغلب الظن أنّه أشرف عليه أيضاً، أكثر تنظيماً من فساد أي نظام سابق. ففي المطلق، تأتي الانتخابات البرازيلية في المرتبة الثانية بعد الانتخابات الأميركية من حيث كلفتها فحسب، أما من حيث نسبتها إلى الدخل القومي، فهي تتخطاها بأشواط. ففي 1996، أنفق كلينتون مبلغ ثلاثة وأربعين مليون دولار للوصول إلى البيت الأبيض؛ وفي 1994 خصّص كاردوسو مبلغ واحد وأربعين مليون دولار ليضمن الوصول إلى بالاسيو دو بلانالتو، أو قصر النجد، وذلك في بلد يساوي فيه إجمالي الناتج المحلّي للفرد أقل من سدس قيمته في الولايات المتحدة. وعلى خلاف كاردوسو الذي شق طريقه مرتين إلى النصر في الجولة الأولى من الانتخابات بحكمه مرشح السلطة، وتمتع بدعم عدد كبير جداً من الحلفاء الطبيعيين ـــــ أو كما يقول البرازيليون، «الفيسيولوجيين» ـــــ والموظفين الحكوميين في الكونغرس، خسر لولا ثلاث مرات قبل أن يترشح مجدداً للرئاسة في أوائل 2002، ولم يكن حزبه بتاتاً موضع ثقة، بالنسبة إلى كل من له وزن اقتصادي في البلاد. فمن أجل التغلب على تلك العقبة الكبيرة، كان لا بدّ من بعض الموارد الاستثنائية التي تطلّبت بدورها بعض التعهدات الاستثنائية، العامة والخاصة. وبالفعل، من خلال مجموعة أصغر من النواب وعدد أقل من الأصدقاء العفويين في الهيئة التشريعية، اضطر حزب العمال إلى اللجوء إلى الرشوة على نطاق أكبر من أجل الحصول على أكثريات موقتة ضمن الكونغرس. ربما أمكن المرء أن يتحدث عن نوع من علاوات للعمّال، في الفساد كما في انحسار التضخم: هي حاجة إلى المبالغة في إرضاء صندوق النقد الدولي، من خلال فائض أولي مفرط للحفاظ على استقرار الاقتصاد، وإلى المبالغة في الاستحصال على مبالغ غير شرعية وتوزيعها بغية الوصول إلى الحكم وممارسة السلطة. وكان ذلك يمثّل على الأقل خطاً يُفتح أمام المدافعين عن الحزب. عملياً، تمثّلت الطريقة النموذجية للتقليل من شأن ما يحدث بالإشارة إلى النزاهة الشخصية، وفي بعض الحالات، إلى السجلّ البطولي لأولئك الذين ينفقون المال لغايات تنظيمية لا فردية. فقد عمل ديرسو، مهندس حزب العمال الحديث والمخطط الاستراتيجي لفوز لولا، سنوات عديدة في السرّ بعد عودته خلسة من منفاه الكوبي. وكان جينوينو محارباً في صفوف الميليشيا في الأدغال، واعتُقل وتعرّض للتعذيب على أيدي الجنرالات. أما غوشيكن، فقد ظل يعيش الحياة المتواضعة التي يحياها عضو سابق في الاتحاد العمالي. لقد عملوا بعيداً عن أي مكاسب شخصية. عملوا لضروريات القضية.
لم تؤثر تلك الأعذار في وسائل الإعلام. وبما أنّ الصحافة البرازيلية بكلّ أقطابها معادية لحزب العمال على أي حال، فقد بلغت أقصى درجات الحماسة عندما انكشفت فضيحة «المنسالاو»، ولم توفَّر أي تكهنات قاتلة أو تفاصيل مؤذية. لقد أصبح هدفها مكشوفاً تماماً أمامها. ولم يصدر نفيٌ بأنّ حزب العمال ادّعى دوماً أنّه فوق مستنقع العادات التقليدية وأنّه العدو اللدود للفساد المستشري، وليس متمرّساً خبيراً به. وسرعان ما تبدد حتى الفرق بين سوء الإدارة في المؤسسات والفساد الفردي، بطريقة دراماتيكية. كان الشخص الأقوى الوحيد في الحكومة وزير المالية أنطونيو بالوتشي، وهو عمدة إحدى محافظات ولاية ساو باولو، فهو من أوحى بتوجيه «الرسالة إلى البرازيليين»، رسالة الحب الانتخابية التي توجه بها لولا إلى مجتمع الأعمال، واضطلع كذلك بدور الوسيط الأساسي في الصفقات السرية التي عقدها حزب العمال مع المصارف وشركات البناء في خلال الحملة. إنّه دكتور غير لامع، لا يملك مهارات اقتصادية جديرة بالذكر، لكن علاقاته السرية بمجموعات غنية، وتوجهه نحو الاقتصاد التقليدي المتشدد في منصبه، جعلا منه ضمانة لثقة أوساط الأعمال بالحكومة، وموضع اهتمام كبير من الصحافة المالية، في الداخل والخارج. فلطالما مثّلت الصفقات المريبة في بلديته، في ريبيراو بريتو، مادة دسمة للشائعات، غير أنّه يمكن التخفيف من شأن تلك أيضاً، باعتبار أنّها تملأ صناديق الحزب وحده. لكن في أوائل 2006، تبيّن أنّ أحد مساعدي بالوتشي من ريبيراو بريتو قد استأجر قصراً منعزلاً يقع على ضفة بحيرة في برازيليا. وكمشهد من فيلم للمخرج الإسباني بونيويل، شوهد وزير المال بملامحه الشاحبة ـــــ يبدو كنشّال في لوحة وضيعة من القرن السابع عشر ـــــ يتسلل من سيارة الليموزين إلى البوابة، قبل أن يدخل إلى دارة لا تحوي غرفها إلاّ أسرّة وطاولات جانبية، ليوضع عليها المال والكحول. إلى هذا المكان، تردّد بتكتّم أفراد من مجموعات الضغط، ومقربون من الوزير، بغية الاستمتاع بالحفلات وبرفقة فتيات الهوى، وكانوا يتبادلون المعلومات السرية والخدمات. وعندما ذاع خبر بيت الدعارة، قال بعض الساخرين إنّ ما من سبب يدعو إلى الدهشة؛ إذ إنّ العاصمة بحد ذاتها هي أكثر بقليل من نسخة مكبّرة عن الواقع نفسه. لم يكن بالوتشي في موقف يسمح له بالسير في ذاك الخط، وقام بمحاولات يائسة لطمس القضية. أما لولا، فقد قارنه برونالدينيو، أي بالنجم الذي لا يتحمل الفريق خسارته، وسعى بشتى الوسائل لإنقاذه، ولكن من دون جدوى. ومع سقوطه في ربيع 2006، أصبحت لائحة أبرز السياسيين المحيطين بلولا نظيفة تقريباً.
أحدث ذلك ضجّة مدويّة في الإعلام. وراحت المعارضة في الكونغرس تطالب بلجنة تحقيق تلو الأخرى، وبدأ أعضاء بارزون من الحزب الديموقراطي البرازيلي بالحديث عن اتهام لولا شخصياً بالتواطؤ في فساد محيطه. وعندما شعر لولا بأنّ موجة التهجمات تلك قد سدّت عليه كلّ السبل، بدأ يتحدث سرّاً عن اللجوء إلى الشارع، إذا استمر أعداؤه في محاولات عزله. في الواقع، كان هذا الخطر مستبعداً؛ إذ إن كاردوسو وعمدة ساو باولو المنتمي إلى الحزب البرازيلي الديموقراطي، سيرّا، اللذين هزمهما لولا في 2002 وكانا يأملان أن يصبحا مجدداً مرشحيْ حزبه للرئاسة، في وقت لاحق من ذلك العام، قرّرا أنّ من الأفضل ترك رئيس حالته حرجة في منصبه، على المجازفة ببروز خصم قوي وعنيد، في حال إطاحته. نادراً ما تخطئ الحسابات السياسية بهذا القدر. فبعدما تعرّض لولا لحصار من الصحافة ولهجوم عنيف في الهيئة التشريعية، بقيت في حوزته ورقتان رابحتان لم تنقذا موقفه فحسب، بل بدّلتا وضعه أيضاً. تمثلت الأولى بعودة التحسّن الاقتصادي المستدام. فبعد فترة شهدت أسوأ ركود في القرن العشرين ـــــ بلغ معدل النمو السنوي 1,6 في المئة في تسعينيات القرن الماضي، ولم يتجاوز 2,3 في المئة في عهد كاردوسو الذي استمر ثماني سنوات ـــــ ازداد إجمالي الناتج المحلّي بسرعة بنسبة 4,3 في المئة ابتداءً من 2004 وحتى نهاية 2006. ويعزى هذا الارتفاع المفاجئ، في المقام الأول، إلى حظ سعيد وافاه من الخارج. فقد كانت تلك هي الفترة التي ارتفع فيها الطلب الصيني بشدة على أثمن سلعتين تصدرهما البرازيل، أي الصويا والحديد الخام، وسط ارتفاع حاد وعام في أسعار السلع. ففي أميركا، حيث تعمّد الاحتياطي الفدرالي إبقاء معدلات الفائدة منخفضة للحؤول دون انفجار الفقاعة المالية في الولايات المتحدة، وفّرت سياسة «غرينسبان بوت» المالية للبرازيل تدفقات من رؤوس الأموال الواردة الزهيدة. ومع تحسّن أوضاع الأعمال والوظائف، تغيّر المزاج في البلاد. فقليلون هم المقترعون الذين كانوا مستعدين لإنكار ادعاءات الجهات الرسمية التي تنسب التحسن إلى نفسها. وفضلاً عن ذلك، أصبحت الدولة الآن تحصل على مداخيل أكبر نتيجة هذا التحسّن، وهذا هو العامل الأساسي بالنسبة إلى ورقة الحكومة الرابحة الثانية.
تعهد لولا بمساعدة الفقراء منذ البداية. كان لا بدّ من توفير الراحة للأغنياء والأقوياء، ولكن يجب محاربة البؤس بجدية أكبر من السابق. ونتيجة سوء الإدارة، باءت بالفشل محاولتُه الأولى التي تمثلت بخطة للقضاء على الجوع عبر توفير الحد الأدنى لإعالة كلّ برازيلي. أما في سنته الثانية، ومن خلال دمج عدة برامج جزئية وُضعت من قبل وتوسيع رقعة تغطيتها، أطلق برنامج الرعاية الاجتماعية «بولسا فاميليا» الذي يرتبط اسمه به الآن، لا محالة، وهو يقوم على تحويلات نقدية شهرية توفَّر لأمهات ينتمين إلى أدنى طبقات المجتمع المحدودة، الدخل مقابل إثبات أنّهن يرسلن أطفالهن إلى المدارس ويخضعنهم لمعاينات طبية. إنّ المبالغ المدفوعة قليلة جداً ـــــ حالياً، اثنا عشر دولاراً لكلّ طفل أو بمعدل خمسة وثلاثين دولاراً شهرياً ـــــ تدفعها الحكومة الفدرالية مباشرة، قاطعة بذلك الطريق على الفساد الإداري. ويطال هذا البرنامج حالياً أكثر من اثني عشر مليون أسرة، أي ربع عدد السكان. هذا وتُعَدّ كلفة البرنامج الفعلية ضئيلة جداً، لكن تأثيره السياسي هائل، لا لأنّه ساعد، ولو قليلاً، على الحدّ من الفقر وتشجيع الطلب في أكثر مناطق البلاد بؤساً فحسب؛ فالرسالة الرمزية التي ينقلها لا تقل أهمية عن تأثيره: إنّ الدولة تهتم بالبرازيليين كافة، مهما كانوا بائسين أو مظلومين، باعتبارهم مواطنين يتمتعون بحقوق اجتماعية في بلادهم. وأصبح ارتباط لولا الوثيق بهذا التغيير في ذهن الشعب أصلب ورقة سياسية رابحة يمتلكها.
مادياً، كانت أهمية سلسلة الزيادات السخية على الحد الأدنى للأجور أكبر بأشواط. فقد بدأت تلك الزيادات بالتزامن مع ذيوع أنباء الفضائح. ففي 2005، بلغت الزيادة الفعلية ضعف ما كانت عليه في العام السابق. وفي 2006، عام الانتخابات، ارتفعت قيمتها أكثر فأكثر. وبحلول 2010، بلغ معدّل الزيادات المتراكمة خمسين في المئة. ومع ذلك، يبقى مبلغ ثلاث مئة دولار في الشهر أقل بكثير من أجر أي عامل تقريباً من العمال النظاميين. لكن بما أنّ المنح قد أضيفت إلى الأجر الأدنى، عادت زيادته المطّردة بفائدة مباشرة على ثمانية عشر مليون شخص على الأقل ـــــ وعزز مكاسبَهم قانونُ الشيخوخة الذي أُقرّ في عهد لولا. كذلك، شجعت الزيادة بنحو غير مباشر العمال في القطاع غير النظامي الذي لا يشمله المعدل الرسمي، وهم يؤلفون أغلبية القوة العاملة البرازيلية، على استخدام الحد الأدنى معياراً لتحسين ما يمكنهم الحصول عليه من مستخدِميهم. وتعززت تلك التأثيرات بفضل إدخال قروض الإيداع في مرحلة مبكرة، وهي عبارة عن قروض مصرفية لمشتريات الأسر تُمنح لمن لم يملكوا حساباً مصرفياً من قبل، ويكون التسديد عبر اقتطاع القيمة تلقائياً من الأجور الشهرية أو المعاشات. معاً، أحدثت التحويلات النقدية المشروطة، والحد الأدنى الأعلى للأجور، والطريقة الجديدة للحصول على القروض زيادةً مستدامة للاستهلاك الشعبي وأدت إلى توسّع السوق المحلي الذي أنشأ أخيراً فرص عمل إضافية بعد فترة قحط طويلة. لقد حقق النمو الاقتصادي الأسرع والتحولات الاجتماعية الواسعة النطاق مجتمعَين أكبر خفض لنسبة الفقر في تاريخ البرازيل. وتشير بعض التقديرات إلى أنّ عدد الفقراء قد انخفض من نحو خمسين إلى ثلاثين مليون فقير، في ست سنوات، أما عدد المعوزين فقد انخفض بنسبة خمسين في المئة. ويمكن نسب نصف هذا التحوّل الدراماتيكي إلى النموّ، والنصف الآخر إلى البرامج الاجتماعية التي تموّلها مداخيل أعلى ناتجة من النمو. ولم تقتصر البرامج المماثلة على دعم المداخيل. فمنذ 2005، ازداد إنفاق الحكومة على التعليم بمقدار ثلاثة أضعاف، وتضاعف عدد طلاب الجامعات. وفي خلال تسعينيات القرن الماضي، لم يعد التعليم العالي مهمة حكومية في المقام الأول مع انتساب ثلاثة أرباع مجموع الطلاب إلى جامعات خاصة أُعفيت من الضرائب. وقد أُجبرت تلك الجامعات بذكاء على أن تقدِّم، مقابل العفو الضريبي، منحاً دراسية لطلاب منحدرين من عائلات فقيرة أو من غير العرق الأبيض، ما كانوا ليتمكنوا من تحصيل أكثر من المستوى التعليمي المتوسطي، لولا ذلك. مهما كانت نوعية التعليم متدنية ـــــ وغالباً ما تكون رديئة جداً ـــــ لقد جعل الأملُ بالتحسين هذا البرنامجَ، الذي يضم نحو سبع مئة ألف طالب حتى الآن، يحقق نجاحاً شعبياً عظيماً، وقورن أحياناً بقانون حقوق الجنود الأميركيين في حقبة ما بعد الحرب، وذلك من جهة سهولة الوصول إلى تقديماته. في 2006، لم تكن هذه الأمور قد أُنجزت بأكملها بعد، بل تحقق ما يكفي لحماية لولا من تهجّمات أعدائه. لم يكن الرأي العام غير مكترث تماماً بمسألة الفساد، ففي أوج فضيحة «المنسالاو» تراجعت شعبيته بشدة. ولكن لم يظهر اكتراث كبير بالرشاوى مقارنة بمثل تلك التحسينات الكبيرة التي أُدخلت إلى حيوات الناس. وبحلول الربيع، انقلبت المقاييس تماماً، لدرجة أنّ سيرّا، وبعد الاطّلاع على استطلاعات الرأي، قرر أنّه لا يملك أدنى فرصة للفوز أمام لولا، فترك منافساً عاثر الحظ في الحزب يتعرض لهزيمة نكراء في الانتخابات الرئاسية في خريف 2006، عندما حصد لولا الأكثرية عينها التي حصل عليها منذ أربع سنوات، أي 61 في المئة في الجولة الثانية، بيد أنّ التركيبة الاجتماعية لتلك الأكثرية اختلفت هذه المرة. فتحت تأثير فضيحة «المنسالاو»، تخلّت عنه أغلبية الناخبين المنتمين إلى الطبقة الوسطى الذين أيدوه في انتخابات 2002، فيما صوّت له الفقراء والمسنّون بأعداد أكبر من أي وقت مضى. كذلك لعبت حملته على وتر مختلف؛ فقبل أربع سنوات، عندما هدفت الحملة إلى طمأنة مقترعين مرتابين، صوّره مديروها على أنّه حامل «السلام والحب» لبلاده. أما في 2006 فلم تعد اللهجة بهذه العذوبة؛ فبعدما تجاهل الرئيس أخطاء حزب العمال التي كان يدركها طبعاً، شنّ هجوماً مضاداً عنيفاً على عمليات الخصخصة التي قام بها النظام السابق، فأثْرت البعض على حساب الدولة، وكان يُتوقَّع استئنافها إن انتُخب خصمه. وتجدر الإشارة إلى أنّ الفرق شاسع بين حكومتَي لولا وكاردوسو؛ إذ لم تُخصّص أي شركة في عهد لولا. فلم يكن التصرف بأصول الدولة، وغالباً بأبشع الشروط، يحظى بشعبية في البرازيل. لقد أصابت الرسالة وتراً حساساً.

* أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، عن مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس»
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)