في المرة الأولى، سلمت الجرّة. أما في المرة الثانية، فانتهى بي المطاف موقوفة على الحدود اللبنانية مع كتاب من الأمن السوري الحدودي، «مطرودة وممنوعة من الدخول لأسباب أمنية». وحتى الساعة، لم ينقذني بعد وزير الإعلام، بل هو ووزارته طلبا مني الرحيل قبل أن ينفّذ رجال المخابرات مشيئتهم. ولم تستجب لمناشدتي لجنة إعداد قانون الإعلام الجديد، أو لم يُسمح لها.يوم الاثنين 11 تموز طفح الكيل من نشاطي ومقالاتي «الوقحة» من دون إذن وزارة الإعلام. كنت في سيارة صفراء أخرى في طريقي إلى فندق الشام للقاء رسام الكاريكاتير علي فرزات. رنّ الهاتف، رقم غريب: «ممكن أن نراك لعشر دقائق فقط، اعتبريني موظفاً رسمياً». قلنا: «أكلناها». بدأت جبهتي تتعرّق وأفكر في السيناريو المقبل. كنت حينها أتلقى اتصالات تهديد غريبة وأسمع صدى صوتي بسبب التنصّت. كان محل الإنترنت في حارتنا في باب شرقي قد طلب مني عدم استخدام أجهزته؛ لأن تنبيهاً أمنياً أتاه. كان وهم الأمن قد بدأ يلاحق خطواتي جميعها من البيت إلى المقهى إلى دور المعارضين إلى لجنة الإعلام. كنت أشعر بخطواتهم خلفي.
حل على طاولتي المخابراتي: أنا المقدم فلان الفلاني من جهاز المخابرات، رسالة المعلم «خففي عنّا شوي». تسلمت الرسالة ورددتها بوقاحة وانتهى فنجان القهوة المتوتر. لم أعلم ما الذي كان عليّ أن أفهمه، كما لم أكن أعلم أي جهاز هو هذا، وأي مخابرات وماذا تعني تلك الرسالة.
توجّهت بارتياح إلى الطاولة الأخرى حيث جلس الرسام الكبير، وأخبرته كما أخبرت جميع أصدقائي أن مقدماً أبلغني رسالة. بعضهم نصحني بالمغادرة، لكنني أصررت على البقاء في دمشق.
في اليوم التالي، اتفقت مع صديق مفكر من السلمية، على أن أسافر معه بحثاً وأملاً بالوصول إلى حماه. من دمشق إلى السلمية فحماه، تغطية صحافية أخرى بمساعدة أصدقائي من أهل المدينتين. نشرت المقالة في اليوم التالي، حجبت الجريدة وتلقيت اتصالاً من «مسؤولة العلاقات العامة» في وزارة الإعلام. طلبت مني المغادرة ولقيت رداً وقحاً «لن أرحل عن بيتي وأصدقائي تلبية لرغبة أحد، فلتأتي القوى وترحّلني». لم تكذب الإعلامية خبراً.
مر الوقت العصيب بهدوء نسبي، توجهت إلى لجنة الإعلام وقلت إن الوزارة طلبت مني الرحيل إلى بيروت لأنني أعمل من دون ترخيصها. لم تستطع لجنة إعداد القانون أن تحميني. صباح اليوم التالي، عاد الرقم الذي سجلته على الهاتف «مخابرات». رنّ هاتفي وأنا أتسلم فنجان القهوة من يد زوجة ميشال كيلو. أجبت الهاتف.
«ماذا؟ أتريد اعتقالي؟»، أجابني مقدّم المخابرات: «لو كنت أريد اعتقالك لجئتك على الجزماتية (الميدان) أو ربما حين كنت في برزة». كان يراقبني طوال يوم الجمعة. «حسناً، سآتي». للصدفة، إن فرع المخابرات ذلك كان قريباً من بيت ميشال كيلو في شارع بغداد. نصحني الأستاذ ميشال بأن أترك حاسوبي في منزله، وأن أذهب لأرى ما يريدونه مني. كفكف دموعي وطمأنني. وصلت، وبشّرني المقدّم: «على الأرجح سي<ري ترحيلك ومنعك من الدخول». جن جنوني مجدداً. ففي صباح ذلك اليوم، كنت أظن أن بعض المعارضة وحدها تهاجمني وأن النظام مهما فعلت، لن يستجيب لها. كيف سيتفق مع معارضيه؟ ثم إن التلفزيون السوري كان يردد اسمي ويعرض جزءاً ضيّقاً من مقالتي. «كيف يستعين بها، ويرحلني بسببها؟».
علمتني اللقاءات الدمشقية أن بعض المعارضة كما بعض النظام. كنت أؤمن بقانون الصدق السوري: اِكره الجميع وأحب سوريا الصادقة، بعيداً عن السياسة. انظر إلى المتظاهر لا إلى العرعور، انظر إلى الدولة وسيادتها لا إلى النظام وسيطرته. انتقِ ما تحب وما تكره من الجميع، ذاك يريح الضمير أمام مشهد العصفورية السورية. لم أكره المقدم الذي رحلني، فقد كان يستمع، لكنني كرهت «المعلم» كره الشياطين.
أعطاني المقدم أملاً: حالاً يراك «المعلّم» ويقرر. في الطبقة الثانية كان المعلّم بانتظاري، لا ليسمعني بل لأسمعه. ولم يكن سيعدّل قراره. كان معه على الهاتف «سيدنا» آخر مجهول، يتابع تفاصيل عقابي. كان واضحاً أن القرار محسوم.
في تلك الغرفة مفروشات باهظة وصور كثيرة وعلم بعثي، ورجل مستفز خلف مكتب مليء بالهواتف. سمين أسمر بشعر أبيض، تحته آلة لتدليك القدمين. طلب الجريدة من معاونه، حمل قلمه الأصفر وأخذ يعلّم «كلمات لا تجوز». لوّن المقالة بالأصفر، نادى للمقدم مرة أخرى: «تعامل معاملة موقوفة حتى الحدود مع منع دخول، يللا روحي».
نظرت إليه وإلى آلة تدليك قدميه المستفزة. «كيف ستمنعني من بلدي؟»، رد بعينين مستديرتين وصوت ضخم: «هذا بلدي أنا»، مشيراً بإصبعه إلى صدره. بكيت، وبكيت، وبكيت عالياً وغضبت وخبطت يدي على الأبواب والطاولات. بلا جدوى!
عدنا في المقعد الوسطي الخلفي بين أربعة رجال، إلى غرفتي في باب شرقي. هذه المرة لم أكن أخجل، كنت أمشي كعلامة استفهام كبرى مع دموعي. كل شيء حدث سريعاً قبل أن يتسنى لي ابتلاعه. بينما توجهنا لترحيلي، ذهب أحدهم إلى منزل كيلو، وأتى بحاسوبي.
صعدت والمقدم إلى غرفتي. حزمت أمتعتي وأوراقي بإشرافه. انطلقنا مرّة أخرى نهائية. مع احترام وهدوء ومعاملة حسنة. غنيت في سيارة الأمن وبكيت وضحكت «يا مال الشام».
في هذه السيارة لم يكن للصمت مكان. كانت رحلة أخيرة. لم أكن في حالة عصبية تراعي أحداً، شتمت وأنبت الرجال «أنتم سبب سقوط نظامكم». وتمتمت بالأسماء الكبيرة شاتمة. لم يفعلوا لي شيئاً. كانوا يضحكون ويصمتون. وأحياناً يتمنّون بتعاطف «انشالله بترجعي». هناك أيضاً في تلك السيارة، أصبح لي أصدقاء تفهّموني.
وصلت معهم إلى الحدود، انتظرت الكتاب الذي سيرافقني إلى لبنان: «مرحّلة لأسباب أمنية». ثلاث ساعات عند الأمن اللبناني لتوضيح أن الأسباب الحقيقية صحافية لا أمنية وللتوقيع على «سند إقامة». حتى الساعة لم ينقذني وزير الإعلام ولا لجنة إعداد قانونه، ولا المخابرات «باعتباري شبيحة» ولا المعارضة «باعتباري مندسة». حتى الآن ممنوع على صحافي يعدّ نفسه سورياً أن يدوس أرض بلاده.