إضاعة الفرص هي أسوأ ما يمكن أن يقع لراسمي السياسات، وخصوصاً إذا كان من شأن ذلك، التأثير في مصير وطن وشعب. في التاريخ المعاصر، مثّل انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته، المثال الأبرز على النتائج الكوارثية لإضاعة الفرص. لبنان أيضاً يواصل كونه مختبراً دراماتيكياً للفرص الضائعة.لنبدأ، أولاً، من أنّ الفرص المؤثرة التي لا تتكرّر إلا قليلاً. ويتطلّب التقاط الفرص تلك، حضوراً متقداً للذهن، وتصميماً فورياً على اتخاذ القرار، ومن ثمّ وضعه موضع التنفيذ، دون تردّد أو إبطاء، ودون تراجع أمام المعوقات والصعوبات والأثمان. في ترجمة ذلك، يمكن مراجعة تاريخ تلك المرحلة التي حصلت فيها جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005. يومها وجّهت اتهامات حاسمة بالمسؤولية إلى السلطة السورية، وحليفها النظام السياسي ـــــ الأمني اللبناني. أطلقت شعارات ورفعت صور ومطالب، وتجمّع مئات الآلاف لدعم هذا التوجّه.
في غضون شهرين ونصف شهر تقريباً، تحقّق ما يشبه المعجزة: انسحب الجيش السوري من لبنان في السادس والعشرين من نيسان. سقطت الحكومة اللبنانية المتعاونة مع سوريا. زُجّ برموز السلطة الأمنية في السجون، وبرئيس الجمهورية، آنذاك، العماد إميل لحود، في العزلة والحصار والإدانة. حصل ذلك وسط دعم أميركي وغربي وعربي، لا مثيل له، بما وفّر الشرط الأهم لتحقيق ما تحقّق ولحماية ما أُنجز دون أيّ تهديد جدي له، لا من داخل لبنان ولا من خارجه. هنا تكوّنت لحظة تاريخية، أي فرصة من نوع قليل، بل ونادر: أنّ يعلن فريق 14 آذار انتصار «ثورة الأرز» الكامل، وفتح صفحة جديدة من العلاقة بين اللبنانيين، ومن علاقة اللبنانيين بالعالم. مثل هذا الإعلان كان يقع تماماً في امتداد الأحداث وتتويجاً لها. وكان يمكن أن يُقال، إنّ دم الحريري ورفاقه قد حرّر لبنان، وإنّ لبنان منذ الآن فصاعداً قد أصبح بلداً مستقلاً، حراً، وغير منقوص السيادة.
بدلاً من ذلك، أي بدلاً من السعي إلى استعادة الوحدة بين اللبنانيين، على أساس نبذ العنف والإرهاب والكف عن الارتهان للخارج، جرى تكريس وتعزيز الانقسام بين اللبنانيين. كذلك نُقلت مرجعية الوصاية من الطرف السوري إلى الطرف الأميركي، كما جرى تدويل التحقيق ارتباطاً بأهداف ومصالح وآليات خارجية، تسيطر عليها، أساساً، مرجعية الوصاية الجديدة، ممثلة بإدارة جورج بوش الثاني وفريقه الحاكم من «المحافظين الجدد».
لقد ضاعت، إذاً، فرصة لتوحيد اللبنانيين بعد انقسامهم المزمن.
وضاعت فرصة أن يتوحّدوا أيضاً ضدّ القصور الذاتي والوصاية الخارجية، بعدما خضعوا طويلاً للانتداب والارتهان والأمن المستعار... وكان من شأن التوحّد في إحدى نتائجه الطبيعية (والسريعة ربما)، إعادة الثقة بمؤسسات الدولة، ومنها القضاء، بما يحول دون أن يدوّل هو الآخر، ويخضع لبازار المصالح الفئوية الدولية والإقليمية والمحلية، كما يحصل حالياً.
وكان من شأن ذلك أيضاً وأساساً، انطلاق مسيرة استقرار في لبنان، مبنية على عواملها الطبيعية المحلية، لا مرهونة بتسويات مؤقتة ومفخخة، تقرّرها مصالح الخارج وموازين القوى فيه، وهي عموماً مصالح تعمل، تماماً، عكس ما تمليه المصالح الوطنية اللبنانية والمصالح القومية التحرّرية للشعوب العربية.
ولن نبالغ أيضاً إذا قلنا، إنّ تصرّفاً كالذي كانت فرصته متوافرة، كان ينطوي كذلك على احتمال راجح للخروج من أزمة العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، إلى حالة من التطبيع الضروري والتوازن والتعاون الإيجابيين، بما يوفّر كلّ تلك الأزمات والأثمان التي دُفعت بسبب تردّي العلاقات بين الطرفين، وبسبب إقامتها على خلاف ما ينبغي أن تكون عليه من أسس سليمة وأخوية وإيجابية ومتوازنة.
نتذكّر جميعاً ما حصل، واقعياً، في تلك المرحلة. ويجب التأكيد اليوم، وبمناسبة الذكرى الخامسة لعدوان تموز على شعب لبنان في 2006، أنّ لبنان انتقل في علاقاته الداخلية والخارجية، من سيّئ إلى أسوأ. ويجب القول إنّ حرب تموز ما كان لها أن تقع، بتلك الوحشية والضراوة والإجرام، لو لم يكن لبنان الرسميّ آنذاك، قد ارتبط كلياً بالحسابات الأميركية في المنطقة، وهي حسابات تقع في رأس أولوياتها إقليمياً واستراتيجياً، خدمة المصالح والسياسات الإسرائيلية، حتى في أكثر صورها تطرّفاً، كما هو الوضع الآن.
وفي توضيح ذلك، يمكن القول، إنّ تعاظم ارتباط السياسة الرسمية اللبنانية بالسياسة الأميركية، وهو ما عُبّر عنه بمدائح لا سابق لها لسياسة ولشخص الرئيس فؤاد السنيورة، قد أتاح استخدام لبنان في استهداف النظام السوري، وفي الصراع الدائر في المنطقة على نحو عام. لم يخرج لبنان من الصراع الإقليمي، وفق ما كان يرفع البعض من شعارات ومطالب، بل هو انخرط فيه دون ضوابط أو حسابات أو حدود. وكان هذا الانخراط من الباب الأسوأ، إذا ما انطلقنا، في تحديد الخطأ والصواب، من حسابات المصلحة الوطنية اللبنانية والمصلحة القومية العربية. وكان التحقيق الدولي أبرز تلك الأدوات والحسابات الخاطئة. واستعادة بعض مسار هذا التحقيق، تقودنا بسهولة إلى ما شهده من مفارقات وعجائب، وإلى التوظيف السياسي المتواصل لدوره في الصراع السياسي الدائر في لبنان وفي المدى الإقليمي.
ونقع في سياق مسار التحقيق الدولي على محطات بائسة من التراجع عن الاتهامات وتقديم الاعتذارات والاعتراف باعتماد شهود زور... ولحس مرحلة كاملة من بناء الاتهامات والمواقف والعلاقات، مع كلّ ما رافق ذلك من خسائر داخلية، ومن ضحايا، ومن أثمان عامة وخاصة... ليعود أصحاب هذه التقلبات أنفسهم إلى تكرار مواقف سابقة أو جديدة وفق ما تمليه حسابات خارجية أو إقليمية، لا وفق ما يفرضه هاجس التفتيش عن الحقيقة والعدالة.
إنّ لبنان يدخل اليوم مرحلة جديدة من الاستعصاء والتوتر والانقسام. وتتقدّم عناوينَ الصراع مسألتا المحكمة والسلاح قبل سواهما. وهذان الموضوعان، إذ يحجبان عناوين أخرى مهمة كبناء الدولة المستقلة والحصينة، وإقامة مؤسساتها على أسس المساواة والعدالة، ومعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يدفعان الوضع الداخلي إلى شتّى المخاطر. فليس ثمّة حوار حالياً بين اللبنانيين. ومرّة جديدة، يتعمّق التطرّف في التعبير عن المواقف، ويزداد الارتهان للخارج، وتتعدّد المخاطر على لبنان في منطقة يتقدّم فيها سلاح التفتيت المذهبي على ما عداه، لتحقيق أهداف قديمة جديدة للسيطرة الاستعمارية على مصائرها وثرواتها جميعاً.
هل ما ذكرناه، يكتسب أيّ أهمية فعلية الآن، وهل يتعدّى ذلك مجرّد التمنيات أو «الأستذة»، بعد فوات الأوان. الواقع أنّ أهميته تكمن في استخلاص الدروس. وهذه المرة فريق الأكثرية الجديدة، هو من يجب أن لا يضيّع فرصة سنحت اليوم، من خلال تولّيه السلطة في البلاد. والفرصة هي في المبادرة إلى اعتماد مشروع لبناء الدولة، أي لبناء الوطن الموحّد والمستقل والحصين والمستقر.
إنّ إنجاز المقاومة يكاد يضيع اليوم في مهبّ صراعات وانقسامات النظام السياسي الطائفي. وميّزة بعض مناخ الحريات والتنوّع والتداول ينكشف زيفها، وخصوصاً في أجواء التحوّلات والانتفاضات العربية المتواصلة. تستطيع قوى الأكثرية الجديدة، وهي ترفع شعارَيْ محاربة الفساد وتحصين لبنان في وجه الانتهاكات والتهديدات الإسرائيلية، أن تحوّل وجودها في السلطة إلى بداية خلاص للبنان وللبنانيين.
الفرصة اليوم يخلقها المناخ المتحوّل في سوريا والمحيط العربي، وهاجس الدفاع عن المقاومة، وواجب إنقاذ لبنان من الخلل القاتل القائم في نظامه السياسي، ونقله إلى فضاء التماسك والاستقرار والازدهار.
* كاتب وسياسي لبناني