هل كان ممكناً، لو أنجبت سيمون دو بوفوار من جان بول سارتر، أن يحمل الابن الافتراضي اسم الأم لا اسم الأب؟ حسناً. يبدو هذا سؤالاً مستفزاً جداً، بل يبدو هزلياً إلى حدّ بعيد، خصوصاً أنه يأتي بعد عقود على رحيل الفيلسوف الفرنسي. لكن، ماذا لو حسبنا أن «الوجودية» هي ذلك الطفل الفريد ما دمنا، في الشكل والمضمون، نتحدث عن كاتبين وجوديين طليعيين، إن لم يكونا الأولين؟ لا مفر من الإجابة، سيحمل الابن اسم الأب. ستبقى الأم أماً أمينةً على نشأة الابن. وهذا ليس انتقاصاً أو إهانةً لدو بوفوار، أو للمرأة. هذه حقيقة تاريخيّة ثابتة. والسؤال هنا، لم يتسلل من فراغ أو بغرض اللهو. هذا سؤال اسقاطي، قد لا يكون جائزاً، لكنه مقبول، إذا توسطت أسماء الأمهات أسماء الأبناء على صفحات «الفايسبوك». وقد أضرت الخطوة أكثر مما نفعت، إذ استنهضت جيوش «التكفير» الذكورية ضد المرأة من الأساس، لا ضد حقوقها وحسب. لقد كانت خطوةً... ناقصة!في الشكل، الحراك النسوي اللبناني ليس مُقنعاً، بل يبدو مقنّعاً بالقشور. تلك القشور التي تنصرف إلى حصر «أزمة» المرأة في إطار بيولوجي ضيّق، ترفع فيه الرموز على القمصان، أكثر مما يسلط الضوء على دور المرأة بما هي فرد. هذا، رغم أنّ رائدة النضال النسوي، سيمون دو بوفوار نفسها، لفتت في أشهر مؤلفاتها، «الجنس الآخر»، إلى أنّ المعطيات البيولوجية التي حصرت «مفهوم» الذكر والأنثى بالأعضاء التناسلية ليست مبرراً لاعتبار المرأة هي الجنس الآخر، وتالياً، لا يمكن تقرير مصير المرأة النهائي استناداً إلى تلك المعطيات. المرأة فرد وليست امرأة. وقد استندت الكاتبة الفرنسية، لتعليل فردية المرأة، إلى تعليق شهير لسيغموند فرويد على مسألة «السلوك»، بوصف الأخير ناجماً عن الرغبة، إضافةً إلى أنّ العالم النمسوي يرى أنّ «مركّب النقص عند المرأة هو حرمانها من العضو الذكري بوصفه رمزاً للامتيازات الممنوحة للذكور». المرأة ليست جنساً آخر، فلماذا إصرار الحركات النسوية على وضعها في هذه الخانة؟

هدية مجانيّة للذكوريّة

من خلال «جولة» قصيرة على النسويين اللبنانيات، يبدو تأثير سيمون دو بوفوار على هذا التيار اللبناني جلياً، بل يكاد معظمهن، في رد فعلٍ موازٍ للذكورية، من ناحية «التطرف الجندري» لا يعرفن من منظّري تحرر المرأة سوى جليسة سارتر ـــــ الوجودية ـــــ في المقهى الباريسي. لكن اللافت أنّ أولى الصرخات الناشدة لهذا التحرر جاءت من فرنسا أيضاً، وكانت ثمرة جو ليبرالي أرساه جان جاك روسو. لقد أرسى المفكر الفرنسي أولى دعوات المساواة بين الجنسين على قاعدة التساوي العام بين جميع المواطنين في الحقوق. الواقع أنّ الليبرالية «الروسوية» (نسبة إلى روسو) عقلنت النظرة السائدة إلى المرأة، وأسست لحصولها على فرديتها لاحقاً، في خط مواز لتهشيم الواقع البورجوازي المتفوق في أوروبا آنذاك، الذي كانت المرأة البورجوازية فيه، للمناسبة، أكثر حقوقاً من النساء الأخريات. ورغم أنّ الليبراليين كانوا من المؤسسين، حتى النسويون منهم، عقدوا الصفقات مع «الذكورية الليبرالية» لاحقاً. فبعد تغيرات الحربين العالميتين، انفرط العقد الاجتماعي، وامتزج بـ«ضرورات» المرحلة الجديدة. وهكذا، يؤخذ على دعوات الليبراليين إلى إشراك النساء في الاقتصاد، أنّها كانت دائماً على قاعدة التماثل لا المساواة. وهذا ما أدى إلى مضاعفة النظرة الدونية إلى النساء، بوصفهن تابعاً، أو مقلداً، لا أصلاً موازياً. وتلك النقطة هامة، لمقاربة ليبرالية الحراك النسوي اللبناني، مع الفارق في الزمان والمكان. القصد هنا، في التماثل، أو التطابق، الذي يصوّر الرجل على هيئتين: محتلّ لمكانة أخرى إلى جانب مكانته في المشهد السوسيولوجي العام، أو منافس مفترض في الموقع الاجتماعي، فيأخذ الصراع شكلاً جندرياً يشتهيه الذكوريون. عملياً، يحب الذكوريون الخوض في المقارنات الجندرية، وقد يحلو لهم ذلك كثيراً، إذ عرفوا أنّ ملصق الدعوة التي وجهتها احدى الجمعيات النسوية أخيراً، إلى إطلاق حوار عن «آلية دعم قانون العنف الأسري» يصوّر رجلاً تضربه سيدة (وهذا عنف وأسري أيضاً)، ذلك عوضاً عن التصويب على مكامن الضعف، في النقد الموجه إلى القانون. لا دراسة واحدة حتى الآن، تثبت علمياً، «دونيّة» المرأة، في الإسلام، أو في مشارب المعترضين الإلهيين. وهذا ما يشتهيه الذكوريون تماماً: النقاش الجندري العقيم، الذي يبتعد تدريجاً عن العقلانية، وتالياً، الفردانية، ما يعيد المعضلة إلى نقطة الصفر، وهذا خطأ كبير.

الحراك في إطاره الصحيح

عملياً، لا ينبغي اخراج التمييز الجندري عن السياق المجتمعي العام، كما تجري الأمور هنا. فالحراك النسوي هو انعكاس بديهي، ومؤشر قياسي إلى تقدم المجتمعات نحو الفردية، وليس مشكلة يمكن حلّها عبر عزلها عن المشكلات البنيوية الأخرى في تركيبة المجتمع. وربما يكون هذا الواقع مثالاً حياً على تحذيرات المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي يرى أنّ أيّ اصلاح جزئي سيصب في نهاية المطاف داخل دوامة الاستغلال العام، إذ إنّ النظام الرأسمالي (وفقاً لغرامشي) قادر على امتصاص التغيرات لتناسب شكله الاستغلالي، وتالياً، على انتاج نفسه بما هو مركب استمراري، يحتوي أية حركة اصلاحية نظرياً، ويلغيها عملياً. الحل برأي غرامشي، بقتل النظام البطريركي من أساسه، وإن لم يقل ذلك حرفياً. وعليه، فإنّ أية حلول ضمن هذا النظام ستصاب بما تصاب به الحركات النسوية اللبنانية، التي تكاد تفتقد البعد الثقافوي افتقاداً تاماً، وتقتصر على خطاب شعبوي في ظاهره وباطنه. وإلا، مجدداً، كيف نفسر الفرح الهستيري بمشاركة أحزاب لبنانية تقليدية، معظمها يتخذ شكلاً دينياً منفّراً، وطائفياً عنصرياً، في حملة دعم القانون اليتيم للعنف الأسري؟ هل سيتوقف الموتورون عن ضرب نسائهم إذا أقر القانون؟ هل ستصبح المرأة في الوعي الجماعي العام سائقة سيارة مقبولة، وتخرج من عباءة التنميط المهين؟ ثم هل حضور النائبة ستريدا جعجع يضفي زخماً على الحراك؟ الجواب هو لا، لأنّ القانون المذكور سرعان ما تحوّل إلى مادة سجالية سياسياً، على مستوى مراجع السلطة المحلية. وهذا ما فسره غرامشي قبل عقود، في حديثه عن الحركات الاصلاحية، التي تحبو قرب حديقة ألغام. طبعاً لا يعني ذلك التوقف عن المطالبة بحقوق المرأة اطلاقاً، لكنّه، يشير، على الأقل، إلى ضرورة دمج المسألة النسوية بالأمور المتأخرة الأخرى، كنصوص القانون اللبناني مثلاً، التي تثير الغثيان. وغير ذلك، سيبقى وقع الحديث عن التحرش بالمرأة رتيباً على مسامع الكثيرين. سيقولون دائماً إنّ ثمة ما هو أهم، رعم خطورة الموقف وجديته.

مخاطر الراديكاليّة النسويّة

هكذا، ونظراً للتركيبة الطوائفية لبنانياً، فإنّ وجود تيار نسوي راديكالي غير مفيد أبداً لقضية المرأة. فالحقيقة أنّ النسوية ليست ايديولوجيا. هي طبعاً ليست كذلك حتى وإن بدت هكذا هنا، نظراً للفراغ الرهيب الذي يشكل منطلقاً لمقاربة المواضيع الاجتماعية، عبر ربطها تلقائياً بالمشهد السياسي الهجين. وأحياناً، تبدو الإضافات السحرية اللبنانية إلى موضوع النسوية بالغة العبقرية، كأن يضاف اسم الوالدة وشهرتها إلى اسم المستخدم، في صفحات الفايسبوك مثلاً. هذا المركب اللبناني استلزم نهضة معادية، اتهمت النسوية بالتشبه بالغرب. احتوى النظام خطر التغيير بسهولة. كان صداماً، ببساطة، مساوئه أكثر من حسناته بكثير. كان موضة، بكل بساطة. ذلك أنّ التشبه بالغرب، في مواضع كثيرة، قد يكون أمراً بديعاً، وليس تهمةً كما يحاول البعض تصويرها. وإن كانت الجملة السابقة تختزل المكنونات الثقافية والحضارية في الشرق، بانفعالٍ ربما يكون واضحاً، فإنّها ليست دعوةً إلى الاستعمار أيضاً. لا بل العكس تماماً، فليست «كل مصائبنا من أميركا»، ولا الديموقراطية عيبٌ لأنّها نتاج غربي صريح. المشكلة ليست في التشبه بالغرب، ولا في الافادة من التقدم القانوني والاجتماعي الحداثوي غرباً، بمواضيع جندرية جوهرية، كالتحرش، والعنف، والاغتصاب. المشكلة في إسقاط الشكل الغربي على الكارثة الجندرية في الشرق، من دون الالتفات إلى ضرورة مراعاة مراحل نضوج الفردانية غربياً. وفي أيّة حال، هذه نتائج الراديكالية العمياء: أن تتجول مجموعة من الصبايا المتحمسات في وسط المدينة مهللات: «ثورة ضد الرجل، على الرجل ثور»، فيما لا يعود جليّاً بالنسبة إلى كثيرين من النسويين الذكور المشاركين بالتظاهرة سبب وجودهم في الساحة.
وإذ نتحدث عن ساحات، يعني أنّنا نتحدث عن شعارات ومناهج، نلحظ أنّ الحراك النسوي اللبناني غارق في مطبات الشعبوية. مثلاً، لا حديث واحداً حتى اليوم عن دور المرأة بصفتها فرداً في تفعيل الطبقة الوسطى، والإسهام في إحداث حراك سوسيولوجي حقيقي، استناداً إلى فرديتها، وانطلاقاً من علاقة هذه الفردية مع أي مشرب ثقافي. وهكذا، لا يصبح الرمزان البيولوجيان، للذكر والأنثى، المعتمدين، لشرح أزمة الذكورية في الشرق، أمراً كاريكاتورياً. إنّ هذين الرمزين، ومؤشر التساوي الرقمي بينهما، مثيران للاشمئزاز حقاً، خصوصاً أنّ الموضوع لا يتعلق بتساوي أعضاء، حتى ولو كان الغرض من استعمال البيولوجيا رمزياً. وإذ نتحدث عن رائدات في الأدب، استخدمن الأدب للوصول إلى الحلول الاجتماعية المبتغاة، كسيمون دو بوفوار في فرنسا، وسيبيلا اليرامو في إيطاليا، يصبح الشعر القصير أشبه بالطبق اليومي إذ أصبح الدلالة الوحيدة على اعتناق «النسوية» مذهباً نضالياً. هناك أشياء أخرى. وتجنباً لفخاخ العنصرية الجاهزة، يجب التوضيح ـــــ ولو كلاسيكياً ـــــ أنّ الشكل جزء مقدس من حرية الرجل والمرأة. وربما يكون جميلاً فعلاً، للرجل أو للمرأة. المشكلة في التركيز على إطار عام للنسوية بتواتر رتيب، متضمناً سلسلة من المظاهر الفارغة. إطار قادر على استنهاض أنصار التمييز الجندري بسرعة قياسية، خصوصاً في بيئةٍ خصبة لمختلف أنواع العنصرية. ماذا يعني أن تقص النسويات شعورهن فور التحاقهن بقضايا الدفاع عن المرأة واقتصار أعمالهن على مجموعة من الملصقات التي تخاطب سلفادور دالي في سورياليتها، قبل أن يتلقفها شخص مسحوق واحد، من الناس المعتبرين عاديين؟ وماذا يعني أن تصبح حرية الصبية في الفيلم اللبناني «كاراميل» مقتصرة على قص شعرها، أو أن تنمط صبايا الحركات النسوية أشكالهن، صارخات في تظاهرات اسقاط النظام الطائفي البائسة: «ثورة على الرجل»؟ أليس هذا عقماً.. أم ردّ فعل متهوراً؟ المشكلة في «الرجولوية» لا في الرجل، لا في الفرد. أكثر من ذلك، ماذا يعني ألّا تشارك تلك الجماعات في صياغة دور نقابي مفقود، أو في ولوج الأدب، أو احصاء القيمة الاقتصادية الفعلية المترتبة على التضييق على المرأة؟ ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أنّ الحركة النسوية اللبنانية على صورة المجتمع اللبناني الميت، للأسف، بلا أفق. ولهذا، يمكن وصف إصرار الجماعة النسوية اللبنانية على فصل قضية المرأة عن العقم المجتمعي العام، بالبحث عن زاوية في دائرة.

العلاقة بين المرأة والنظام: الفاشيّة نموذجاً

قد تبدو مقاربة الحراك النسوي اللبناني، من زاوية التاريخ العام للحراك النسوي العالمي، مجحفة، ومنطلقة تأسيساً على منهجية غير علمية بحثياً. لكن، إذا راجعنا بحثاً لافتاً للبروفسور في قسم التاريخ بجامعة روزفلت بشيكاغو، الكسندر دو غراند، تحت عنوان «النساء في ظل حكم الفاشيّة الايطالية»، يمكن الوصول إلى نقاطٍ أكثر سلاسة في ما يتعلق بأشكال النضال والظروف التاريخية الموضعية لأيّ حراك، خصوصاً أنّ من الصعب وجود شخصين لا يتفقان على أنّ الفاشيّة هي من أسوأ المحطات في تاريخ البشرية. يمكن أن تكون تلك الحقبة الأكثر أهمية لتقديم مثال على التفاعل بين الدعاية والواقع داخل المجتمع السلطوي. ووفقاً لدو غراند، في حالة الفاشية، تعكس علاقة النظام بالمرأة دور الأول في تحويل الفرد إلى عبد، في سياق توتاليتاري عام، هو أساس التمييز الجندري لا العكس، علماً أنّ بحث دو غراند نفسه يؤكد تطابق سمات الفاشية في العلاقة مع المرأة، في دول ليبرالية آنذاك، لكن لأهداف امبرياليّة، أي للوصول إلى هدف شمولي بنفسه. وهذا ما يفسر سرعة تقدم المرأة، أوروبياً. ولذلك، لا تعود الاسقاطات المحلية، الرامية إلى تحرير المرأة، منطقية، أو مقنعة. وهنا، لا بد من الاشارة إلى مقاربة لافتة، يعدها دو غراند الأبرز، وقد هدفت فيها إلسا غوس، مديرة تحرير «لا كيوزا دي جنوى» إلى محاولة الدمج بين النسوية والفاشيّة. تنطوي مقاربة غوس على درجة واسعة من التعددية، تصل إلى حد القبول بالفاشية(!) من دون القبول أن يكون الدور الحصري للمرأة جزءاً من الفاشية نفسها. ترى غوس أنّ الحركة النسوية الإيطالية المقارعة للفاشية افتقدت في السجالات العامة، ذكر حقيقة تاريخية مفادها أنّ المرأة الايطالية لم تهتم في حياتها بمقارعة الرجل في السياسة، على غرار الدول الأنغلوساكسونية، وكان الهم النسوي الايطالي محصوراً بالجانب الاقتصادي، وبحق المرأة بالتحرر الاقتصادي. بالنسبة إلى غوس، همّ المرأة الإيطالية هو المشاركة في الاقتصاد لا في السياسة. وحتى اليوم، وإن ازدحمت «ساحة الشعب» في ميلانو، بمئات آلاف النساء المعارضات لنظرة سليفيو برلوسكوني الدونية إلى المرأة، فإنّ المرأة الإيطالية واضحة في مطالبها: كرامتها، لا حصتها. هل المرأة اللبنانية، أو الناشطة، أو الناشط، في الحراك النسوي كذلك؟ الجواب ـــــ استناداً إلى شكل الحراك ـــــ هو لا أيضاً. فقد اكتفين بإطلاق أبواق السيارات لربع ساعة، احتجاجاً على عدم «توزير» امرأة واحدة. ومن يعلم؟ كان يمكن أن تكون تلك المرأة «رجولويةً» في طرحها أكثر من جميع الرجال.

* من أسرة «الأخبار»