لا اعرف ما هو سر هذا الذي اسمه الموت؟ لا اعرف لماذا حين يحضر، ينفض الغبار عن ذاكرة بدأ ينال منها الاهتراء؟ لا اعرف على اي زر يضغط، لتتشكل امام ناظريك مشاهد كاملة من حياة خلفتها وراءك. تحضر ذاكرة متحركة، لا خطوط بيضاء فيها، لا تشويش، لا «خشة»، لا بقع سوداء. لا شيء من العلامات التي تشي بقدمها، أو شدة استهلاكها، أو موت بعض تفاصيلها وتحللها بفعل الزمن. إنّها ذاكرة حيّة، ملونة بشحم ناسها ولحمهم. بأزيائهم وسجائرهم، بعاداتهم وطقوسهم. إنّها ذاكرة صاخبة بنبرات ابطالها ولهجاتهم، بعبارات طبعت احاديثهم اليومية ومحطات كلامية التصقت بأنفاسهم، بقهقهات ميّزت فرحهم وتجهمات عبرت عن ضيقهم.إنّه الموت، يضخ الروح في ذاكرة تعجز الحياة عن انعاشها. تفاصيل تغيب عنك، تدفن نفسها في قعر الذاكرة، وتستفيق متثائبة حين تلتقي برفاق الدرب القدامى، لتتعاون الذاكرات على نبش هذا الماضي الذي لا يمكن الا ان تراه جميلاً، فتضحك مما كان يبكيك، وتسخر من احراج كانت تحمر له وجنتيك. تتذكر مواقف واحداثاً، وتغيب عنك اشياء كثيرة، تترحم على الأيام الجميلة بحلوها ومرها، ثم لا يلبث ان ينتهي مسلسل الذكريات تحت وطأة الحاضر.
اما في حضرة الموت، فللذاكرة وقع آخر .تجتاحك، تأسرك، تسكن فيك، تنقلك الى عالمها، فيسري في عروقك خدر لذيذ تتمنى الا يفارقك، الا تصحو منه ابداً، شلل يرميك على الكنبة، فلا تقوى على مغادرتها، أو في الارجح، لا ترغب.
صوّب الموت هذه المرة سهامه الى عمق الذاكرة. نال منها في الصميم. خطف حجر اساس في الذاكرة المهنية. اختار سهيل عبود، أو عبود كما كنت أناديه. فبين «الاستاذ» الذي كان يقطب لها حاجبيه استغراباً واستنكاراً، وبين سهيل التي كان من الصعب ان انطق بها، من دون ان يسبقها اي لقب، جاء عبود هو المخرج السحري. صار اسمه الذي كنت شأن كثيرين اناديه به حتى لحظة رحيله.
غادرنا عبود... هكذا، بهذه البساطة الموجعة، لا بل القاتلة. رحل فحسب. لا اعرف اذا كان رحيله هادئاً، كما هي طباعه، لا اعرف اذا اغمض عينيه مبتسماً، ام آلمته خيانة القلب فاعتصر محياه وجعاً؟ في المناسبة، لا اذكر انّي رأيته يوماً عابساً، فهل ترك كل هذا العبوس الى ساعة الرحيل، لأنّ رقته حالت دون ان يتجهم يوماً في وجه احد؟ ربما. كل ما اعرفه انّه رحل جالساً على كرسيه. لم ادقق في التفاصيل اكثر. تركت لخيالي ان يرسم ذاك المشهد الاخير. مشهد يشبه العبود، في حياته كما في حضوره الاخير الذي لا اجرؤ على ان اسميه الغياب الابدي: جالس في كرسيه الجلدي الاسود المزود بدواليب صغيرة تتيح له استدارة كاملة خلف مكتبه، عيناه العسليتان الناعستان تراجعان ملاحظات كتبها بأحرف صغيرة من دون نقاط على ورق اسمر. هذه النقاط التي كان العبود ينسى دائماً ان يضعها على حروف نصه. وكان يقول لرفيق دربه وصديقه ملحم ابو رزق «ولوّ، رشّلك كم نقطة بطريقك انت وعم تقرا الموضوع». لعل النقطة الوحيدة التي وضعها عبود، كانت نقطة على السطر، معلناً انتهاء القصة!
كانت المهنة مدخلاً الى معرفتي بالعبود، لكنّها علاقة سرعان ما تحولت الى صداقة. هكذا كان معظم الذين تعاونوا معه او تدرجوا في مدرسته المهنية، وهم كثر كثر. اذ كان يبدي حرصاً شديداً على الاهتمام بمن حوله والسؤال عنهم والاطمئنان إلى احوالهم. عادة لم يتخلّ عنها، حتى بعدما غادر البلاد الى الكويت، حيث اقام نحو عشرين عاماً. كان يتابع اخبار الجميع، ولا يبخل في اتصالاته الهاتفية من الخارج، لتأمين وظيفة او لدعم طلب توظيف او لتزكية زميل او حتى لابداء الاعجاب بمقال او حتى بموقف ما. ولا ازال اذكر حين جاءني صوته عبر الهاتف في دبي يقول «بنت اصل يا جنى، متل ما بعرفك». كان سبب هذه الاشادة التي اعتززت بها بشدة، وخصوصاً انّها صادرة عن العبود، تقديم استقالتي من احدى الصحف الخليجية احتجاجاً وتضامناً مع زميل لبناني تم الاستغناء عن خدماته بأسلوب جائر.
رحيلك يا عبود اعادني ربع قرن الى الوراء. فجأة وجدت نفسي اتنقل بين طبقات جريدة النداء في حي الوتوات، حيث بدأت العمل في اذاعة صوت الشعب بعد تخرجي من الثانوية، وقبل التحاقي بالجامعة. هناك تعلمت المهنة، وهناك ايضاً حددت خياراتي الاكاديمية: الصحافة والعلوم السياسية. كان التعرف اليك يا عبود «قصة»، وخصوصاً اني كنت اواظب على قراءة تحليلاتك السياسية وانا لا ازال في المدرسة، لأني كنت اسمعهم يقولون إنّ من لا يقرأ عبود جاهل في السياسة. كنت اعيد قراءة المقال مرات عدّة، حتى افهم لأنّ كل ما كنا ندرسه في ذلك الحين كان تاريخ اوروبا. اما تاريخ لبنان فكان ينتهي عند حدود فخر الدين.
اتذكر يا عبود حين امضيت ساعات طويلة تشرح لي اتفاق الطائف، وكان لا يزال توقيعه حديث العهد؟ كنت قد اخترت هذا الموضوع لمناقشته في سنتي الثانية في الجامعة. قال لي الدكتور في حينها إنّه موضوع صعب، ضحكت في سري وقلت «سأعمل عليه»، لأنّي كنت اعرف انّ عبود لن يتوانى عن شرح كل تفاصيل الاتفاق. وهكذا حصل، قدمت المداخلة التي امتدت طوال ساعة وربع ساعة، بدلاً من الدقائق العشر التي تمنح لكل طالب لتقديم موضوعه. كنت اتحدث لغة عبود، وأنقل المعلومات القيمة التي زودني بها بأمانة. اذكر انّهم صفقوا عالياً يومها... صفقوا لك يا عبود.
بقيت غارقة في ذكرياتي التي لم استفق منها إلا في جاج. وجدتني ابحث عن اصدقاء عبود ورفاق دربه وزملائه، وكل الذين وقف عبود الى جانبهم معلماً وناصحاً ومرشداً. لم اجد إلا القلّة القليلة.
غيابك يا عبود رماني في حضن الذكريات الحلوة، وغياب الاصدقاء عن وداعك الاخير اعادني الى الواقع القاسي والمر.
ليس صحيحاً انّ المرء لا يصدق انّه فقد عزيزاً الا اذا رافقه الى مثواه الاخير. رافقتك ولا ازال غير مصدقة. ولا اريد ان اصدق. انت لا تزال هنا في هذا العالم، لكن هموم الحياة وإقامتك في الكويت قللت من فرص اللقاء. لا بد ان نلتقي صدفة في احد مقاهي وسط بيروت قريباً... فإلى اللقاء.

* كاتبة لبنانية