أحاطت بهيّة الحريري نفسها، وأحاطتها حاشية الحريري، بهالة من القدسيّة؛ لكونها شقيقة مَن تحوّل بفعل المال الوافر والخطة السعوديّة مِن سياسي طموح إلى شبه نبيّ. والقدسيّة تلك حوّلت العائلة إلى العائلة القدوة ــــ بالنسبة إليها: أي هي مثل آل سعود. والفرع يلحق الأصل، ويقتفي خطاه ويتلقّى تعليماته. وبناءً عليه، فإنّ رفيق الحريري هو المؤسِّس، على طريقة الملك عبد العزيز الذي كان يزهو بقطعه للرؤوس أمام ضيوف مائدته، كما روى أمين الريحاني في «ملوك العرب». والعائلة الحريريّة تزخر بعطاياها السياسيّة: فابنا بهيّة الحريري جزء أساسي من بنية الحزب الحريري (ويجب أن لا ننسى أنّ نادر الحريري كان صلة الوصل الرسميّة بين الحكومة السوريّة والفريق الذي كان يصمّ آذاننا بضرورة وضع سكّة العلاقة على أسس رسميّة بين دولة وأخرى). لكن عبادة الشخصيّة بلغت حدّاً بثّت معه محطة «المستقبل» مقابلات مع ابن عم الفقيد، وحارس الفقيد وحلّاق الفقيد ونديم الفقيد، إلخ. وتحتل الشقيقة في التراتبيّة مرتبة رفيعة، يجوز فيها أمامها الخشوع في مجدليون.لكن للعائلة الحاكمة، أو السلالة الحاكمة، أحكامها المستوحاة من النظام السعودي الديموقراطي. وهي تريد أن تجعل من تجربة حكمها تجربة تستلهم ما أسّس لسيطرة آل سعود. لذلك، ملأت أجهزة الدولة بممثّلين ووكلاء ومخبرين لها، ممن لا يخضعون لمساءلة خارج السطوة الماليّة للعائلة. وبهيّة الحريري، بصورة خاصّة، تبقى خارج المساءلة أو المحاسبة. لا يُردّ على «الست بهيّة». لحاشية الحريري ومتلقّي أموال الحريري أن يحترموا قدسيّة «أخت الفقيد» كما يشاؤون. هؤلاء يسيرون وفق الأوامر. لكن بهيّة الحريري تشغل منصباً سياسيّاً، وهي ناشطة في الحقل العام حتى خارج إطار عضويّتها في المجلس النيابي. فضحت نشرة «المستقبل»، مثلاً، في خبر عابر دورها في دعم «جند الشام». وهي زعيمة محليّة في نطاق مدينة صيدا، وخارجها. كما أنّها، بعيداً عن الإعلام، تستدعي من تشاء من رؤساء الجامعات الخاصّة والعامّة في لبنان؛ لأنّ العائلة قرّرت أنّها مسؤولة عن الملف التربوي. لكن خطبتها في مجلس النوّاب اللبناني في جلسة الثقة الأخيرة يجب ألّا تمرّ مرور الكرام، لا لمضمونها فحسب، بل للهجتها المُتعجرفة المُتعالية وعنجهيّتها. لا تعلم بهيّة الحريري، في ما يبدو، أنّ هناك في لبنان من ينبذون قدسيّتها، ومَن يرفضون قدسيّة فقيدها الذي لم يجد فيه فريق كبير من اللبنانيّين أي فضيلة تُذكر (إلا إذا كان تدخّل المال في السياسة فضيلة، أو إذا كان التحريض المذهبي فضيلة، وإلا إذا كان استدعاء التدخّل السوري والفرنسي والأميركي والسعودي في الشؤون اللبنانيّة فضيلة).
بدأت بهيّة خطبتَها بالإشارة إلى تاريخ عريق في الديموقراطيّة للمجلس النيابي. لعلّها تشير إلى سنوات ترؤس شقيقها الحكومات (مُرغماً، طبعاً، لأنّ النظام السوري كان يفرض على رفيق الحريري المسكين أن يترأس الحكومة وأن يستولي على مرافق الدولة)، وربما أشارت إلى تاريخ لبنان قبل الحرب الأهليّة، وهو تاريخ أبعد ما يكون عن الديموقراطيّة، عندما كانت السفارات الأجنبيّة والرشى تقرّر ما يتفق عليه المجلس النيابي وما يختلف. وكان بعض النوّاب في مجلس ما قبل الحرب ينسّق ما يقوم به مع راعيه الإسرائيلي. ليس هناك ما يفخر به لبنان في أمثال كامل الأسعد وكميل شمعون وصائب سلام وبيار الجميّل ومجيد أرسلان. وليس هناك ما يُفتخَر به في مجلس نيابي كان حزب الكتائب فيه يتلقّى دعماً إسرائيليّاً، منذ الخمسينيات، في حملاته الانتخابيّة.
واستهلّت بهيّة خطابها بتوجيه التحيّة إلى الشباب العربي في ثوراته. هل كانت بهيّة هنا تظنّ أنّ القرّاء العرب دخلوا في غيبوبة ونسوا تاريخاً طويلاً من الحلف بين عائلتها ونظام حسني مبارك ونظام بن علي (وحتى نظام الأسد في سوريا)، وبقيّة الأنظمة الاستبداديّة في العالم العربي؟ وكان إعلام الحريري يزخر بدعاية مجّانيّة لمصلحة الأنظمة الاستبداديّة (ولا يزال في حال كل الأنظمة باستثناء سوريا اليوم؛ لأنّه استفاق إلى الحاجة للديموقراطيّة في سوريا ـــــ وعقاب صقر يعود من مهرجان الجنادريّة، الذي دشّنه بتلبية دعوة لرقصة العرضة من قبل الأمير سلمان، ليدعو إلى الحريّة في... سوريا فقط). وقد نشرت صحف تونسيّة، بناءً على وثائق من حكم بن علي، أنّ «المستقبل» (وغيرها من وسائل الإعلام اللبناني) كانت تتلقّى دفوعات للترويج لبن علي. هل تظن بهيّة أنّنا نقبض خطاب 14 آذار عن ارتباط 8 آذار بالأنظمة العربيّة الاستبداديّة، بينما يستطيع تلميذ في مدرسة إعداديّة أن يحصي عدد الأنظمة العربيّة المُرتبطة بـ14 آذار، في مقابل ارتباط نظام واحد (سوري) بـ8 آذار؟ وبناءً على ذلك، يُستحسن ألا تأتي بهيّة على ذكر ثورات العرب: هي في صف ملوك الطغيان وشيوخه وسلاطينه (وحتى النظام السوري كان في صفّهم إلى أن وقعت الواقعة بينهم).
وحديث الديموقراطيّة تناقض مع إشارتها الديماغوجيّة النافرة إلى «العزل السياسي» كـ«استكمال للعزل الجسدي». هي الديماغوجيّة بعينها (عرّف الإغريق الديماغوجيّة بـ«تملّق الجماهير»). ماذا تريد بهيّة أن تقول؟ تلك العائلة التي نكبت أكثر من لبنان، ماذا تريد بهيّة أن تقول غير أن تذكّرنا باغتيال شقيقها؟ ألم تكتف العائلة بما رعته من مآتم ومن مهرجانات كربلائيّة لاختلاق تاريخ مزوّر عن حقيقة دور رفيق الحريري في لبنان والمنطقة؟ ألم تشبع العائلة بعد من الدموع ومن الأحزان ومن تقديس الموت ونشره في ثقافة لبنان؟ أتظن أنّ ليس هناك في لبنان من خسر أحباباً وأشقّاء وأولاداً وأهالي؟ ماذا عن الصامتين والصامتات من ضحايا عدوان تمّوز الذي كانت عائلة الحريري ـــــ من دون أي شكّ بعد اليوم بعد نشر وثائق «ويكيليكس» ـــــ شريكاً غير صامت فيه؟ وماذا تقصد بهيّة بربطها بين «العزل السياسي» و«العزل الجسدي»؟ القصد واضح. عائلة الحريري ترفض الخروج من السلطة بتاتاً (لماذا تتجاهل وسائل الإعلام الحقيقة: إنّ الشعار المرفوع على مدخل السرايا لم يأتِ من بنات أفكار رفيق الحريري، بل من ذاكرة صحافي لبناني علّق ساخراً على فخامة إعمار السرايا، ما دفع برفيق الحريري إلى وضع الشعار تصنّعاً للتواضع وتفادياً للإحراج في بلد خارج من حرب أهليّة؟) تريد بهيّة الحريري أن تقول إنّ خروج ابن شقيقها (والمواهب والكفاءة ليست شرطاً لتبوّء المناصب، تماماً كما هي الحال في السعوديّة) مرفوض؛ لأنّ حكم السلالة يجب ألا ينقطع، وأنّ التداول العادي للسلطة في لبنان يهدّد أفراد عائلة الحريري. هذا ما تريد بهيّة الحريري أن تقوله لنا. لقد وصفت انتقال دفّة السلطة (السمة الأساسيّة للحكم الديموقراطي) بـ«المجزرة». ليست الديماغوجيّة غريبة عن لبنان، لكنّها تصل في خطاب الحريريّة إلى درجة غير مسبوقة من التهوّر واللامسؤوليّة. الحريريّة تفضّل استدامة الحكم العائلي على سلامة (مسخ) الوطن.
وكيف تتورّع بهيّة الحريري عن الحديث عن حرمة إسقاط حكومة وهي التي تسلّقت على جثّة رفيق الحريري، كي تُسقِط عنوةً، بالدموع والتهويل والغوغائيّة الحريريّة التي لا تتقنها عائلة الحريري دون فيض من الطائفيّة، حكومة عمر كرامي. استسهال النيل من كرامات الناس ومن سمعتهم (وسمعتهنّ) سهل على آل الحريري: يطلقون الاتهامات والنعوت والشتائم يمنةً ويسرة، ثم يعترضون هائجين (وهائجات): إنّهم يتهموننا وينعتوننا ويشتموننا. هذا نمط من الخطاب الحريري. هل اعتذرت عائلة الحريري من عمر كرامي وحكومته، بعدما اتهمته في الأيّام والأسابيع الأولى بعد اغتيال الحريري بجريمة الاغتيال؟ (لكن الاستسهال في الاتهام والتنقّل الرشيق في توجيه أصابع الاتهام سمة من التعاطي الحريري منذ 2005: أذكر أنّ رضوان السيّد أخبرني بعد أشهر معدودة فقط من اغتيال الحريري أنّ عائلة الحريري، ومن لفّ لفّها، مُقتنعون بأنّ تنظيم الجبهة الشعبيّة ـــــ القيادة العامّة هو المسؤول عن اغتيال الحريري؛ لأنّ أحمد جبريل «خبير متفجّرات». هذا يفسّر لماذا ورد اسم الجبهة في أوّل تقرير لميليس: التقرير الذي حوى كميّة هائلة من الخبريات والشائعات، بالإضافة إلى قائمة كاملة بكلّ أعداء إسرائيل في لبنان).
ثم تلجأ بهيّة الحريري إلى الخطاب الطائفي المذهبي الصريح، ومن دون مداورة. فتذكّر رئيس الحكومة بـ«الثوابت الإسلاميّة» (التي انطلقت من مركز الإفتاء ـــــ ثم يحدّثونك عن الدولة المدنيّة ـــــ ماذا يصدّق المرء من كلام هؤلاء، وفي أي موضوع؟)، ثم تذكّره أيضاً بأنّ «الثوابت» الطائفيّة ـــــ المذهبيّة أتت لـ«حماية موقع رئاسة الحكومة». هذه هي الكلمة الكوديّة الفصل. أصوات الفتنة المذهبيّة في لبنان لا يستخدمون عبارة «موقع رئاسة الحكومة» (وقد بدأ صائب سلام بالتقليد، إلا أنّ رفيق الحريري بزّه) إلا من أجل التحريض المذهبي الشارعي. فعلت بهيّة الحريري فعلتها. أي أنّها تذكّر رئيس الحكومة بأنّ الدار المذهبيّة الخاضعة لنفوذها المالي هي التي تقرّر وحدها مصالح الطائفة المنصورة ومواقعها.
لكن بهيّة لم تكتف بذلك، بل لجأت إلى المزيد من التحريض المذهبي (على طريقة سحر الخطيب التي، للأمانة ـــــ كما روت هي، عاملت الشيعة في لبنان، معاملة حسنة إلى أن أتت 7 أيّار) فصدحت في مديحة لمدينة بيروت (على طريقة مديحة ابن القلاعي في جبل لبنان). وبيروت، في خطاب الحريريّة، إشارة إلى السنّة وحدهم. ويحق للمسيحيّين السكن فيها، على أن يختار رفيق الحريري، أو من يخلفه، ممثّليها. أما الشيعة، فهم الطارئون الضيوف الذين ـــــ كما كان حال السود في أميركا قبل الستينيات ـــــ يجب عليهم حفظ المقامات والمراتب والبقاء في الصفوف الخلفيّة. يمكنهم أن يتكلّموا، لكن بإذن. واعتداءات إسرائيل التي تصيب الجنوب أكثر من غيره لا تضرّ بالوطن كثيراً؛ لأنّ معظم أهل الجنوب هم من الطائفة الثانويّة. وإلاّ، فكيف تعظ بهيّة الحريري نبيه بري (ومن خلاله سائر الشيعة) في شأن بيروت، وهم عاشوا فيها أكثر من سنوات إقامة رفيق الحريري وبهيّة الحريري، وباقي الحريريّين؟ وعندما كانت بهيّة تعظ برّي في شأن جميل بيروت عليه، كانت تخاطب الشيعة وتذكّرهم بفضل المدينة التي سمحت لهم بالإقامة المؤقّتة فيها (ألم يكن نادر الحريري يسرّ في إذن نائب في المجلس النيابي أثناء عدوان تمّوز بأنّ القوّات الإسرائيليّة ستعمد بعد هزيمة حزب الله إلى رميهم نحو البقاع، ومن ثمّ نحو سوريا، وفق رواية مُستمع عيان؟).
وكان طريفاً أن تتذكّر بهيّة الحريري فجأة رشيد كرامي وعمر كرامي (ويمكنها أن تتذكّر قريباً معن كرامي). أما بالنسبة إلى رشيد، فقد تنكّرت له الحريريّة في كلّ جداول شهدائها التي تضم عملاء لإسرائيل ومخبرين لها. تتنكّر لرشيد كرامي في كلّ لقاء مع سمير جعجع (إنّ من يقرأ محضر محاكمة سمير جعجع ـــــ وقد نُشر في كتابيْن منفصليْن ـــــ يلاحظ أنّ المحاكمة كانت عادلة ومهنيّة، وإن أهملت عدداً من جرائم جعجع). أما عمر كرامي، فقد أشادت به وأضافت أنه يميّز بين الحلال والحرام في السياسة. أي أنه يلتزم معايير لا تلتزمها هي أبداً. هل التزمت بالمعايير عندما حرّضت مذهبيّاً في واحدة من أبشع جلسات المجلس النيابي بعد اغتيال رفيق الحريري، ودفعت بعمر كرامي للاستقالة لأنّها لم تترك له خياراً: فهو قاتل مُحترف لو لم يستقل يومها تحت ضغط دموعها الجيّاشة؟ والحريريّة تقول إنّ الحكومة القائمة مسؤولة عن الاغتيالات التي تجري في ظلّ حكمها، باستثناء تلك الحكومات الخاضعة للحكم الحريري.
إنّ الابتذال في خطاب بهيّة بلغ أوجه في حديث الثروات. تحتاج العائلات الثريّة في لبنان إلى قراءة ما كتب ماركس وبرودون (أو حتى بلزاك) عن الملكيّة الخاصّة وعن الثروات (أو قراءة «أين الخطأ» لعبد الله العلايلي للنظر في مسألة كنز الثروات ـــــ لو أنّ بلال العلايلي يتذكّر مقولات والده في الوحدة الإسلاميّة، وقد سمعتها منه وأنا صغير، لما أمكنه أن ينخرط في مشروع الحريريّة المذهبيّة القاتلة). لم تجد بهيّة غضاضة في الحديث عن الثروات وعن المكرمات. هنا تحضّ بهيّة على تنافس الثروات وعلى التنافس في المكرمات لغايات سياسيّة. وقد خرجت عن النصّ لتذكّر رئيس الحكومة بعدد الطلاّب اللبنانيّين الذين استفادوا من منح الحريري (والعدد يزداد في الخطاب الحريري من 20000 إلى 30000 إلى 100000 في خطاب الحريري الأخير، والحبل على الجرّار). وقد زهت بعدد الطلاّب المستفيدين، مُثبتة أنّ المكارم الحريريّة (مثل مكارم الملك السعودي في شحن التمور إلى الشعب الفلسطيني المُحاصر) هي لغايات التبجّح والزهو والاستغلال السياسي الرخيص. علناً طالبت ميقاتي بأن يلتزم بتمويل تعليم عدد مماثل من الطلاب. أصحاب المليارات يتنافسون، وكلّ ذلك لخدمة الأموال وخدمة المناصب والكراسي.
ثم تتجرّأ بهيّة على الاستفاضة في الحديث عن الزهد بالحكم. الزهد بالحكم من قبل آل الحريري؟ هل كان الزهد بالحكم يدفع رفيق الحريري كي يكرّم أوغاداً في الاستخبارات السوريّة، وغيرها من الاستخبارات، طمعاً بالسلطة؟ هل تسليم مفتاح بيروت لغازي كنعان، والإشادة برستم غزالة في احتفال رسمي مهيب، هما بسبب الزهد السياسي؟ هل الزهد بالحكم الذي كان يدفع برفيق الحريري إلى أن يقبل بالإهانة والإذلال (كما يعترفون هم اليوم) من ضبّاط الاستخبارات السوريّة في لبنان، وفي خارجه؟ هل الزهد بالحكم هو الذي دفع برفيق الحريري لأن يبتاع فريقاً بكامله في النظام السوري، أم أنّه كان يبتاع لنفسه سنوات من السلطة المستدامة؟ هل الزهد بالسلطة هو الذي دفع بابن شقيق بهيّة، سعد العصيّ على المواهب والكفاءة، إلى إبداء الحرد العلني كالطفل الذي فقد ألعوبة أُخذت منه عنوة؟ هل الزهد بالسلطة هو وراء الاندفاع المُفاجئ في المطالبة بنزع السلاح؟ هل الزهد بالحكم هو الذي جعل سعد الحريري يساوم ويقايض حتى على تلك الدماء الذي وحدها جعلت منه رئيساً للحكومة؟ لا، إنّ الوعظ في الزهد بالحكم لا يمكن أن يأتي من آل الحريري. هذا مثل أن يعظ آل سعود في محاربة الفساد وفي نشر الديموقراطيّة.
تقول بهيّة إنّ رئاسة الحكومة ليست ملكاً لعائلة. هذا درس كان يجب أن يتلقّاه رفيق الحريري وعائلته قبل غيرهم. هم الذين كانوا يريدون الاستيلاء على كلّ مقدّرات الدولة. كان رفيق الحريري يريد عبر الرشى وعبر حقائب المال أن يسيطر على أرفع المسؤولين في الدولة. إنّ العلاقة الماليّة بين رفيق الحريري وإلياس الهراوي ـــــ وهي لم تعد سرّاً على أحد ـــــ هي من أسوأ ملفّات الفساد في تاريخ دولة عريقة في الفساد. لو كانت عائلة الحريري تقبل بأن لا تكون رئاسة الحكومة ملكاً لعائلة، لما كان سعد الحريري عبّر عن هذا الضيق وهذا الحقد على تدوال عادي في السلطة.
أما الإشادة التقليديّة الطقوسيّة من بهيّة بالملك السعودي، فهي تدخل في صلب العقيدة الحريريّة. مثل البسملة عند المؤمنين والمؤمنات من المسلمين والمسلمات. مثل غيرها من أفراد الفريق الحريري، تريد أن تنحني أمام ذلك الملك الأمّي الذي يتحمّل مسؤوليّة الفتنة في العالم العربي (كم يبدو إعلام 8 آذار غبيّاً وهو يعزو السياسة الخارجيّة السعوديّة إلى مؤامرة من بندر بن سلطان، وكأنّ الملك غير راض عن سياسة هو مسؤول عن رسمها). تقول بهيّة عن الملك السعودي: «وانحنينا أمام تلك الهامة الكبيرة والرجل الكبير... خادم الحرمين الشريفين... الذي وقف في قمة الكويت يسمو فوق الإساءات والجراح، ليتسامح من أجل لمّ الشّمل ووحدة الأهل والأخوة في الأمة والمصير». هذا يعبّر عن حقيقة الارتهان الخارجي (المُتعدِّد الطرف) لفريق الحريريّة في لبنان. وتضيف بهيّة شاكرة الملك السعودي على جهوده في التحرير. أولاً، ليس للحريريّة فضل أبداً في عمليّة التحرير، إلا إذا كان التآمر المبكّر على سلاح المقاومة يدخل في جهود التحرير. هي لا تقرّر من خدم التحرير ومن تآمر عليه. أما شكرها لجهود الملك السعودي في مسيرة التحرير، فهي تتناقض مع ذلك البيان السعودي الشهير الذي أوضح أنّ آل سعود يقفون في صف إسرائيل في عدوانها على لبنان (لا تنفع تحويلات ماليّة للحكومة الحريريّة في محو مُناصرة الحكم السعودي لإسرائيل، قبل عدوان تمّوز وبعده).
ثم تخاطب بهيّة نجيب ميقاتي بالحديث نيابة عن «أسر الشهداء الكبار». الشهداء الكبار؟ هل الحريريّة تريد أن تدخل إلى الابتذال السياسي اللبناني (حتى لا نقول البذاءة السياسيّة اللبنانيّة) تصنيفاً بين «الشهداء»، ففيهم الكبير وفيهم الصغير وفيهم المتوسّط الحجم؟ وهل الشهداء الكبار بلغوا مرتبة الكبار بحجم ثرواتهم؟ وماذا عن هؤلاء الأبرياء والمقاتلين من أهل الجنوب الذين قضوا نتيجة عدوان إسرائيل؟ هل هم في تصنيفكم (وتصنيفكنّ) شهداء صغاراً، أم هم ليسوا شهداء أبداً لأنّهم لم يتمتّعوا بالبركة السعوديّة الوهابيّة؟ ومن قال لبهيّة الحريري إنّ بمستطاعها أن تصنّف الشهداء؟ من أعطاها هذا الحقّ؟
تحكّمت عائلات في مصائر لبنان عبر القرون. تسلّطت وتنفّذت بأمر الوالي العثماني أو بأمر المُستعمر الأوروبي من بعده. الثروات جاءت مُترافقة مع الإمرة الخارجيّة. نجحت الحرب الأهليّة اللبنانيّة في التخلّص من عائلات إقطاعيّة ومن زعامات المدن («أعيان المدن» كما سمّاهم المؤرّخ ألبرت حوراني). الطائفة الشيعيّة قضت لغير رجعة على عائلات الإقطاع الشيعي (ولن تنجح حركة «أمل»، التي تحافظ على تمثيل الإقطاع في قوائمها، في مساعيها للإيحاء أنّ تلك العائلات لم تمت بعد). لكن الثروات الضخمة التي هبطت على لبنان في التسعينيات وما بعدها، ارتبطت هي الأخرى بإرادات ومصالح خارجيّة رفعت من شأن بعض العائلات التي حاولت أن تؤسّس لسلالات تخلف عائلات الإقطاع والأعيان البائدة. سلالة الحريري هي محاولة ظرفيّة لتنصيب سلالة حاكمة في لبنان. لكن طموحها لا يصطدم فقط بمسلكها في التحريض المذهبي الذي حكماً يستعدي ضدّها شرائح من اللبنانيّين (واللبنانيّات)، بل هو يصطدم أيضاً بشخصية خليفة رفيق الحريري. غير أنّ طموحات السلالة لم تضمحلّ، وهذا نذير شؤم في مستقبل لبنان (القريب فقط).
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)