تُمثّل الدبلوماسيّة سياقاً ثقافيّاً حاسماً في عصرنا الراهن سواء كانت في أتون عصر التفاؤل، أ, التشاؤم السطحيِّ؛ لأنها تبقى واحدة من الأدوات المُهمّة لحركة الفواعل الرئيسة في النظام العالميِّ في لحظة التعاون الدوليِّ الوثيق على سبيل نمطيّة مارشل، أو قِمّة الانحباس الفكريِّ والصراع.
قبل سنوات كثيرة كتب Alvin Toffler كتابيه «صدمة المُستقبَل»، و«حضارة الموجة الثالثة»، وقد توقّع في الأخير أنَّ البشر يتحرَّكون نحو عالم لا تنضب فيه المعرفة بعد أن كانت الموجة الأولى عبر التطوُّر الزراعيِّ، والموجة الثانية عبر الصناعة فإنَّ الموجة الثالثة عبر المعلومات والاندماج المُعولم. على ما يبدو أنَّ تشكّل الموجة الرابعة حين يُصبح الإنسان جزءاً من الآلة، وتُصبح الآلة جزءاً منه.
انعكس هذا على العلوم السياسيّة بشكل عامّ، وأدبيّات العلاقات الدوليّة بشكل خاصّ، وشكَّل فيها منطقة فراغ ما زالت بحاجة إلى بحث وتحليل، فإنَّ هذه المنطقة بشكل عامّ تنسحب على المجال الدبلوماسيِّ، ولاسيَّما عندما تقترن بتحدِّيات العولمة Globalization، فإنها سوف تختلف بشكل أو آخر عن دبلوماسيّة عصر اللاقطبيّة؛ ومن ثم يدفع لظهور أنماط، وأساليب تُقدِّم تصوُّرات تنسجم مع حالة تلاقح الأفكار في بوتقة الحضارات المفتوح، إذ تُشكِّل انعكاساً على الثقافة الدبلوماسيّة سواء كان علماً، أم تاريخاً، أم مُؤسَّسة، أم مهنة، أم قانوناً.

هل «داعش» أصبح
مُنظمة ذات جهاز دبلوماسيّ
يُجيد التفاوض؟


إذا كان المُتخصِّصون في دائرة العلاقات الدوليّة أخذوا بالتحدُّث عن الدبلوماسيّة التقليديّة، والدبلوماسيّة الحديثة، وبين السريّة والعلنيّة فإنَّ الدبلوماسيّة اليوم تأخذ أنماطاً يصحُّ القول عنها بأنها مجنونة، وخارج سياق التوقُّع الذي عهدَه التاريخ الدبلوماسيّ، بل غريبة على البوصلة الدبلوماسيّة بكلِّ اتجاهاتها، وأراها بأربعة أنماط، هي:

دبلوماسيّة المُنظّمات الإرهابيّة

إذا كان التفاوض عصب العمل الدبلوماسيِّ فكيف لنا أن نتصوَّر الفريق التفاوضيَّ للجماعات والتنظيمات الإرهابيّة، وهل ثمة دبلوماسيّة خاصّة تمارسها الجماعات الإرهابيّة، وماذا يعني افتتاح مكتب دبلوماسيٍّ لجماعة طالبان في قطر، والإعلان الرسميّ أنَّ هدف المكتب تحسين التفاهم، والعلاقات مع باقي بلدان العالم، وإجراء مُفاوَضات مع الولايات المُتحِدة الأميركيّة، ومُنظّمات دوليّة، وإقليميّة؟ وماذا يعني التفاوض مع تنظيم الدولة الإسلامية (ISIS)، وهل هذا يعني أنَّ لديها فريقاً تفاوضيّاً، ودبلوماسيِّين وسطاء، كما يحصل اليوم في الوساطة التركيّة، أو القطريّة؛ لإخراج الرهائن في لبنان، وسابقاً في موضوع الرهائن في القنصليّة التركيّة بالموصل، ومن ثم بثّ موقع «أيدنلك ديلي» تصريحات لمسؤول العلاقات الخارجيّة بتنظيم «داعش» يُدعى أبو عمر التونسيّ قال فيها: إنَّ داعش تعتزم افتتاح أول بعثة دبلوماسيّة في دولة صديقة ومُسلِمة.
فهل إنَّ «داعش» أصبحت اليوم مُنظمة ذات جهاز دبلوماسيّ يُجيد الجلوس على طاولة التفاوض، ولديه أوراق تفاوضيّة، واستراتيجيّات تفاوض، ورُبّما طاقم من السفراء في بعض الدول في إطار الوهم الدبلوماسيِّ الهجين، ولا ينقصهم إلا وضع الراية السوداء فوق الكهوف خُصُوصاً مع دَعَوات أميركيّة للتفاوض أطلقها بعض الكتّاب، فماذا سيكون من مُستقبَل لهذا الجنين المُشوَّه وهو يُولد خارج الرحم الدبلوماسيِّ الطبيعيّ، وهل سيُفرَش لهم السجاد الأحمر لاحقاً؟

الدبلوماسيّة الرقميّة

يقول هنري كيسنجر: «إنَّ الإعلام الصاخب دائم الحُضُور يُحوِّل السياسة الخارجيّة إلى فرع من فروع التسلية العامّة، فالتنافس الحادّ على التصنيف يُنتِج هَوَساً بالأزمة الآنيّة، ويُقدِّمها بشكل عامّ كأزمة أخلاقيّة بين الخير والشرّ»، فكيف سيكون الحديث عن هذا الموضوع ونحن نعيش عصر Digital War.
في خِضَمِّ عالمنا المُسطّح - كما سمّاه توماس فريدمان - أصبح لوسائل التواصل الاجتماعيِّ دور كبير ومُؤثّر في صناعة القبول السياسيِّ سواء كان منها تويتر Twitter، أم فيسبوك Facebook؛ للبحث عن شبه ترسيخ علاقات، وتواصل مُتبادَل، وبناء شبكة دبلوماسيّة افتراضيّة حتى إنَّ أحد الدبلوماسيِّين البريطانيِّين قال: إنَّ الدبلوماسيَّ الأكثر فاعليّة في هذا العصر هو مَن يحمل بيده الآيباد بدلاً من أوراق اعتماده.
وبحسب دراسة أصدرها أحد المراكز البحثيّة أنَّ أكثر من 83% من دول العالم لها حُضُور على تويتر، ولدى ثلثي رؤساء الدول والحكومات 68% حسابات شخصيّة فيه، وحرصت وزارات الخارجيّة على إنشاء منصات رقميّة كبيرة على شبكة تويتر، إذ يُوجَد أكثر من 3100 حساب للسفارات والسفراء للعديد من الدول؛ ومن ثم أصبح الموضوع لا يبتعد من سياق دبلوماسيٍّ لإيصال رسائل مُتبادَلة غير مُباشِرة في مُجتمَعات الإنترنت أكثر مما هو العمل في إطار إعلاميٍّ، ودعاية خارجيّة، وإشهار عن نشاطات بينما تحوَّل تويتر في العالم العربيِّ عبر الجهات الرسميّة إلى مِنصّة رقميّة لتبادُل اتهامات، وشعبيّاً للسُباب، والشتائم.

حرصت وزارات الخارجيّة
على إنشاء منصّات رقميّة كبيرة
على شبكة تويتر


ورُبّما ستظهر دبلوماسيّة السيلفي Selfie قريباً، أو ينقرض الدبلوماسيّون في ظلِّ الدبلوماسيِّ الرقميِّ، ويحلّ الآيفون، واليوتيوب، والإنستغرام بدلاً من الجفرة السِرّيّة، والحقيبة الدبلوماسيّة، وحامل البريد الدبلوماسيّ، ونستبدل أفكار بسمارك، ومترينخ، وجورج كينان بعبقريّات مارك زوكربيرغ، وستيف جوبز، ونكون أمام اكتشاف Ele-diplomat؛ ليكون سفيراً فوق العادة.

المُواطِن الدبلوماسيّ

إذا كانت الثورة التكنولوجيّة قد ساهمت في صناعة «كلّ مُواطِن هو إعلاميّ» عبر استخدامه جهاز الموبايل فإنَّ الرأي العامَّ وضع المُواطِن أمام مَهمّة دبلوماسيّة، وأصبح له تأثير في صانع السياسة سُمِّي لاحقاً في بعض الدراسات الدبلوماسيّة ذات الطابع الديمقراطيّ ما يُعرَف اليوم بـ«الدبلوماسية الشعبيّة» Public Diplomacy، وإذا كانت الدبلوماسيّة التقليديّة تقوم أعمالها بالاعتماد على السفارات والبعثات الرسميّة فإنَّ الدبلوماسيّة الشعبيّة تعتمد على النقابات، والاتحادات، والمُنظّمات، والفرق الرياضيّة التي تمتلك علاقات صداقة بمُنظّمات لها نفس الاختصاصات، فعلى سبيل المثال كانت لدبلوماسيّة البنغ بونغ أثرها الواضح في فتح العلاقة بين الولايات المُتحِدة الأميركيّة والصين الشعبيّة عام 1970، ويُمكِن -أيضاً- للمُجتمَع المَدَنيِّ أن يكون له الدور الأبرز في هذا الاتجاه.

دبلوماسيّة الفواعل من غير الدول

صعود «الفواعل غير الدول» مثل الشركات مُتعدِّدة الجنسيّات٬ والمُنظمات غير الحكوميّة والدوليّة٬ ووسائل الإعلام المُؤثّرة، وهذه الفواعل أصبحت لها دبلوماسيّتها الخاصّة بها؛ ما أثَّر بشكل أو آخر في الدبلوماسيّة التقليديّة أقرب إلى ما يُمكِن تسميته «القوة الذكيّة»، و«الدبلوماسيّة المرنة»، كما نظَّر له جوزيف ناي عبر المزج بين القوة الصلبة Hard power والقوة الناعمة Soft Power، وسياسة ثلاثيّة الأبعاد (3D) التي تعني المزج بين Diplomacy الدبلوماسيّة، والدفاع الوطنيّ Defense، والتنمية Development.
وإذا كان جهاز وزارة الخارجيّة هو الجهاز الوحيد الذي يقع على عاتقه تنفيذ السياسة الخارجيّة الرسميّة للوحدة القراريّة فإنَّ البنوك والشركات المُتعدِّدة الجنسيّات تتنافس اليوم على هذه المَهمّة في عالم ما بعد «وستفاليا»؛ ليعيش النظام الدوليُّ في حالة الفوضى، وتتراجع قدرة الدولة؛ لتُؤدِّي تلك الفواعل أدوار الدولة تاركة المغزى الرمزيَّ للدولة في أداء وظائفها الخارجيّة.
نعم... إنَّ الأنماط غير الرسميّة في الدبلوماسيّة ليست بالجديدة، ولكن تبقى هذه الأشكال الأربعة تُمثِّل أنماطاً لدبلوماسيّة جديدة تجعل المُؤسَّسات الدبلوماسيّة التقليديّة أمام تحدٍّ، وعليها إعادة صناعة نفسها فلا يُمكِن للدبلوماسيّة أن تواجه التحدِّيات الجديدة بالمهارات القديمة، وهنا مَهمّة الدبلوماسيِّين المُحترِفين رُبّما نحتاج فيها إلى أنسنة الدبلوماسيّة بشكلها المُعولَم.
* مُدير مركز بلادي
للدراسات والأبحاث الاستراتيجيّة ــ بغداد