بالتأكيد، لم يخطر ببال الشاب التونسي العاطل من العمل محمد البوعزيزي، أنّ حركته الاحتجاجية الفردية البحتة، ستولّد سلسلة احتجاجات ستملأ الوطن العربي ضجيج ثورات، من أقصاه إلى أقصاه. ولو أنّ يد القدر لم تقطف زهرة عمره، لكان أول المفاجَئين بثورة الياسمين التونسية المظفرة ـــــ كما الجميع ـــــ في اندلاعها واستمراريتها ونجاحها في القضاء على حكم بن علي، الذي استمر ثلاثة وعشرين عاماً. سنوات مثّل خلالها استمراراً لنمطية الحكم السابق للحبيب بورقيبة منذ الاستقلال التونسي، واستلهاماً للشعارات ذاتها التي رفعها أبو الأمة التونسية.لعل أهم إنجاز لهذه الثورة هو هروب بن علي من تونس، ما كشف هشاشة النظام الرسمي العربي، رغم صورته الدكتاتورية القاتمة والقاسية. أسهم ذلك في امتداد الثورات إلى مناطق أخرى، وكشف الخلل البنيوي الذي تعيشه الدولة العربية الحديثة التي فقدت صدقيتها، حين فشلت في الإجابة عن الأسئلة التي طرحت عليها منذ نهاية عهد الاستعمار الغربي، منتصف القرن الماضي.
يعتمد الحاكم، في الجمهورية العربية الحديثة على توليفة من الأمن والجيش والاقتصاد، تسمح له بالتحكم في مفاصل الحياة السياسية والمدنية. ويبني الحاكم، من خلال تلك التوليفة، شكلاً مافيوياً عماده الأساسي العائلة، إذ يتسلم أفرادها مسؤوليات خاصة داخل المؤسسة الأمنية على نحو خاص، وكذلك الألوية المهمّة في الجيش، وفي الاقتصاد أيضاً. ويمكن المقربين المنتفعين أيضاً، تسلّق السلم الأمني/ الاقتصادي الذي تحكمه علاقات الطاعة والتبعية، ومعياره الأساس هو الخضوع المطلق للعائلة، ومصالحها أولاً، ومن ثم إمكان الاستفادة المشروعة وغير المشروعة، من فضلات مصالحها.
لا يمكن النظام المافيوي هذا أن يستمر في إنتاج آلياته ذاتها، فهو نظام عسكري جاء في الغالب نتيجة انقلابات قادها ضباط من الجيش، متذرعين بحجج شتى، ليست أولاها التبعية للغرب، وليست آخرها قضية فلسطين. فإنتاج هذا النمط من الحكم، وهو بالمناسبة ساد معظم دول العالم الثالث التي خاضت مرحلة تحرر وطني ضد المستعمر الأجنبي بعيد الحرب العالمية الثانية، يستوجب أن يشهد النظام ذاته تطوّراً تصاعدياً يلبي طموحات الشعوب في تحسين الاقتصاد الفردي والجماعي أولاً، وتوفير الحد الأدنى من الحرية والتداول السلمي للسلطة ثانياً، والعمل على تحقيق مطالب الوحدة العربية الكلية أو الجزئية ثالثاً. فالجمود الذي شهده هذا النظام مثّل، بالضد منه، استعصاءات متعددة، تبرزها الأنساق العالمية بأكثر مما يدل عليها التطوّر الداخلي ذاته. فالديموقراطية كقيمة، لا كنظام حكم، برزت كشرط أولي للدخول في النسق العالمي، فيما بعد نهاية الحرب الباردة. وبانهيار المنظومة الاشتراكية، وتداعي مكوناتها الإيديولوجية، ومن ثم السياسية، برزت الديموقراطية رديفاً أخلاقياً للنظام الرأسمالي الحديث، وقطباً أساسياً لشد الدول الخارجة عن النطاق. وبهذا، شهدنا دخول معظم الدول الشيوعية السابقة إلى النادي الديموقراطي، وتحوّل اقتصاداتها إلى الرأسمالية. بينما وقف النظام الرسمي العربي ليس فقط كمتفرج سلبي، بل ومحارب عنيد لفكرة الديموقراطية التي اجتاحت العالم كلّه، وبذل كلّ جهده لكي لا تصيبه هذه الحمى، فجمد التطور السياسي على نحو مذهل، وإن سمح للاقتصاد بأن يطوّر آليات رأسمالية استهلاكية، بشرط سيطرة المافيا العائلية على النسق الاقتصادي المحلي كاملاً.
وبينما اكتفى الجيش، الذي كان محرك التغيير في الدولة العربية الحديثة تاريخياً، بالوقوف غير مبال تجاه تمدد الأخطبوط الدكتاتوري بأذرعه المتعددة، كان الشعب يراكم سلبيات التجربة التي خاضها تحت حكم الفرد والعائلة. واستسلم الجيش الذي ترك ساحته الداخلية لمجموعة هائلة من الأجهزة البوليسية والأمنية تضيق خناقها على «المواطن»، مما أبعده عن أن يكون محط نقمة الجماهير التي رأت عدوها الأول متمثلاً في الأجهزة الأمنية التي تمددت خيوطها لتكوّن شبكة عنكبوتية تتدخل في جميع نواحي الحياة في البلاد. وهو ما يفسر تحييد الجيش، في كل من تونس ومصر، وصب جام الغضب على أجهزة الحاكم الأمنية، ومن ثم هذا بالضبط ما أهلّ الجيش أيضاً لأداء دور محوري في عملية إنهاء نظامي بن علي ومبارك. وهي النقطة التي لم تختلف فيها ليبيا عن سابقتيها في الثورة، لكن الزعيم الليبي لم يعتمد فقط على جيش من المواطنين، خذلوه كما خذلوا سابقيه، بل كذلك على جيش من المرتزقة ينفذ أوامر العقيد بدون أي تردد، طالما أنه يقبض الثمن. يبدو الوضع في سوريا مختلفاً قليلاً، لا كلّياً، عما سبق. فقد أدّى النظام السوري، منذ عهد الانقلاب العسكري الأول الذي قاده حسني الزعيم، ورقة التناقضات الطائفية، للسيطرة على الجيش والإمساك بورقته الصانعة للقلاقل والانقلابات. واستلزم الأمر تسعة انقلابات عسكرية منذ الاستقلال في 1946 حتى الانقلاب العسكري الأخير في 1970، حتى يقع الجيش نهائياً في قبضة الحاكم السياسي باعتباره حاكماً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. هكذا، وقع التهميش الكامل لدور الجيش في الحياة السياسية، تاركاً الساحة لمصلحة الأجهزة الأمنية التي تكاثرت بطريقة مذهلة، حتى وصل عددها إلى سبعة عشر جهاز أمن، مستقلاً الواحد عن الآخر.
يستوجب التناسل الحاصل في أجهزة الأمن حكماً تضخماً مرعباً في أعداد منتسبيها، وخصوصاً في دولة عدّت الحفاظ على أمن نظامها في عالم متغيّر المهمة الأساس التي تغيب خلفها المهمات الأخرى المنوطة بمفهوم الدولة. وخُلقت منظومة عمل أمنية تعدّ كلّ مؤسسات الدولة والأحزاب والمجتمع المدني مجرد مواضيع أمنية مهمتها تكثيف الضغط الأمني على المواطن، وجعله مثقلاً بهاجس الملاحقة من هذا الجهاز أو ذاك.
إنّ التضييق على الحريات وخلق شعور عام لدى المواطن السوري بأنّه مراقب، على مدار الساعة، جعل من قيام معارضة مثمرة أمراً مستحيلاً، تحت سقف ظرف التعامل القمعي مع حركة الإخوان المسلمين، في نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، واستغلال النظام الأمني للتمرد المسلح الذي أعلنته «الطليعة المقاتلة» من أجل القضاء على كل مكونات الحركة السياسية السورية النشطة آنذاك، وشق الأحزاب القائمة لخلق أجسام حزبية هلامية تابعة، كما حدث مع الحزب الشيوعي السوري، والاتحاد الاشتراكي العربي وغيره. خلق ذلك فراغاً هائلاً في الحياة السياسية السورية الداخلية، لتتمحور حول مواقف سياسية يطلقها أعلى هرم السلطة، فترددها وسائل إعلامه ببغائياً، في محاولة لتسريبها إلى الشارع السوري الذي لم يمثّل قناعة تامة بعد بأنّ النظام القائم يتعرض لمؤامرات لها أول وليس لها آخر.
تركزت الوسيلة الأهم للسيطرة على الجيش على مفهوم «الجيش العقائدي» الذي حاول من خلاله نظام البعث الحاكم تحويل الجيش إلى مجرد ذراع عسكرية نظامي له. وفي سياق ممارسات الحزب القائد للدولة والمجتمع، منع النشاط الحزبي عن جميع الأحزاب السورية في أوساط الجيش على نحو تام، حتى تلك الأحزاب الهلامية الخاضعة للنظام، ومنع انتساب العسكريين إلى أيّ حزب آخر، تحت طائلة العقوبة العسكرية. وطبع العلاقات العسكرية بمضامين الاقتراب من مراكز القوى السائدة في الأجهزة الأمنية، حتى انتشر الفساد في أوساط الرتب العسكرية على نحو مذهل، مما يوحي بوجود خطة منهجية لترويج الرشوة والمحسوبيات في الأوساط العسكرية، في انعكاس شبه أوتوماتيكي لمشاكل الفساد في مؤسسات الدولة الأخرى.
كذلك اتبع النظام سياسة التمييز بين فرق الجيش ذاته. فعلى الدوام كانت هنالك فرق مفضلة، لها كلّ الامتيازات والأولوية على سواها، كالحرس الجمهوري، والفرقة الرابعة ذات السمعة السيئة فيما حدث في كلّ من درعا وحمص وبانياس، ويقودها حالياً العميد ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري.
تلك الأمور مجتمعة، تجعل من شبه المستحيل على الجيش السوري أداء دور إيجابي إلى جانب التحرك الشعبي السوري، أو على الأقل الوقوف على خط الحياد في المواجهة المتصاعدة بين النظام والشعب. حتى إنّ مشاعر الشفقة هي التي طبعت نظرة الشعب إلى الرتب الدنيا في الجيش السوري، باعتباره جيشاً لا حول له ولا قوة، أمام الأجهزة الأمنية. ولا شك في أنّ الجيش ذاته تغلب عليه مشاعر العجز، حتى إننا لم نسمع سوى عن رفض واحد لإطلاق النار في درعا، ذهب ضحيته الجندي الرافض للأوامر.
ورغم كلّ الضغط الأمني والحصار الخانق الذي يرزح تحت هوله المواطن، رأينا تصاعداً ومدّاً في التظاهرات، وتطوّراً طبيعياً في الشعارات التي تطالب بإصلاحات حقيقية وجذرية، على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى أن وصلنا إلى الشعار المتوقع «الشعب يريد إسقاط النظام». ماثَل ذلك تطوّر الأحداث في تونس، التي بدأت باحتجاجات سيدي بوزيد على الشرطية التي صفعت البوعزيزي، وانتهت بقلب نظام بن علي وأسرته الحاكمة. فهل ستكون خواتيم الأمور في سوريا مثلها في تونس ومصر؟ سؤال ستجيب عنه تطورات الأحداث في المدى القريب.

* كاتب فلسطيني مقيم في باريس