هناك خطاب ينتشر على نطاق واسع في البلدان العربيّة التي اندلعت فيها الثورات الشعبية لتغيير أنظمة الحكم. هذا الخطاب، الذي اخترق صفوف نخب سياسيّة وثقافيّة وإعلاميين وأكاديميين ورجال دين، يحاول ردّ كلّ المشكلات التي تواجه تلك الدول حاليّاً إلى الثورات. وكأنّ هذه الثورات ليست سوى قفزة متهوّرة خارج الفضاء العام الذي سيطر عليه النظام الاستبدادي لعقود طويلة، مخلّفاً هذا الكم من الكوارث الاجتماعية والاقتصادية. هكذا، يصبح عجز رجال الشرطة عن ضبط النظام في مباراة كرة قدم، أو وقوع إشكال بين مجموعة سائقين بسبب الازدحام المروري، مشكلة من مشكلات الثورة، لا نتيجة لبؤس الواقع القائم أصلاً الذي جاءت الثورة لتغيّره.يمثّل هذا الخطاب امتداداً عضويّاً للمقولات التي تحدّثت عن رشوة الملايين بوجبات «كنتاكي» في ميدان التحرير، في ثورة كانون الثاني/ يناير. إنّه ينظّر لـ«دونيّة الرعاع» ـــــ وهم غالبيّة الشعب في هذه الحالة ـــــ الذين يسهل شراؤهم وقيادهم. وعلى هذا النسق، فإنّ «الشعب المرتشي»، هو أيضاً، الشعب الكاذب والفوضوي والجاهل والضيّق الأفق، حسب مفردات خطاب هذه النخبة. لا ينظر هؤلاء إلى الثورة بوصفها فتحاً لمسار جديد في الاجتماع والسياسة، بل كاختبار نوعي، تتأكّد بعده فضائل «البسطار»
العسكري.
قد يكون من المجدي القول إنّ الثورة، فضلاً عن كونها فعل قطيعة مع إرث الديكتاتوريّة السيئ على كلّ المستويات، هي في العمق، فعل اعتراف. الثورة صاحبة حس عملي إلى حدود الجرأة، للاعتراف بأنّ مجتمعاتنا العربيّة تعاني كلّ أنواع المشكلات السياسيّة والثقافية والاقتصادية الممكنة. فرادة الفعل الثوري تتخطى حدود الاعتراف للتغيير، أي وضع برنامج طويل الأمد، للتخلّص من هذه المشكلات، وبناء مجتمع ونظام جديدين. في المقابل، يرتكز سلوك النخبة التي تُلخّص مشكلات المجتمع بنتائج الحالة الثوريّة، على مفاهيم الاستقرار وحماية الإنتاج القومي والسياحة، وهو المَعين ذاته الذي كان النظام القمعي ينهل منه لتأبيد سيطرته.
يُفترض بالقوى الثوريّة أن تشخّص أزمات مجتمعها تشخيصاً دقيقاً، يُحيط بكلّ جوانب الخلل.
لكن الأهم، أن تقفز عن محاولة إسباغ نوع من الرومانسية على العمل السياسي، فلا تسقط في أسر الخطاب الممجوج عن الوحدة والمسامحة ونسيان الماضي، بما يبرّر لها الدخول في مقايضات مع قوى النظام القديم تحت مظلّة «الحفاظ على الاستقرار». فقوى المجتمع السياسيّة ليست عشائر متناحرة تحل مشاكلها في ديوان عربي، بل تعبيرات عن فئات اجتماعية معتبرة تحمل رؤيتها الخاصة في السياسة والتغيير. ولا بدّ في هذا الإطار من أن يجري الصراع بهدف فرز هذه القوى على أساس موقفها من طبيعة النظام الذي يجب أن تتمخّض عنه الثورة. وبدون هذا الصراع اليومي والدؤوب، لن يكون هناك معنى حقيقي للعمل السياسي بوصفه فعل اشتباك.
إنّ صوت الثورة ينبغي أن يبقى قويّاً وثابتاً ومتردداً، فيُطلق كلّ الجديد المكبوت في أحشاء المجتمع، فيغطي على أصوات النخبة التي تصنع الفزع من التغيير والمستقبل، فتعيد بذلك ترديد صدى أصوات السلطة الزائلة.

* صحافي فلسطيني