لماذا يطلقون علينا جيل «أوسلو»، وعلى من جاؤوا بعدنا جيل«كامب ديفيد»، ألا نملك مدناً لنطلق اسمها على أجيالنا؟ لا حاجة لأن تكون عجوزاً متكئاً على عكازه لتحكي قصتك، فثلاثة عقود في هواء الصراع كافية لتخط شيئاً عن ماضيك البعيد والقريب. انت لم تعاصر النكبة، ولا النكسة. لم تذق طعم «انتصار أكتوبر» ولا مرارة اجتياح بيروت، لكنّك عاصرت شيئاً من الانتفاضة الأولى، حين فهمت بفوضوية طفولتك الهادئة، أنَّ للحجر معنىً في هذا المكان. تذكر تلك الليالي الشتوية، وأخبار الساعة الثامنة مساءً، حين يصمّم والدك على سماع النشرة الأردنية، ليطل غالب الحديدي (أين هو اليوم؟) ويحكي رقماً عن الشهداء في فلسطين. لم تحب الأخبار في حينه، لكنّك، مرغماً، لم تعارض مشاهدتها. كنت تصمت مقموعاً أمام تلك النشرة، فإذا طلبت تحويل المحطة لمشاهدة فيلم عربي، تتذكر أمك على الفور أنّك لا تزال مستيقظاً، وأنَّ الساعة تقترب من الثامنة والنصف، وموعد النوم قد حل. لذا، تصمت، تشاهد الأخبار عوض الخلود إلى النوم. تحاول أن تعشق ما تراه عينك، وتجد نفسك منسجماً مع الخبر. ترى أطفالاً في جيلك يرمون حجراً، وتغضب خائفاً من جندي يطلق النار. حين تنتهي الأخبار، ينظر والدك إليك بعين متسائلة دون حديث، فتخلد إلى نومك فوراً، وتحلم بأنَّ الجنود يطاردونك، بعد انتهاء لعبة لكرة القدم بين فريق الحارة الذي تسكن وفريق الحارة المجاورة!■ ■ ■
تعرف أنَّ يوم الخميس، هو اليوم الوحيد المسموح فيه السهر. لا أحد ينظر إليك باستغراب إلى حين إغلاق المحطات. تسمع النشيد الوطني الأردني، وأحياناً السوري، لكنّك لم تسأل يوماً عن النشيد الوطني الفلسطيني. تعرف كلّ الأغاني عن فلسطين، إلا نشيدها الوطني؛ تعرف العلم، لكنّك لا تلمسه. تراه في التلفزيون، وتسمع عن سجناء يقضون شهوراً خلف القضبان بتهمة «رفع العلم». تذكر جيداً مسيرات يوم الأرض التي تعج بالبشر وخطابات لا تفهم منها شيئاً سوى «نحن». تذكرها حين كنت تمشي بين الجموع، طفلاً بين الكبار، تمسك بفستان والدتك التي تصفق مع الشعارات الصاعدة، ولا ترى من الأسفل سوى الحناجر، ولا تسمع سوى الضجيج. عندما أكبر، تقول لنفسك، سأصير مثلهم، طويلاً لأشاهد حجم المسيرة وبحر الناس، إلى حين تطلب والدتك من أحد الشبّان أن يرفعك على كتفه. وأنت على الأكتاف، ترى ذلك المشهد مبتسماً فيضربك هواء آذار برفق الربيع، ليأتيك النسيم ضاجاً مع أصوات البشر، وتتمنى أن تبقى صغيراً كي يرفعوك دائماً.
■ ■ ■
تعي جيداً أنّك تربيت في بيت مسيّس. ينتمي إلى جهة ما. تعرف أنّ المكان الذي تنتمي اليه هو الصحيح، وكلّ ما حوله خطأ. هكذا تعلمت، وهكذا تربيت، وهكذا اقتنعت أيضاً. تكبر أنت حتى اشتعال الشهوات فيك. إنّه جيل التعصب للحزب الذي يصوّت له شقيقك الأكبر، ولفريق قريتك لكرة القدم. تهرب من الحصة الأخيرة نحو الملعب، لكنّك تقف عاجزاً حين يلعب فريق قريتك مع الفريق الذي جاء من مدينة أمك عكا، من ستشجع إذًا؟ تفضل، في هذه اللعبة بالذات ألا تتغيب عن الحصة الأخيرة.
في الأسبوع التالي، تهرب مرة أخرى. تصل المكان وتبدأ بشتم حكم المباراة، كما يفعل الجميع في الملعب. لا تفكر كثيراً لماذا يشعر أهل قريتك بأنَّ الحكم دائماً يظلمهم، حتى قبل أن يحتسب ضربة الجزاء. تكتشف بعد سنوات أنَّ هؤلاء الناس، ببساطة، لا يثقون بحكم التاريخ أصلاً. في حياتهم، الحكم دائماً «ابن الزانية».
■ ■ ■
سنوات تمر، بين اشتعال أيام الأرض وبين «أوسلو». اسم جديد يدخل أفق المكان. في كلّ مكان يتحدثون عن السلام ونهاية الصراع. أبو عمّار آتٍ على فرس بيضاء. تشعر بأنَّ السلام انتصار، هكذا يقولون، فتصدّقهم. أنت الذي لم تتداخل الصراعات في حياتك، تشعر بأنَّ شيئاً ما يحدث في العالم. في تلك الحقبة، وعند ظهيرة السبت المسالم، تسرع مثل المئات من أهل بلدك نحو الناصرة. هناك اجتماع جماهيري ضخم دعماً للسلام. ها أنت في الناصرة، والعلم موجود، بألوانه التي تعرفها، هي الألوان ذاتها التي لم تتغير. عندما كنت ترسمه، في البيت، لا في المدرسة، كنت دائماً، تخطئ وتبدّل الأخضر بالأسود، لكنَّ ذلك الخطأ يختفي من الأعلام في الناصرة. العلم يعلو، قماش لا ورق. هنا في الناصرة، حيث تجدد الأمل أو ولادته. لكن كلّ الأعلام الفلسطينية التي شاهدتها في ذلك المهرجان كانت معلقة بسلك حديدي بعلم إسرائيلي. ألم يحل السلام؟ لا يزعجك مشهد العلم الإسرائيلي، لماذا سيزعجك؟ القائد الذي تحب يحكي عن السلام، إذاً فهو آتٍ حقاً، فالقائد يعرف.
لم يكن المهرجان سياسياً، كان كرنفالاً احتفالياً، وما العيب في ذلك؟ الضحك يعلو حين نمضي إلى الطابور، ونقف ساعة بانتظار ساندويش المشاوي، لا الفلافل. أوسلو قادم، حقاً قادم. فرح يخيم على ساحة العين، حتى يخيّم الظلام على المدينة التي أطلقنا عليها قبل أوسلو «ركن الجليل». يسير الباص بهدوء الليل، عائداً نحو قريتك التي أتيت منها. هدوء يخيّم على ظلمة الحافلة. لا تعرف لماذا لا يشتعل الباص بالأغاني الوطنية، كما اعتدت من قبل.
تقتحم الحافلة هدوء القرية المظلمة غير المتيقنة إلى «أوسلو» ولا لغيرها من العواصم. تمشي في الشارع عودة إلى الحي، تريد أن تحكي أنّك رفعت العلم الفلسطيني في الناصرة، لكنّك لم تستطع سرقته، فالرفاق جمعوا الأعلام. تمشي ومن معك باتجاه الحيّ. كان «واي» (الاسم محفوظ في الذاكرة) يجلس على أحد الجدران المجاورة، إلى جانبه كيس ورق فيه 5 قنان من بيرة «مكابي»، وعلبة سجائر «تايم». لم تر منه شيئاً سوى جمرة السيجارة من بعيد. إنّه «واي»، ذلك الرفضي الذي يكرهنا، دائماً يكرهنا، قال لنا القائد إنّه «مدسوس». وقفنا إلى جانبه، سألنا أين كنتم، قلنا في الناصرة، في تظاهرة لـ«أوسلو»، لماذا لم تأت؟ سألناه. كنا نعتقد أنّ كلّ الناس يؤيدون أوسلو في قريتنا، فإذا تصالح الاسرائيليون وعرفات فلما لا نتصالح مع «واي» المدسوس من الحزب الذي يفتعل المشاكل في كلّ يوم أرض؟ بدأ «واي» يشتمنا ويشتم عرفات... ماذا؟ ماذا؟ هل انت سكران؟ عرفات؟ تشتم عرفات... وبدأ يتحدث. لم نتقبل كلمة واحدة منه، لكنّي أصغيت.... لا لا لا لا أريد أن أصدّق أنّ اوسلو سيئ، هذا مدسوس... أنهى «واي» نقاشه، لكنّ نقاشك مع ذاتك، بعباراته الأولية، لم ينته. فملامح الانتفاضة في ذهنك المراهق تأخذ مساحة لا بأس بها. قلنا للرفيق في اليوم التالي «ماذا نفعل؟ هناك من لا يحب أوسلو». فابتكر الرفيق (طبيب اليوم) نظرية التفاحة خاصته، ليست كتلك التي ابتكرها نيوتن وقال: «اذا سرقوا منك تفاحتك، وجاؤوا بعد حين وقالوا لك خذ جزءاً منها. فلماذا لا تأخذ جزءاً منها؟، تسكت جوعك قليلاً، ومن بعدها تفاوضه على ما تبقى من التفاحة». نظرية التفاحة إذاً. أين هو ذلك الحقير المتسكع في زقاقات القرى؟ اين هو ابن الزانية المدسوس؟ لماذا لا يجلس ليثمل على سور «الطلياني»، لنخبره عن التفاحة، لا بد أنّه سيقتنع. لكن مرّت السنوات دون أن تراه على ذلك الجدار، فقد غيّر مكانه، وصار يشرب البيرة على مقربة من مصنع حجارة البناء، وهي منطقة محظورة يملأها «السكارى والحشاشون»، وأنت لم تحك لأحد قصة التفاحة. وتكبر في حينها دون الحاجة الماسة للسياسة. تراقب نفسك أكثر، وتقلل من نشاطك السياسي. ماذا ستعارض؟ كلّ شيء على ما يرام. تلتفت الى شاربك الرجولي المسودّ، وهو في أول ملامحه، وتحلم بأن تحلقه كي تري حبيبتك أنّك رجل فتتمرد. تنظر الى نفسك بالمرآة، ولا تلتفت لأوسلو، لا شيء يهمك اليوم، كل شيء على ما يرام. وأهل قريتك أيضاً على ما يرام. ها هم في أيام «أوسلو» يحبون غزّة، وها هي غزة تتحوّل الى مزار للرحلات، والتقاط صور. التظاهرات قليلة، لكن الحب أكبر... وها هي جنين تعود مرة أخرى لتكون «مول» المشتريات لـ«عرب إسرائيل»، يذهب الناس الى هناك، ويعودون. لا أحد يحكي عن شيء سوى أسعار الخضر والفاكهة، ولحمة الخروف الرخيصة: «كيلوغرام لحمة وطحينة وحمص بسعر وجبة واحدة هنا»، يصرخ ابن عمك في الحي متلهفاً...
سنوات تمرّ، وحده الزمن يقرّر أنّك تابع لجيل صار اسمه بفعل السنوات «جيل أوسلو». لا تذكر شيئاً من تلك المدينة، لا تعرفها اصلاً، ولم تعرف في حينه أنَّها مدينة. كلّ ما في الأمر أنَّك عايشت الاحتفال، فصرت منه. كبرت أنت، والاحتفال عالق في تفاصيلك اليومية. أنت الذي لم تزر حيفا وحدك في أيام «الاتفاق»، تقفز عن كلّ المدن والسواحل لتعيش أوسلو، وتصبح، دون أن تختار، «جيل أوسلو». تفرح لتسميتك وتكبر... حين تبلغ تنظر الى ذلك الزمن بحزنٍ. لماذا يطلقون علينا جيل «أوسلو»، وعلى من جاؤوا بعدنا جيل «كامب ديفيد»؟ ألا نملك مدناً لنطلق اسمها على أجيالنا؟ ليتهم اطلقوا علينا اسم «جيل عكا»... كانت أمي ستفرح، وأنا أيضاً كنت سأزور البحر.
* من أسرة «الأخبار»