لا نحتاج إلى ضرب المندل. يمكن معرفة ما سيذكر التاريخ اللبناني المحلّي بالتحديد عن وليد جنبلاط: ستتلخّص مسيرته السياسيّة الطويلة بكلمة واحدة: «ويكيليكس». «لا أكثر ولا أقل»، كما يردّد هو دائماً. من كلّ فضائح «ويكيليكس» وقاذوراتها في لبنان، لم يذهب أحد أبعد من وليد جنبلاط. سمير جعجع بدا متحفّظاً بالمقارنة. ماذا تقول عمن كان يطالب الحكومة الأميركيّة بعدم وقف النار أثناء عدوان تمّوز وبعدم الالتفات إلى المطالبة الشكليّة من البعض في فريق 14 آذار بوقف النار؟ (يبلغ الغرور والصلف بالبعض في لبنان، إلى درجة أنّهم يظنّون أنّ ارتهانهم وولاءهم الذيلي للأجندة الأميركيّة يعنيان أنّ زعيم 80% من 6% من شعب مسخ الوطن يستطيع أن يملي على الإدارة الأميركيّة ما يشاء ـــــ كم يهزأون بهم في سرّهم وفي علنهم. هذا الغرور هو الذي يدفع بجنبلاط إلى تطيير برقيّات تهنئة وتعزية لزعماء ووزراء حول العالم، لظنّه أنّ العالم يحرص على أفضل العلاقات مع مملكة الشوف)؟ ماذا تقول عن رجل عبّر للسيّد الأميركي المُطاع، عن قلقه لأنّ سطوة الجندي الإسرائيلي و«هيبته» زالتا في نظر الرأي العام العربي؟ ماذا تقول عن رجل حثّ جيش العدوّ على دفع جنوده لاجتياح لبنان؟ هل يظنّ وليد جنبلاط أنّ أهل الجنوب وحدهم (وأنا منهم ومنهنّ) هم الذين سيكنّون ضغينة لكلّ من تواطأ مع عدوان العدوّ الإسرائيلي (لعلّ كلمة العدوّ الإسرائيلي تخدش مشاعره الحضاريّة)؟ بعد كلّ هذا، هناك منّا من يشعر بالغثيان كلّما ورد اسم فلسطين على شفتي جنبلاط. اترك فلسطين يا وليد جنبلاط. لم تعد تستحق الكلام عليها البتّة، بعدما اعترفت بصحة وثائق «ويكيليكس» المتعلّقة بك. لا يذكر فلسطين من يبعث برسائل نصح إلى العدوّ، أثناء عدوانه.تستطيع أن تتجاهل وليد جنبلاط، وتستطيع أن تنتظر يوم تنجح الطائفة الدرزيّة في التخلّص من ترسّبات عهود الإقطاع والاستعمار، كما نجحت طوائف أخرى في لبنان. تستطيع أن تأمل في يوم يبلغ عنده النضج الشعبي حدّاً يرفض معه التعايش مع القصور، على أنواعها وطوائفها. كيف تأخذ جنبلاط على محمل الجدّ بعد اليوم، وخصوصاً أنّه هو لا يبدو أنّه يأخذ نفسه على محمل الجدّ؟ لم يبلغ رجل سياسي لبناني الدرك الذي وصله جنبلاط من حيث انعدام المبدئيّة والتقلّب والتلوّن والحربائيّة والزئبقيّة. قل (وقولي) مدرسة عريقة في الانتهازيّة السياسيّة التي لا تعير إلا كنز المال الاعتبار الكبير. ذهب من أقصى اليسار (كان هو إلى جانب القوى اليساريّة، فيما كان كمال جنبلاط يدين تحرّك اليسار في تظاهرات 1969، كما دان الأخير اليسار عام 1975 إثر تظاهرة صيدا ضد شركة «بروتيين») إلى أقصى اليمين، ولكن من الواضح أنّه لا يرتاح إلّا في موقع اليمين. يتمتّع جنبلاط، لا شكّ، بشيء ما يعطيه نفوذاً يفوق حجم زعامته (والزعامات الطائفيّة لا تُقاس إلا بعدد أبناء ـــــ البنات منسيّات في الحسابات الطائفيّة ـــــ الطائفة فقط). إنّ الشخصيّات اللبنانيّة التي لا تتمتّع بحد أدنى من الكاريزما أو من المعرفة، وهي تدفع بمستمعيها إلى نوم مُبكّر في منتصف النهار، تجعل من جنبلاط شخصيّة مسلّية بالمقارنة. لكن هذه التسلية لم تعد مُسلّية بعد انكشاف دور جنبلاط الحقيقي. ماذا لو تسرّبت وثائق «ويكيليكس» إسرائيليّة؟ ماذا كانت عساها ستكشف؟ ماذا كانت ستكشف، مثلاً، عن ذلك اللقاء الذليل مع شمعون بيريز في 1982 (تقارن ذلك بموقف سليم الحص المبدئي والشجاع في 1982 الذي أصرّ على الالتزام بمقاطعة إسرائيل، ورفض التعاطي مع ممثّلي العدوّ الذين غزوا بيته).
كذلك، فإنّ وليد جنبلاط يعرف أن يصوغ أفكاره باختصار شديد، وبشيء من السخرية، وهذا يجعله مرغوباً من الشاشة وجمهورها، مقارنة بأشباه الأميّين من أمثال سعد الحريري، أو من الذين يجسّدون الملل القاتل، مثل أمين الجميّل، أو مثل الذين ينطقون الجُمَل بسرعة جملة واحدة في الساعة، مثل الصحافي العريق والكاتب الأديب، الماريشال المتقاعد للّو المرّ. وجنبلاط يعرف كيف يبهر النخبة البورجوازيّة التي يتوق لنيل إعجابها: يكفي الاستعانة بكلمة فرنسيّة هنا وكلمة إنكليزيّة هناك، ويكفي الاستشهاد بكتاب يميني صهيوني يوماً، وكتاب يساري يوماً آخر، كي تصيح البورجوازيّة اللبنانيّة: آه، مثقف. وثقافة الطبقة البورجوازيّة اللبنانيّة ضحلة إلى درجة أنّ مقالة لفريد حبيب تبهرها.
ودار وليد جنبلاط، أو هكذا يُراد لنا أن نصدّق. تستطيع (أو تستطيعين) أن تكتب مقالة أو دراسة تثبت فيها أنّ وليد جنبلاط تبنّى، منذ 1977، خطّاً يمينيّاً أضرّ بمسيرة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والمقاومة الفلسطينيّة. نعلم مثلاً أنّه قاد مسيرة تدجين الحركة الوطنيّة اللبنانيّة وتقزيمها، وتحوير مسارها المعارض للنظام السوري (وهذا التحوير قلّل من الإمكانيّة الثوريّة للحركة). هو الذي قاد الصلحة المُدمّرة مع النظام السوري في 1977: صلحة لم تؤدِّ إلا إلى منع تطبيق برنامج مواجهة فعلي لدحر الميليشيات الفاشيّة في لبنان، والانتصار عليها. ثم نتذكّر أنّه، رغم ادعاءاته والتزامه المُفترض بالشعار الصائب عن «عزل الكتائب»، كان يرسل إشارات انعزاليّة يمينيّة معادية للشعب الفلسطيني إلى أقطاب الجبهة اللبنانيّة (كما روى لنا بولس نعمان في مذكّراته). كما أنّ سمير فرنجيّة (الذي لا يزال البعض يطلق عليه صفة اليساري مع أنّ تجربته مع اليسار لم تستمرّ أكثر من سنة أو أقل، في سنوات يفاعته، ولأسباب تتعلّق بالصراع داخل عائلة فرنجيّة) كان صلة الوصل بين جنبلاط وبشير الجميّل ـــــ أسوأ لبناني على الإطلاق (يروي سمير فرنجيّة في كتاب جوناثان راندل، «الذهاب إلى الآخر»، أنّ علاقته بعائلة سليمان فرنجيّة توثّقت بعد مجزرة إهدن، لأنّه كان يحذّرهم دوماً من «السفّاحين» الكتائب، ص. 129). كما أنّ جنبلاط التزم بثبات، عبر العقديْن الماضيين، مصلحة آل سعود وآل الحريري في لبنان، وسوّق لأكثر المواقف السياسيّة يمينيّة ورجعيّة (صحيح أنّه كان يتذكّر الطبقة العاملة لبضعة أيّام عندما يتأخر الدفع الحريري له، وسرّبت الصحف في التسعينيات خبراً عن الحريري قال فيه إنّ إسكات جنبلاط سهل بواسطة المال). يكفي أنّ ما يُسمّى استدارته الأخيرة لم تغيّر من ولائه المطلق لآل سعود. يجب أن يصبح نصّ برقية تعزية جنبلاط للملك السعودي، بعد وفاة شقيقته صيته، مدرجاً في المنهج المُقررّ في مادة التملّق لأمراء النفط في الجامعات العربيّة. والمّذلّ (له لا لنا) أنّه لم يتوقّف عن التملّق لآل سعود، حتى بعدما أبلغه الأمير مقرن بالواسطة أنّ علاقة الحكومة السعوديّة به قد توقّفت بعدما أيّد تسمية نجيب ميقاتي دون إذن من المملكة. كما يقولون باللغات الأجنبيّة: كم من طريقة لقول «لا»؟
ومناسبة العودة إلى جنبلاط هي خطبة مزعجة له أمام جمعيّة متخرجي الجامعة الأميركيّة (وجمعيّتا متخرجي الـ«آي سي» والجامعة الأميركيّة هما جمعيّتان للاحتفاء بالصفاء الطبقي، وبأهميّة وراثة المال والجاه، وإن كنتُ قد نكبتُ بالتخرّج من الاثنتيْن). واستذكر جنبلاط على طريقته من فضّل من أساتذته في الجامعة: نوّه بواحد من الرجعيّين، يوسف إيبش (الذي كان يروّج لآل سعود في صفوفه، ولعلّ هذا راق مَن يصف الملك السعودي الأمي بـ«الرجل الرجل». درستُ مع إيبش مادة عن السعوديّة، وكنّا نتناطح باستمرار، وخصوصاً أنّي أشرت إليه أنّه يستخدم الوقت الثمين للترويج لآل سعود). لكن من حق جنبلاط أن يذكر فضل من لقّنه الرجعيّة في الجامعة. يقول إنّه «تثقّف»، وصقل شخصيّته، في مقاعد تلك الجامعة المبنيّة على الفكر الاستعماري التبشيري. هذا حقّه. لكن الطريف أنّ خطبة جنبلاط المذكورة في مطلع الأسبوع كانت شبه سيرة ذاتيّة: بدا زعيمكم (وزعيمكنّ) الطائفي مريداً لمدرسة ما بعد الحداثة الفلسفيّة: طفق يردّد أنّ لا حقيقة مطلقة هناك، وأنّه تعلّم أنّ «كل شيء» نسبي. مفيدة هذه اللحظة الما بعد حداثيّة لوليد جنبلاط، إذ إنّها تعطي بعداً فلسفيّاً (مهضوماً، بمقياس الطبقة البورجوازيّة السمجة) لانعدام المبدئيّة عنده، فيصبح انعدام المبدئيّة موضة، أو فكراً مميّزاً. طريف اكتشفاف جنبلاط لخلاصة ما وراء حداثيّة، كي يبرّر عدم التزامه بأيّ من المبادئ التي لا تزال مرصوصة في أدبيّات حزبه (والحزب كان جزءاً من التركة العائليّة).
لكن جنبلاط، وكان يخطب في الحفل البورجوازي بوجود سفيرة الولايات المتحدة التي عانت من نشر الـ«ويكيليكس»، قال ما يريد أن يقوله في الفقرة اليمينيّة الرجعيّة في آخر خطابه عن «العقل الأسير». سُرّ جنبلاط بمقولة «العقل الأسير»، وردّدها في الخطاب بالعربيّة (وبالإنكليزيّة، كي تفهم سفيرة الولايات المتحدة الإشارة الأيديولوجيّة). والاسم عنوان لكتاب معروف للكاتب البولوني تشيلاو ميلوش، وقد صدر في أوائل الخمسينيات، ونال إعجاب الدوائر اليمينيّة المعادية للشيوعيّة، ما أسبغ الكثير من الألقاب والجوائز والميداليّات على الرجل، الذي أصبح أستاذاً للغات السلافيّة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. والكتاب المذكور أصبح جزءاً من المنهج اليميني المقرّر في أميركا في الحرب الباردة، وكان مؤسّس مجلّة «ناشيونال ريفيو»، ويليام إف بكلي، دائم الاستشهاد بالكتاب، ويستعين به في دعايته الفكريّة المحافظة. (كرّمت دولة العدوّ الإسرائيلي ميلوش في نصب «ياد فاشيم» بذاته).
لا أدري ماذا دفع بجنبلاط للاستشهاد بكتاب ميلوش بالتحديد، لعلّ ذلك مرتبط بمزيد من التملّق للإدارة الأميركيّة وإن فاته أنّ الهوس بالخطر الشيوعي قد أبدل بالخطر الإسلامي (الذي يتحالف هو مع شق إرهابي منه، بمفهوم الإدارة الأميركيّة). تأخّر جنبلاط باللحاق بالأجندة الأميركيّة المعادية للشيوعيّة، بضعة عقود: لعلّه يعوّض عن سنوات تحالفه الهشّ مع الحزب الشيوعي اللبناني ومع الاتحاد السوفياتي. لعلّ جنبلاط يعتبر أنّه تحرّر من أسر اليسار الذي سيطر على عقله لفترة (لم تتعدّ الأيّام، ربّما). هذا حسابه هو، ومن حق الزعيم الطائفي أن يُسقط معاناته ومشاكله على العامّة. لكن الكتاب لا علاقة له بتجربة اليسار العربي أبداً. والكتاب لم يحظ بإجماع في تأييده (يجب قراءة نقد توني جوضت له في «نيويورك ريفيو أوف بوكس»). يحاول ميلوش أن يفسّر انجذاب عقل المثقّفين للفكر اليساري، وكأنّ الأمر مؤامرة أو نتيجة ضعف عقلي (أو ضعف في الأمعاء، كما قال في ما بعد عن الذين لم يقعوا أسرى للفكر الشيوعي). ربما كان ميلوش يتحدّث عن تجربته هو لأنّه كان مرتبطاً عضويّاً بالنظام الشيوعي البولوني، قبل أن ينشقّ عنه (وطبعاً، تلا الانشقاق حصوله على جائزة نوبل، ما يعني أنّ عبد الحليم خدّام ممكن أن يحظى بجائزة نوبل للآداب، عن كتابه الأخير عن الخطر الإيراني).
لكن نقد جوضت للكتاب كان صائباً. المشكلة ترتبط بسمات من الولاء الأيديولوجي المطلق في فئة المثقّفين في أوروبا الشرقيّة. الالتزام بالعقيدة الشيوعيّة الجامدة سبق التزاماً أيديولوجيّاً أكثر صرامة بعقيدة حلف الـ«ناتو». لم نسمع أصواتاً، إلا همساً، تندّد بقمع الغجر في أوروبا الشرقيّة، ولم نسمع أصواتاً تندّد بالصعود السريع للكنيسة الرجعيّة المُتحالفة مع الليبراليّة هناك (مثلما تتحالف الليبراليّة العربيّة مع هيئة كبار العلماء في السعوديّة). ليست الستالينيّة هي النسق الوحيد للفكر الجامد والمغلق، إذ إنّ هناك نسقاً أميركياً أيضاً، وإن استعان بشعارات برّاقة وزاهية ـــــ أيّ أنّ العقل الأسير يصبح أسيراً مرتيْن، والتحرّر من الأسر أصعب بكثير. سقطت طبقة المثقّفين في الحقبة الستالينيّة، لكن التجربة تدينهم أكثر مما تدين الفكر الماركسي ذاته. وها هي تسقط اليوم في حقبة سيادة الإمبراطوريّة الأميركيّة.
لكن فكرة «العقل الأسير» لا علاقة لها البتّة بتجربة اليسار في لبنان، بصورة خاصّة. فميلوش كتب عن أنظمة كانت تفرض الفكر الشيوعي الستاليني بالملعقة والمسدّس. الفكر الشيوعي في العالم العربي لم يكن، إلا في حالة جنوب اليمن الاستثنائيّة التي تعرّضت للنحر على يد النظام السعودي، مفروضاً ولم يكن فكر السلطة إطلاقاً. كان فكر المعارضة والتحرّر والانقلاب بصرف النظر عن خطايا النموذج البكداشي/ الشاوي/ الحاوي للشيوعيّة العربيّة، مما أدّى إلى شللها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. يقول جنبلاط: «العقل الأسير جعلنا نؤمن أنّ الطريق الى القدس تمر بجونية». طبعاً، هذا الكلام لا معنى له، لأنّ الإيمان بالثورة الفلسطينيّة كان طوعيّاً، وليس مفروضاً على طريقة الأنظمة الستالينيّة في أوروبا الشرقيّة. أيّ أنّ الاستشهاد بعنوان الكتاب لم يكن صائباً ـــــ لمَن قرأ الكتاب. لكن ذكر اسم الكتاب قد يكون كافياً لدفع الطبقة البورجوازيّة في لبنان الى التنهّد والقول: آه، كم أنّه مثقّف. ثم، ماذا يعني أنّ العقل الأسير جعلنا، إلى آخر الجملة. من دفع من، ولماذا؟ هل كان هناك من ضغط على جنبلاط كي يردّد شعارات لم يكن يؤمن بها؟ هذه هي مشكلته (النفسيّة وقد أقرّ بأنّه رسب في مادة علم النفس في الجامعة) وليست مشكلة قابلة للتعميم على العامّة، ولا حتى على أبناء الطائفة الأسيرة وبناتها. ثم لماذا هو يسخر، على طريقة كلّ كتّاب اليمين الكتائبي القوّاتي في لبنان، من شعار «تحرير فلسطين يمرّ في جونية»؟ والشعار من سبك جورج حبش واستعاره أبو إياد في سياق خطاب جيّد له، حوّره عن قصد عنوان خبيث في جريدة «النهار»، لدوافع التحريض الطائفي الذي امتهنته الجريدة منذ أن خلف غسّان تويني أباه في إدارتها. أبو إياد كان على حق في خطابه وشعاره (الذي لم ينحصر في جونية)، ونحن نتيقّن من ذلك كلّ يوم، وإن كان أبو إياد قد نسي أن يضيف «المختارة» إلى خريطة طريقه لتحرير فلسطين الغالية.
ويضيف جنبلاط إنّ العقل الأسير «أنسانا استخبارات ناصر في مصر وسوريا»، وتذكّر فرج الله الحلو أيضاً، هكذا فجأة. لكن جنبلاط، إذا أرادنا أن نبقى في سياق عنوان كتاب ميلوش، أثبت أنّ عقله لا يزال أسيراً، لا للمال النفطي وحسب، بل للفكر السعودي المُهيمِن على عقله. وكان سهلاً على جنبلاط أن يتذكّر استخبارات ناصر، وأن يتناسى طوعاً استخبارات الحكم السعودي الوحشي (كان يجب أن يحضر حفل تقليد الأمير نايف الدكتوراه الفخريّة من قبل فؤاد السنيورة حامي الحريّات العربيّة). إنّ عقله الأسير دفعه الى نسيان المُعارض السعودي، ناصر السعيد، الذي اختطف في صندوق سيّارة وزال من الوجود. عقل جنبلاط الأسير يفرض عليه أن تبقى انتقاداته للقمع محصورة بتلك الأنظمة التي كانت معارضة للحكم السعودي.
يريد جنبلاط أن يرسم معالم مرحلة جديدة أو يريدها أن تبدو جديدة، فيعلن أنّ العصر الحالي لا يشهد «دولاً مُهيمِنة» (مع أنّه أضاف إلى النصّ المكتوب، عندما قرأه عبارة «بعد فيه شوي»). هكذا لخّص وليد جنبلاط سمات العلاقات الدوليّة في حقبة لم تشهد من قبل سيطرة احتكاريّة من دولة واحدة كما هي الحال اليوم مع نشر الجيوش الأميركيّة حول العالم (في أكثر من 130 دولة). فات جنبلاط كلّ ذلك، واعتذر في سرديّته الساخرة عن عبارة «الإمبرياليّة الأميركيّة المتوحّشة» عندما تطلّع صوب السفيرة الأميركيّة وقال (مُبرّراً) إنّهم هكذا «كانوا» يتحدثون عن أميركا، آنذاك. وشبّه جنبلاط الأيديولوجيا الشيوعيّة (ما سمّاه «الأحزاب العقائديّة») بالسلوك البافلوفي. لا ينطبق الولاء المطلق من وكلاء الأمير مقرن بن عبد العزيز على المثال البافلوفي. ينطبق فقط على اليسار. كم أنّ عقله لا يزال أسيراً، وهو يتصنّع التحرّر. طبعاً، يريد جنبلاط أن يقول إنّه تحرّر بالكامل من سطوة الفكر اليساري، لكن كثيرين وكثيرات (وأنا منهم) يعتقدون أنّ الرجل لم ينتم يوماً إلى الفكر أو الممارسة اليساريّة في زعامة ورثها كما يرث المرء طاولة قديمة أو قطعة أرض.
وبعدما تكلّم جنبلاط على الثورات العربيّة بصورة عامّة ومعمّمة، حتى لا يحرج حلفاءه من الطغاة، أنهى بالسخرية من القول «يا عمّال العالم اتحدوا»، وعزاه إلى لينين، مع أنّ كلّ من درس ساعة فقط من التراث الماركسي يعلم (وتعلم) أنّ القول جاء في ختام البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك إنجلز. إنّ هذا النمط من الاستسهال في التعاطي مع الحقائق، ومع المبادئ، سمة أساسيّة من سيرة وليد جنبلاط. لن يتحدّث التاريخ عن إنجازات له، إلا من باب الإسهام في وحشيّة الحرب الأهليّة وفظائعها. لم يشغل وليد جنبلاط جيشه الشعبي بالحرب على إسرائيل، لكن الحرب الطائفيّة في الجبل (التي تتحمّل القوّات اللبنانيّة (الإسرائيليّة) مسؤوليّة إشعالها) ألهمته في الليالي الحالكة.
لجنبلاط حلفاء وأصدقاء من كلّ حدب وصوب، لكنّه يعاني ضعفاً يعانيه غيره في لبنان نحو الرجل الأبيض. لا يستطيع أن يقاوم زيارات كلّ مندوبي السفارات الأوروبيّة والسفارة الأميركيّة. يصرّ على استبقائهم للغداء والعشاء. هل تتصوّر (أو تتصوّرين) أنّ البيك الجنبلاطي (هل يحتاج أهالي مسخ الوطن إلى أن نذكّرهم بأنّ الألقاب التي يزهو بها ورثة الزعامات الطائفيّة في لبنان كانت تعبيراً عن الطاعة من أجدادهم للوالي العثماني؟ ليس هناك ما يستحق أن يُزهى به) يمكن أن يستبقي على وجبة طعام سفير دولة أفريقيّة مثلاً؟ لعلّ جنبلاط عندها، يخلط بينه وبين جيش الخدم والحاشية في القصريْن (وبين القصريْن سيرة عطايا حريريّة وإيرانيّة وليبيّة وسعوديّة وغيرها).
يطالب وليد جنبلاط بالديموقراطيّة، وقد تربّع على عرش حزبه وطائفته، لأربعة عقود ونيّف. وهو يعدّ ابنه للخلافة. وجنبلاط يترأس حزباً اشتراكيّاً مع أنّه تحالف لعقدين ونيّف مع أسوأ رمز لتطبيق الرأسماليّة المتوحّشة في لبنان. أي هو غير مسؤول ولا يخضع للمساءلة، ويستطيع أن يتنقّل برشاقة من معارضة مقاومة إسرائيل وإسداء النصح لجيشها أثناء عدوانه، إلى مقلب آخر في «تحالف» (كاذب) مع مقاومة إسرائيل، وبات يتلقّى القبلات على وجنتيْه من رئيس كتلة المقاومة في مجلس النوّاب.
لم يكتب ميلوش كتابه عن لبنان أو عن العالم العربي. كتب عن زمن ومكان آخرين. ولكن لو كتب عن لبنان، لكان كتب عن العقل الطائفي الأسير. ولكان الرفيق رائد شرف قد ابتدع رسماً للغلاف مُستوحى من صورة لقصر المختارة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)