يحتاج المرء، هذه الأيام، إلى قدر كبير من الجهد، لمقاومة البارانويا وتفادي الوقوع في سحر «نظرية المؤامرة». وبالرغم من أنّني غير مولع بالتفسير المؤامراتي للأحداث، إلا أنّني ممن يؤمنون بأنّ رفّة جناح فراشة تستطيع أحياناً أن تولّد إعصاراً على الطرف الآخر من الكوكب، كما يقول أنصار «نظرية الفوضى» الفيزيائية. خذ، مثلاً، القرار الأخير لمجلس النواب الأميركي برفض مقترح الرئيس أوباما بـ«التدخل العسكري المحدود»، ضد نظام العقيد القذافي في ليبيا. لا شك في أنّ كثيرين، مثلي، فوجئوا بالاستفاقة الأخلاقية المتأخرة للأغلبية النيابية الجمهورية، وتساءلوا عن سر تحوّل الأغلبية ذاتها التي مثّلت «صقور العهد البوشي» إلى حمائم سلام! المتتبع للشأن الأميركي يلحظ، منذ أشهر، عودة قوية لـ«النزعة الانعزالية»، التي كانت في الأصل وراء إيصال بوش الابن إلى البيت الأبيض، قبل أن تأتي هجمات 11 أيلول/ سبتمبر لتعكس توجهاته 180 درجة. ومع صعود متطرفي التيار المحافظ «حزب الشاي»، عادت الانعزالية لتسيطر على الحزب الجمهوري، فأصبح أبرز أقطابه ـــــ بمن فيهم أبرز ثلاثة مرشحين لانتخابات الرئاسة المقبلة: ميت روني (حاكم ولاية ماساشوسيتس السابق)، جون هونسمان (السفير الأميركي السابق في الصين)، وتيم باولنتي (حاكم مينيسوتا السابق) ـــــ يؤيدون انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، ويطالبون بأن تكفّ الولايات المتحدة عن أداء دور «شرطي العالم».
من هذا المنظور، قد لا تكون «الصفعة البرلمانية» التي تلقاها الرئيس أوباما، بخصوص التدخل في ليبيا، أمراً مفاجئاً. فهي تمثّل ـــــ ظاهرياً على الأقل ـــــ انعكاساً منطقياً لتصاعد تلك النزعة الانعزالية. لكنّني شخصياً لم أكن أتوقع أن يؤدي الاقتراع إلى تلك النتيجة (295 صوتاً جمهورياً، مقابل 123 ديموقراطياً). ولو قيض لي أن أدخل رهاناً، لقامرتُ، من دون أدنى شك، بكل ما أملك. إنّ مجلس النواب سيصدّق على مقترح «التدخل المحدود» في ليبيا!
لماذا مثل هذه المجازفة؟ لأنّني كنت أعتقد جازماً بأنّ رفّة فراشة فرنسية في القدس المحتلة، من شأنها أن تفرز إعصاراً سيقلب الأمور 180 درجة في مجلس النواب الأميركي! لستُ الوحيد الذي راهن على ذلك، فقد نقل مقربون عن عرَّاب «الفلاسفة الجدد» الفرنسيين، برنار هنري ليفي، قبل 3 أسابيع من موعد التصويت في مجلس النواب الأميركي، أنّه يعتزم أن يلقي بكلّ ثقله للتأثير في نتيجة الاقتراع، بما يخدم «أصدقاءه» في المجلس الوطني الانتقالي الليبي.
ماذا فعل ليفي؟ طار إلى القدس المحتلة، في 2 حزيران/ يونيو الماضي، للقاء «صديقه» بنيامين نتنياهو، وأكّد له، في حضور جمع غفير من الصحافيين (لا يخلو أي تحرك لـ«الفيلسوف الجديد» من مثل هذا الحضور الإعلامي المكثف، حتى أيام حصار سراييفو!): «جئتُ لأحمل لك رسالة شفوية من المجلس الوطني الانتقالي بأنّ النظام المقبل في ليبيا سيكون حريصاً على أمن إسرائيل، بالقدر ذاته الذي سيحرص على ضمن العدالة للفلسطينيين». وأضاف: «إنّ المجلس الانتقالي للثوار طلب مني إبلاغكم أنّ النظام الديموقراطي الآتي في ليبيا يعتزم إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل».
يستطيع السيد مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي، أن ينفي بكلّ ما يملك من قوة أن يكون قد كلّف الفيلسوف الفرنسي المتصهين إيصال مثل هذا الرسالة إلى نتنياهو. لكنّه لن يستطيع أن يقنعنا بأنّه حين استقبل «المفكر صاحب الياقة البيضاء» بالأحضان في بنغازي الجريحة، ثم حين رضي باصطحابه إلى قصر الإليزيه، كان يجهل انتماءاته الليكودية. وإنّه لمن العبث أن يتوهم السيد عبد الجليل أنّه يستطيع أن يلعب مع الصهيونية العالمية، التي يمثل برنار هنري ليفي أحد رموزها الأكثر دهاءً وفاعلية، لعبة الخطاب المزدوج، الذي يؤكد في العلن عكس ما يلتزم به في السرّ. فإذا كان ليفي قد التمس الأعذار لـ«أصدقائه» الليبيين، متفهماً الدوافع التكتيكية للتكذيب الذي أصدره رئيس المجلس الانتقالي، بعد يومين من لقائه مع نتنياهو، فإنّ الآلية الليكودية، التي كان بإمكان رفّة جفن منها أن تولّد إعصاراً كفيلاً بقلب موازين القوى في مجلس النواب الأميركي، لم تحرك ساكناً، وتركت الأغلبية الجمهورية تنسف مقترح «التدخل المحدود» في ليبيا.
لقد جرّبت إسرائيل، على مدى نصف قرن، الأنظمة التسلّطية العربية، التي كانت تؤكد في الظاهر عداءها الراديكالي للدولة العبرية، وتغازل الصهيونية العالمية في السر، كلّما هبت عليها رياح الأزمة أو التهديد. وقد كان للطغاة العرب عذر دامغ، يبرّر مثل ذلك الخطاب المزدوج، لكونهم يجثمون بالقوة على صدور شعوب لا تطيقهم. أما «الأنظمة الديموقراطية» العربية، التي ستخرج من رحم الثورات الشعبية الحالية، فإنّها تمتلك من الشرعية والشعبية ما يجعلها في غنى عن ذلك. لذا، لن ترضى منها إسرائيل والأوساط الليكودية العالمية بأي خطاب مزدوج، وسينبغي لها أن تُسقِط ورقة التوت علناً، إذا رغبت ـــــ كما هي حال المجلس الوطني الانتقالي الليبي، في ما يبدو ـــــ بأن تغازل الصهيونية.
ليس القصد هنا «تخوين» المجلس الانتقالي الليبي، أو الدفاع عن نظام الطاغية المخبول معمر القذّافي، الذي أعتقد أنّ أحسن خدمة يمكن أن يقدّمها للشعب الليبي ـــــ كما كتب رئيس تحرير «جون أفريك»، فرانسوا سودان، أخيراً ـــــ أن يختفي بلا رجعة في عاصفة رملية. ثم ألم يسع «الأخ العقيد» نفسه، في بداية الثورة، إلى مغازلة الصهاينة، أملاً بأن يصدوا عنه قوات الناتو، فصرّح في إحدى خطبه التراجي ـــــ كوميدية أنّ انهيار نظامه سيسقط الجدار الحامي للغرب من المهاجرين والتطرف والقاعدة، وأنّ التهديد الذي سينجم عن ذلك سيطال أمن إسرائيل!
لكن، حيال الصلات الخطرة والمشبوهة لبعض ممثلي الثورة الليبية، لا يسع المرء إلا أن يردّد مقولة هنري الرابع: «اللهم احمني من شر أصدقائي، أما أعدائي فإنّي كفيل بهم». ما من شك في أنّ الشعب الليبي كفيل بحماية الثورة من أعدائها، في الداخل والخارج. لكن من يحمي المجلس الانتقالي للثورة الليبية من كيد أصدقاء السوء، على شاكلة برنار هنري ليفي؟

* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس