بعد أربع سنوات من «الحرية الأطلسية» في ليبيا، لا تزال المساعي الدولية لجمع الفرقاء السياسيين الليبيين من أجل بناء دولة ليبية بحكومة واحدة وجيش واحد لتتسنى لها محاربة «الدواعش» الذين اتخذوا من مدينة سرت مكاناً لإقامتهم ومنطلقاً لتمددهم. وها هو اليوم يستغل الإرهاب عدم وجود دولة، لكي يستوطن بصورة دائمة في ليبيا، بل إنه لم يعد محصوراً داخل الحدود الليبية إذ خرج عن السيطرة وبدأت سيوله تتسع وتصبح أكثر قوة في ضرب دول الجوار، لا سيما في تونس.
فليبيا باتت المقر الرسمي للإرهاب والمصدر له في آن معاً. ولهذا نخلص إلى القول إن ليبيا اليوم، وبخاصة المناطق الشرقية والمناطق الجنوبية منها، أصبحت مجالاً حيوياً لتنظيم «داعش» الذي يستغلّ هذه الجغرافيا ذات التضاريس الجبلية في الشرق، والصحراوية الشاسعة في الجنوب، للقيام بالتدريب وإرسال الإرهابيين باتجاه دول الجوار الأمر الذي يفرض ضرورة العمل على أن يستعيد المجتمع الليبي سيطرته على حدوده وأن يسترد سيادته على أقاليمه الثلاثة ضماناً لوحدة أراضيه ووحدة مجاله الترابي والجغرافي.

الغرب لن يتدخل،
ولا حلف «الناتو» لحماية المدنيين من الإرهاب



ليبيا تتشظى ببطء لتتناثر قبائل «مستقلة» متصارعة إلى ما لا نهاية. فالإرهاب يستوطن في ليبيا التي بلغت مرحلة معينة من التفكك، ومن ضعف السلطة السياسية، ومن غياب المؤسسات التمثيلية إلى درجة لم يعد مسكوتاً عنها لأنها تشكل معضلة بالنسبة لليبيين أنفسهم وحتى إلى جيرانهم الأقرب والأبعد. ويمكن القول إن معظم القيادات للتنظيمات الإرهابية في منطقة المغرب العربي، أصبحت موجودة في ليبيا منذ عام 2012، أمثال الجزائري المختار بلمختار، زعيم «كتيبة الموقعين بالدم» في شمال مالي، وأبو عياض التونسي، زعيم تنظيم «أنصار الشريعة». وقد برز تغيراً في استراتيجية «داعش» لجهة الاستيطان في ليبيا، لا سيما بعد الانتشار الكبير للتنظيمات الجهادية داخل ليبيا وإحكام سيطرتها على الكثير من المدن مثل درنة، وسرت، وصبراته، وجنوب سبها التي أصبحت تحت سلطة التنظيمات الجهادية بنسبة 100%.
إن وجود أكثر من 12 كتيبة في أرجاء ليبيا تابعة لـ«داعش» استطاعت أن تخضع مدن كاملة لسيطرتها وهي في اتجاه العاصمة طرابلس الآن بعد وصول المجاهدين الليبيين من سوريا، في ظل وجود قيادات عالمية إرهابية بين صفوفها، وبالتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، جعلها تفكر في استراتيجية جديدة تمكنها من التعاون مع أميركا، بدلاً من ضرب مصالحها وهي استراتيجية «المجاهدين التائبين». من هنا كان لقاء السفيرة الأميركية ديبورا جونز مع عبد الحكيم بلحاج، وعبد الوهاب القايد، كما لقاؤها مع قيادات إرهابية بالشرق الليبي؛ وذلك بهدف بسط نفوذهم على الأراضي الليبية، من هنا كان خالد الشريف القيادي بـ«الجماعة الليبية المقاتلة» وكيلاً لوزارة الدفاع ثم وزيراً للدفاع بعد ذلك، وعبد الحكيم بلحاج وزيراً للداخلية والهدف من المساعدة الأميركية غير المعلنة للتنظيمات الجهادية في ليبيا يحتمل الكثير.
أولاً، ربما تهدف أميركا من ذلك حماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة بمهادنة «داعش» على الأقل في الوقت الحالي.
ثانياً، احتمال آخر تمكين «داعش» في ليبيا يعد إحياء لمشروع «الشرق الأوسط الجديد» بعد ضربه بانتفاضة 30 حزيران 2013 في مصر. من هنا كان بقاء هذا التنظيم الإرهابي والتكفيري آمناً مُطْمَئِنًا في ليبيا، وغض الطرف عن إمارة درنة، وتسويق نموذج الإسلام الراديكالي مرّة أخرى عبر أدوات جديدة بعد فشل الإخوان في مصر من خلال ما يسمى بـ«جيش مصر الحر»، وبالتالي القيام بعمليات إرهابية من وقت إلى آخر في مصر ومحاولة إفشال الدولة مع تغذية الخلافات في الجزائر بعد نجاح بوتفليقه بطريقة أثارت شكوك الجزائريين وسخريتهم ما ينبئ باضطرابات سياسية وأمنية و«ربيع عربي» جديد، أو أن أميركا تبحث عن ذرائع لعمل فرع للقيادة الأميركية (الأفريقية) أفريكوم في ليبيا، لا سيما أن طلب الولايات المتحدة بإقامة قاعدة عسكرية ثابتة في كل من الجزائر وتونس، جوبه بالرفض من السلطات المعنية.
هناك إجماع لدى الباحثين العرب على أن الجماعات الجهادية في ليبيا جميعها منبثق عن جماعتي «التوحيد والجهاد» و«الجماعة الليبية المقاتلة»، حيث أصبحت مجموعة شباب درنة تمثل القيادة المركزية للتنظيمات الجهادية في ليبيا، لأنها تحتوي على مراكز للتدريب ومخابئ للسلاح، فضلاً عن أن طبيعة المكان تشبه جبال كابول في أفغانستان، ويقودها مختار بلمختار وسفيان بن قمو وعبد الحكيم الحصادي. وهناك عوامل تساعد التنظيمات الإرهابية على التغلغل في ليبيا، منها طبيعة المجتمع الليبي البسيطة وميله العام إلى عدم التعامل مع السلطة المركزية، وعلاقته الاجتماعية المترابطة، وجغرافية ليبيا المترامية الأطراف، وهيمنة البنية العشائرية. إذ لو أن أحداً من العائلات تطرف فسيلحق به أخوه وابن عمه. ولهذا فالتطرف ينمو ويتوغل بأسرع مما يظن الكثير خصوصاً أن البديل المطروح للجماعات الإرهابية هو البديل الليبرالي الفج، وهو ما لا ينسجم مع العقل الجمعي لليبيين، لذلك فالجماعات المتطرفة تلقى قبولاً أكثر داخل المجتمع الليبي؛ لأن خيارته محدودة ما بين نخبة ليبرالية تربت في الغرب وهي قليلة جداً وليس لها أي وجود داخل الشارع الليبي وبين الجماعات الإرهابية التي اكتسبت ولاء الليبيين باسم الدين أو الولاء للقبيلة.
وفي هذا التوقيت، وتزامناً مع إعلان الرغبة في السيطرة على العاصمة، تسعى «المجموعات التكفيرية الإرهابية» لا سيما «داعش» إلى جعل ليبيا دولة جهادية في المنطقة واتخاذها مركزاً لتصدير الإرهاب إلى دول الجوار الجغرافي، لا سيما مصر وتونس والجزائر. ففي ظل سيطرة الإرهابيين، والميليشيات السلفية المسلحة، تحوَّلَتْ ليبيا تدريجياً إلى دولة فاشلة، فالسلاح أصبح اللغة السائدة بعد أن صمّ الجميع آذانهم عن لغة الحوار الوطني، لا سيما أن الأجندات الخاصة التي تعمل من أجلها «المجموعات الإسلامية الإخوانية والتكفيرية الإرهابية» تخدم الأجندات الأجنبية، وتتناقض كلياً مع المصلحة الوطنية الليبية. وبالطبع، هناك تعارض بين الأجندة الوطنية والأخرى الأجنبية. الأولى تهدف للاستقرار والثانية لمصالحها، ويأتي النفط في مقدمة هذه المصالح، وستحصل عليه بالاستقرار أو بالحرب. فهناك استحالة للحكم في «دولة» هي بالكامل أصبحت تحت سيطرة إرهاب الميليشيات. هذه الميليشيات لن تتورع عن إسقاط أية حكومة إذا لم تمرر أجنداتها «بطريقة ديمقراطية» تحت سقف هذه الحكومة.
هل يشكل إنقاذ ليبيا عن طريق التدخل العسكري الجديد من قبل الغرب للقضاء على الإرهاب في ليبيا، وهو صانعه وصاحب المصلحة الأكبر فيه، كما تطالب بذلك دول الجوار العربية وغير العربية؟
الغرب لن يتدخل، ولا حلف «الناتو» لحماية المدنيين من الإرهاب ولا لحماية دول الجوار. الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة تريد السيطرة على النفط، وهو الآن في الحالة الليبية تحت سيطرة الشركات الأميركية. ففي عهد القذافي كانت عائدات النفط تدرُّ على ميزانية الدولة أموالاً تتجاوز قيمتها الـ60 مليار دولار سنوياً (99% من دخل الحكومة) بالتوازي مع 200 مليار دولار عوائد خارجية. اليوم ليبيا على حافة الإفلاس لأن آبار وموانئ النفط تحت احتلال الميليشيات الخاضعة بدورها لسلطة شركات النفط الأميركية والفرنسية. ربع عدد الشركات الأجنبية التي تستغل النفط الليبي هي شركات أميركية (كونوكوفليبس- ماراثون- هيس- أوكسيدنتال) وهي تسيطر بشكل مباشر على نصف حقول النفط الليبي، وإنتاج النفط اليومي - التابع للدولة - تراجع من 1.4 مليون برميل إلى أقل من 160 ألف برميل.
* كاتب تونسي