سال مداد كثير حول جريمة «الأركانة» في مراكش، وانخرط الجميع في تحليل ذلك الحادث الإرهابي وأهدافه وأبعاده السياسية والاقتصادية ومغزى التوقيت. توقيت اختاره الإرهابيون لتوجيه رسالة بلا معنى، في زمن يقظة الشعوب وصحوتها. وشملت النقاشات انعكاسات هذا الفعل الإرهابي على السياحة الوطنية، وعلى صورة المغرب في الخارج، المطبوعة بعامل الاستقرار، بالمقارنة مع ما تموج به المنطقة العربية من توترات...والأهم في معظم القراءات المقدمة، هو التعبير بوضوح على عدم تأثر أجندة الإصلاحات الوطنية بذلك الحادث، وعدم تكرار الأخطاء المرتكبة بعد صدمة التفجيرات الإرهابية بالدار البيضاء ليلة 16 مايو/ أيار 2003، التي خلفت حصيلة ثقيلة من الانتهاكات، محفوفة بالكثير من الألغاز لم تكشف حقيقتها بعد.
حاول البعض بناء فرضيات معينة حول الجهة التي تقف وراء هذا الفعل الإجرامي، وهو سؤال مشروع بالنظر إلى الظرفية الاستثنائية التي يعيشها المغرب. فمن جهة، هناك عرض إصلاحي تقدمت به أعلى سلطة في البلاد من أجل مراجعة الدستور، وهناك قرارات سياسية تحمل دلالات معبرة من قبيل الإفراج عن المعتقلين السياسيين الخمسة، وبداية تململ ملف المعتقلين على خلفية قانون الإرهاب، معظمهم من التيار السلفي. ومن جهة أخرى، هناك استمرار لدينامية الاحتجاجات الشعبية التي أطلقتها حركة 20 فبراير/ شباط، على أرضية مجموعة من المطالب التي لم يستجب لها بعد بالكامل. خلق ذلك تدافعاً سياسياً غير مسبوق، يبدو في ظاهره حراكاً سياسياً مدنياً هادئاً، لكنّه يخفي صراعاً سياسياً قوياً يهدد مراكز نفوذ قوية داخلية وخارجية لها مصالح سياسية واقتصادية كبيرة. ومن شأن التقدم في الإصلاحات الحقيقية أن يمسّ جملة من المصالح غير المشروعة لهذه المراكز.
وبالفعل، نجحت دينامية 20 فبراير/ شباط في إعطاء دفعة قوية لفتح العديد من الملفات الشائكة وتحريك أخرى: ملف الإصلاح الدستوري، ملف الاعتقال السياسي، ملف السلفية الجهادية، مركز تمارة السري، متابعة تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2009، محاكمات بعض كبار المسؤولين في قطاعات مختلفة، المطالبة بإبعاد كلّ من فؤاد عالي الهمة ومحمد منير الماجيدي عن المحيط الملكي، المطالبة بمحاكمة رموز الفساد والمسؤولين عن ارتكاب جرائم الاختطاف والتعذيب في حق المواطنين وخاصة من أصحاب الاتجاه السلفي، المطالبة بالعدالة الاجتماعية وتوفير شروط العيش الكريم للمواطنين...
ولذلك، فقد توجهت أصابع الاتهام لدى البعض لتعزيز فرضية الإرهاب الداخلي الذي يستهدف وقف هذا المد المطلبي، وتوجيه الرأي العام ووضعه أمام أولوية الاستقرار، ولو على حساب الديموقراطية.
ليس المهم، في نظري، من قام بتلك العملية الإجرامية، فخريطة المصالح المهددة بالديموقراطية في المغرب معقدة جداً، يتقاطع فيها الداخلي بالخارجي. المهم الآن هو أنّ الفعل الجرمي فعل قائم، ومن المؤكد أنّ من قام به، في هذا التوقيت، يهدف إلى التأثير على المزاج السياسي العام الذي تفاعل مع التحوّلات الجارية في العالم العربي بطريقة ذكية وإيجابية. فمن جهة، هناك احتجاجات عقلانية ترفع شعارات محسوبة يستطيع النظام السياسي أن يستجيب لها، ومن جهة أخرى هناك بداية إنصات لتلك المطالب وتفاعل ملموس لتقديم أجوبة مغايرة لما هو مطروح في الساحة العربية.
نعم، كلّ شيء لا يزال في بدايته، وهو مفتوح على جميع الاحتمالات، لكن احتمال أن تنتصر إرادة المطالبين بالإصلاح يبدو أقوى، وخاصة مع الاستجابة الاستباقية لمطلب مراجعة الدستور، بطريقة سريعة تعكس إمكان انخراط المؤسسة الملكية في دينامية 20 فبراير/ شباط والتفاعل الكامل مع مطالبها. مطالب لم تتضمن شعار إسقاط النظام، لكنّها متشبثة بإمكان التغيير في ظلّ الاستمرارية: استمرارية النظام الملكي بوظائفه الحيوية التي لا ينبغي أن تصطدم مع مقومات النظام الديموقراطي، كما هو متعارف عليها دولياً. ولذلك، يصر المحتجون على مطلب الملكية البرلمانية، ويواصلون ضغطهم بواسطة المسيرات والوقفات، حتى بعد خطاب 9 مارس/ آذار، حتى يكون مشروع الدستور المرتقب منسجماً مع معايير النظام الديموقراطي البرلماني الذي يجعل السلطة بيد الإرادة الشعبية، ويقرن السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة والعقاب.
في ذلك السياق، جاءت أحداث مراكش، وقد نجح الإرهابيون في ملء الصورة لبضعة أيام، ونجحوا في التشويش على جدول الأعمال، وذلك بإقحامهم لنقطة لم تكن مدرجة منذ البداية. ومن شأن الانجرار في مناقشة ذلك الموضوع أن يؤثر بشكل أو بآخر على باقي النقاط.
أعتقد بأنّنا كمواطنين يتطلعون إلى ديموقراطية حقيقية، ويؤمنون بأنّنا بصدد مرحلة تاريخية، مرحلة التغيير الديموقراطي العميق، لسنا معنيين الآن بمن يقف وراء تلك الأحداث، فالتاريخ كفيل بالإجابة عن السؤال، والحقيقة ستظهر في المستقبل، طال الزمان أو قصر. المهم الآن هو أن لا تضيع البوصلة الحقيقية، وأن تظل صورتها واضحة كما انطلقت يوم 20 فبراير/ شباط، بل المطلوب اليوم المزيد من التوضيح والتدقيق في المطالب، وخاصة من طرف المكونات السياسية التي تدعم حركة 20 فبراير/ شباط.
الآن، لا ينبغي أن نكثر الحديث عن حادثة «الأركانة»، وعلينا أن نستكمل جدول الأعمال المتمثل في الاستمرار بالاحتجاج الشعبي السلمي المتحضر، والاستمرار في المطالبة بإسقاط رموز الفساد، والاستمرار في المطالبة بتنظيف المحيط الملكي من الشخصيات الفاسدة، والاستمرار في المطالبة بعدم جواز الجمع بين السلطة والثروة. كذلك يجب ان نستمر في المطالبة بمعرفة حقيقة من كان وراء أحداث 16 مايو/ أيار، وفي المطالبة بضرورة الإفراج عن المعتقلين بسبب الرأي والاعتقاد على خلفية قانون مكافحة الإرهاب، والمطالبة ببدل الضرر الذي لحق بهم من جراء سنوات من الاعتقال بعد مسلسل من الاختطاف والتعذيب. وكذلك الاستمرار في المطالبة بإلغاء المعتقل السري السيئ الذكر «تمارة»، والضغط على الفرق البرلمانية للاستجابة لمقترح تأليف لجنة تقصي الحقائق الذي تقدم به فريق العدالة والتنمية بقصد إكمال النصاب المطلوب.
هذا بعض من جدول الأعمال الذي رسمته دينامية «20 فبراير»، وأيّ تشويش عليه هو انتصار لمنطق الإرهاب، ووقوع في فخ الإرهابي. إنّ الإرهابي يقدم خدمة جليلة للاستبداد، وتحت شعار مكافحة الإرهاب، يزداد الطلب على الاستبداد بدعوى الاستقرار، فكلاهما يغذي الآخر، وأحدهما يقتات على الآخر، فهما وجهان لعملة واحدة.
فبقدر ما ندين الإرهاب ونمقته، بقدر ما نكره الاستبداد ونرفضه. وكما تحررنا يوم 20 فبراير/ شباط من عقدة الخوف من الاستبداد، ونزلنا إلى الشارع للمطالبة بالإصلاحات، علينا أن نتحرر من عقدة الخوف من الإرهاب ونستكمل جدول الأعمال.

* باحث وعضو المجلس الوطني
لحزب العدالة والتنمية المغربي