لن نعرف المدى الذي بلغه «تطبيع» الجمهور الأوروبي مع أحزاب أقصى اليمين، التي ترتكز أجندتها أساساً، وقبل أي شيء آخر، على العداء للمهاجرين والانتصار لـ «الثقافة القومية»، حتى تظهر نتائج انتخابات الأقاليم في فرنسا أوائل الشهر المقبل. تتنبأ التحليلات بأن حزب «الجبهة القومية» المتطرّف سيسجّل انتصارات جديدة في هذه الدورة، بعد أن حاز المركز الأول في الانتخابات الأوروبية قبل أشهر حاصداً ربع الأصوات على المستوى الوطني.
قائدة «الجبهة الوطنية»، مارين لوبين، تملك حظوظاً كبيرة للفوز برئاسة المجلس الاقليمي في مقاطعات الشمال الفرنسي، فيما ابنة اختها ماريون ــــ ماريشال لوبين تتقدّم لمنصب مماثلٍ في الجنوب (ماريون، حفيدة مؤسس «الجبهة»، هي أحد الوجوه الصاعدة في الحزب المتطرف، وواجهته الشابة و»التلفزيونية»، وقد كانت أصغر نائبٍ يتم انتخابه في تاريخ فرنسا الحديث حين وصلت الى المجلس عام 2012 وعمرها 22 سنة)؛ فيما أحد أهم منظري الحزب بصورته الجديدة، «المقبولة» و»المحترمة»، فلوريان فيليبوت، يتحضر لخوض المعركة في الشمال الشرقي.
تأتي هذه التطوّرات في اطار أوروبي يشهد صعوداً لأحزابٍ كانت تعتبر، الى أمدٍ قريب، «عنصرية» و»غير مقبولة» و»نيو نازية»، فصارت تتصدر نتائج الانتخابات وتحجز مكاناً في قلب المؤسسة السياسية: الحزب الديمقراطي السويدي، الذي كان على هامش الحياة السياسية، قفز الى المركز الثالث في الانتخابات الأخيرة؛ أما «حزب الشعب» الدنماركي، وهو لا يقل عنصرية عن «الجبهة الوطنية» في فرنسا، فقد وضعته انتخابات الصيف الماضي في المركز الثاني، وهذه النزعات لا تقتصر على شمال اوروبا (في الشرق، اليمين المتطرف يحكم ــــ اصلاً ــــ في عدة دولٍ، على الرغم من قلة عدد المهاجرين والمسلمين فيها).
قد يعتبر البعض أن هذه الحالة تعبّر عن ارتفاعٍ محدث في منسوب العنصرية والعدائية لدى الجمهور الأوروبي، ويتبرّع آخرون بنسبها الى هجمات «داعش» في باريس وغيرها، وسلوكيات المهاجرين والخوف من اللاجئين، غير أنّ هذا الميل، على المستوى الشعبي، لم يبدأ البارحة، وليس نزعةً جديدة أو مرتبطة بأحداثٍ آنية، بل إن التغيير الأساسي الذي تشهده أوروبا الغربية اليوم هو على المستوى المؤسسي فحسب (نفوذ الأحزاب وتوزّعها السلطة ومقبوليتها ضمن المؤسسة السياسية) وليس انقلاباً في الرأي العام. كلّ ما في الأمر هو أن أحزاب اليمين «التقليدي» كانت، الى زمنٍ قريب، تحصد أصوات هذه الفئة «القومية»، فصارت الأحزاب المتطرفة، اليوم، تنبري لتمثيلها رسمياً.
عملية «إعادة تأهيل» الأحزاب المتطرّفة التقطها مقالٌ أخير للأكاديمي هيو ماكدونالد في مجلة «جاكوبين» اليسارية عن «الجبهة الوطنية» ومارين لوبين. قامت «الجبهة» في السنوات الأخيرة، عن قصدٍ، باتّباع سياسة أسمتها «نزع الشيطنة» لجعل الحزب المتطرف مقبولاً في أعين الإعلام والمجتمع الوطني، و»تنظيفها» من مقولات وشخصيات مستفزّة، كانت تنزع الشرعية عن خطابها بلا أن تقدم لها مكاسب انتخابية وشعبية. عملية «إعادة التأهيل» هذه لم تعنِ تطهير الحركة من الخطاب العنصري ضد المهاجرين وذوي الأصول العربية، بل أن الكاتب يلاحظ أن خطاب مارين لوبين يشكّل، في سماته الأساسية، استمراراً لخطاب والدها طوال السنين الماضية. «نزع الشيطنة» مثّلت، في الواقع، تأصيلاً لكراهية الأجانب مقابل التخلي عن بعض المواقف الحادّة والعقد التاريخية التي طبعت الجيل المؤسس الذي يمثله والدها (وبعضه كان من داعمي التيار البيتاني أثناء الاحتلال الألماني، وأكثرهم يكره ديغول بسبب انسحابه من الجزائر).
ينقل ماكدونالد عن نائب رئيس الجبهة، لويس آليوت، توصيفه لعملية «التطهير» هذه ولحدودها: «نزع الشيطنة يتعلق حصراً بمسألة العداء للسامية … السقف الزجاجي الوحيد الذي اختبرته (خلال العمل السياسي) لم يكن موضوع المهاجرين أو الاسلام، بل ان نزعة العداء للسامية هي التي تمنع الناس من التصويت لنا. هذا كلّ شيء. في اللحظة التي تتخلص فيها من هذا الحاجز الايديولوجي ستتهاوى كل الحواجز الأخرى… مارين لوبين توافق على هذا… وهي لا تفهم لماذا لا يرى أبوها والآخرون هذا العائق». بمعنى آخر، يكفي أن يتوقّف الكلام ضدّ اليهود، وأن تنادي «الجبهة» بالمبادىء «الجمهورية» الفرنسية (بحسب تفسيرها لها)، حتى تصير مقبولة ومحترمة مهما غالت في كراهيتها للعرب. المشكلة، اذاً، ليست في العنصرية كمبدأ، بل «ضد من» توجّه هذه العنصرية.
بدلاً من فهم هذه التغيرات البنيوية في المزاج الأوروبي، وأسبابها الذاتية الكثيرة المنابع، يقوم بعض العرب بلبس «النظارات» العنصرية نفسها التي تلوّن رؤية اليمين الأوروبي لمجتمعه، ويستبطن منطقه ويؤكد على مخاوفه و»يتفهمها» ويسلّم بها (عقلانية كانت أم مجنونة)، فيصير العداء للعرب «مفهوماً» بسبب جرائم «داعش»، وكره المهاجرين «نتيجة» لسلوكهم وبطالتهم وثقافتهم. كأن هناك علاقة سببية اجبارية بين أن تحصل جريمة ما (سينتمي مرتكبوها ــــ حكماً ــــ الى جماعة معينة) وبين أن تلتهب العنصرية ضد هذه الجماعة. عانى العراقيون، لسنوات، من آلاف التفجيرات يومياً، تستهدف أسواقهم وأطفالهم ومعابدهم، ولم ينقضّوا على المناطق التي تنطلق منها السيارات المفخخة ويبادلوا الجرائم بجرائم. بعد انفجار الضاحية، لم يقم اللبنانيون (وهم ليسوا أبطال العالم في التسامح ونبذ العنصرية) بإحراق مخيمات اللاجئين السوريين، كما فعل عنصريون فرنسيون بعد هجمات باريس، أو المطالبة بطردهم من البلد. التفسير العنصري للظواهر الاجتماعية ــــ سواء كانت الثقافة والتدين أم البطالة والسرقة والإرهاب ــــ لا يجري وينتشر الّا لأنّ الجمهور عنصريّ أصلاً، ولديه استعداد لتقبّل هذه الرؤى، وتفسير العالم من خلالها. وأي مبحثٍ في صعود الفاشية في اوروبا يجب أن ينطلق، أساساً، من سياق الثقافة والسياسة في أوروبا المعاصرة، وليس من سلوك المهاجرين.